بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام المحقق أبو عبد الله ابن قيم الجوزية: (فصلمبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر:
قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}.
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ: (والله إنِّي لأحبُّك؛ فلا تنسَ أن تقول دُبُر كلِّ صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
وليس المرادُ بالذكر مجرد الذكر اللسان, بل الذكر القلبي واللساني, وذكره يتضمن ذكرَ أسمائه وصفاته, وذكرَ أمره ونهيه وذِكْرَهُ بكلامه، وذلك يستلزم معرفتَهُ والإيمان به وبصفات كماله ونعوتِ جلاله والثناء عليه بأنواع المدح, وذلك لا يتمُّ إلا بتوحيده.
فذكره الحقيقيُّ يستلزم ذلك كلَّه ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه.
وأما الشكرُ فهو القيامُ بطاعته والتقرُّبُ إليه بأنواع محابِّه ظاهراً وباطناً.
وهذان الأمران هما جِماع الدين؛ فذكره مستلزمٌ لمعرفته, وشكره متضمنٌ لطاعته.
وهذان هما الغايةُ التي خَلقَ لأجلها الجنَّ والإنس والسماوات والأرض، ووضع لأجلها الثواب والعقاب، وأنزل الكتب, وأرسل الرسل, وهي الحق الذي به خُلقت السماواتُ والأرض وما بينهما, وضدُّها هو الباطل والعبث الذي يتعالى ويتقدس عنه, وهو ظن أعدائه به.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ( 38 ) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ}.
وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآَتِيَةٌ}.
وقال: بعد ذكر آياته في أول سورة يونس: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ}.
وقال: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}.
وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}.
وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}.
وقال: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمً}.
وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
فثبت بما ذُكِر أن غاية الخلق والأمر أن يُذْكَرَ وأن يُشكر؛ يُذْكَر فلا يُنْسى، ويُشكر فلا يُكْفَر.
وهو سبحانه ذاكرٌ لمن ذكره، شاكرٌ لمن شكره؛ فذِكْرُه سببٌ لذِكره, وشُكرُه سببٌ لزيادته من فضله.
فالذِّكر للقلب واللسان.
والشكر للقلب محبةً وإنابةً, وللسان ثناءً وحمداً، وللجوارح طاعةً وخدمةً).
"الفوائد" ( ص 185 - 188 )