كتاب الإيمان
فصل (1) .
قال البخاري : الإيمان قول وفعل .
قال زين الدين ابن رجب رحمه الله .
وأكثر العلماء قالوا : هو قول وعمل . وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث . وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين عليه وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضا .
وقال الأوزراعي : كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل وحكاه غير واحد من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة . وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة : الفضيل بن عياض ، ووكيع بن الجراح .
وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل : الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، وابن المبارك ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد(2) ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور وغيرهم حتى قال كثير منهم : إن الرقبة المؤمنة لا تجزىء في الكفارة حتى يؤخذ منها الإقرار وهو الصلاة والصيام ، منهم الشعبي ، والنخعي ، وأحمد في رواية . وخالف في ذلك طوائف من علماء أهل الكوفة والبصرة وغيرهم ، وأخرجوا الأعمال من الإيمان وقالوا : الإيمان : المعرفة مع القول .
وحدث بعدهم من يقول : الإيمان : المعرفة خاصة ، ومن يقول : الإيمان : القول خاصة .
والبخاري عبر عنه بأنه : قول وفعل . والفعل : من الناس من يقول : هو مرادف للعمل . ومنهم من يقول : هو أعم من العمل . فمن هؤلاء من قال : الفعل يدخل فيه القول وعمل الخوارج ، والعمل لا يدخل فيه القول على الإطلاق . ويشهد لهذا : قول عبيد بن عمير : ليس الإيمان بالتمني ، ولكن الإيمان قول يفعل ، وعمل يعمل . خرجه الخلال(3) .
ومنهم من قال : العمل : ما يحتاج إلى علاج ومشقة ، والفعل : أعم من ذلك . ومنهم من قال : العمل : ما يحصل منه تأثير في المعمول كعمل الطين آجرا ، والفعل أعم من ذلك . ومنهم من قال: العمل أشرف من الفعل ، فلا يطلق العمل إلا على ما فيه شرف ورفعة بخلاف الفعل ، فإن مقلوب عمل : لمع ، ومعناه ظهر وأشرف .
__________
(1) اعتاد بن رجب - رحمه الله تعالى - في " كتاب الإيمان " أن يضع كلمة "فصل " بدلا من " باب" وأحيانا يذكر " فصل " ولا يذكر اسم "الترجمة " ، مثل ذلك : باب (4) " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " ، وباب (6) " إطعام الطعام من الإيمان " وباب (7) " من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ، وغير ذلك من الأمثلة ، وأحيانا يذكر كلمة " فصل " ويعقبها بكلمة "باب" ويذكر الترجمة كاملة مثل باب (113) ، وأحيانا يذكر الترجمة داخل الشرح راجع باب (15) ، لذلك وجب التنبيه . .
(2) راجع جل هذه الأقوال في " الشريعة " للآجري (ص : 120-132) .
(3) في " السنة " (1212) وفيه ابن لهيعة .
وهذا فيه نظر ، فإن عمل السيئات يسمى أعمالا كما قال تعالي { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123] وقال { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } [ غافر: 40] ولو قيل عكس هذا لكان متوجها ، فإن الله تعالى إنما ( 177- أ / ف) يضيف إلى نفسه الفعل كقوله تعالى { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا } [ إبراهيم : 45] ، { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد } [ الفجر : 6] { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } ، { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } [ الحج : 18] .
وإنما أضاف العمل إلى يديه كما قال { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } [ يس : 71] وليس المراد هنا الصفة الذاتية - بغير إشكال - وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم عليه السلام . واشتق سبحانه لنفسه أسماء من الفعل دون العمل ، قال تعالى { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107] .
ثم قال البخاري - رحمه الله : ويزيد وينقص . قال الله عز وجل { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح: 4 ] { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13] ، { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } [ مريم : 76] ، { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ محمد : 17] ، { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } [ المدثر : 31] ، وقوله عز وجل { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [ التوبة : 124] وقوله { فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } [ آل عمران : 173] ، وقوله { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } [ الأحزاب: 22] .
زيادة الإيمان ونقصانه قول جمهور العلماء . وقد روى هذا الكلام عن طائفة من الصحابة كأبي الدرداء وأبي هريرة ، وابن عباس (1) وغيرهم من الصحابة . وروي معناه عن علي ، وابن مسعود - أيضا - ، وعن مجاهد ، وغيره من التابعين . وتوقف بعضهم في نقصه ، فقال : يزيد ولا يقال: ينقص (2) وروي ذلك عن مالك ، والمشهور عنه كقول الجماعة(3) . وعن ابن المبارك قال : الإيمان يتفاضل(4) . ، وهو معنى الزيادة والنقص . وقد تلا البخاري الآيات التي ذكر فيها زيادة الإيمان وقد استدل بها على زيادة الإيمان أئمة السلف قديما ، منهم : عطاء بن أبي رباح فمن بعده . وتلا البخاري - أيضا - الآيات التي ذكر فيها زيادة الهدى ، فإن المراد بالهدى هنا : فعل الطاعات كما قال تعالى بعد وصف المتقين بالإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم وبالإيمان بما أنزل إلى محمد و إلى من قبله باليقين بالآخرة ثم قال { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 5 ] ، فسمى ذلك كله هدى ، فمن زادت طاعته فقد زاد هداه .
ولما كان الإيمان يدخل فيه المعرفة بالقلب والقول والعمل كله كانت زيادته بزيادة الأعمال ونقصانه بنقصانها . وقد صرح بذلك كثير من السلف فقالوا : يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية . فأما زيادة الإيمان بزيادة القول ونقصانه بنقصانه : فهو كالعمل بالجوارح - أيضا - ، فإن من زاد ذكره لله وتلاوته لكتابه زاد إيمانه ، ومن ترك الذكر الواجب بلسانه نقص إيمانه .
و أما المعرفة بالقلب : فهل تزيد وتنقص ؟ على قولين : أحدهما : أنها لا تزيد ولا تنقص . قال يعقوب بن بختان(5) : سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن المعرفة والقول : يزيد وينقص ؟ قال : لا ، قد جئنا بالقول والمعرفة وبقي العمل . ذكره أبو الخلال في كتاب " السنة (6) " ومراده بالقول : التلفظ بالشهادتين خاصة . وهذا قول طوائف من الفقهاء والمتكلمين . و القول الثاني : أن المعرفة تزيد وتنقص .
قال المروذي : قلت لأحمد في معرفة الله بالقلب تتفاضل فيه ؟ قال : نعم ، قلت : ويزيد ؟ قال : نعم .
ذكره الخلال عنه (7) ، وأبو بكر عبد العزيز في كتاب "السنة " - أيضا - ، عنه وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلي من أصحابنا في كتاب " الإيمان ، وكذلك ذكره أبو عبد الله بن حامد . وحكى القاضي - في " المعتمد " - وابن عقيل في المسألة روايتان ( عن أحمد ، وتأولا رواية أنه لا يزيد ولا ينقص . وتفسر زيادة المعرفة بمعنيين :
أحدهما : زيادة المعرفة بتفاصيل أسماء الله وصفاته وأفعاله وأسماء الملائكة والنبيين والكتب المنزلة عليهم وتفاصيل اليوم الآخر . وهذا ظاهر لا يقبل نزاعا .
__________
(1) " الشريعة " ( ص : 111) .
(2) انظر " السنة " للخلال 976- 979 .
(3) " السنة " للخلال : (1014) ، و"الشريعة " (ص:11 .
(4) السنة " للخلال _ (101 .
(5) هو يعقوب بن إسحاق بن بختان . له ترجمة في : طبقات الحنابلة " (1/415) .
(6) 1007) .
(7) في " السنة " ، (1004) .
( كذا ، والجادة " روايتين "
والثاني : زيادة المعرفة بالوحدانية بزيادة معرفة أدلتها (177- ب/ف) ، فإن أدلتها لا تحصر ، إذ كل ذرة من الكون فيها دلالة على وجود الخالق ووحدانيته ، فمن كثرت معرفته بهذه الأدلة زادت معرفته على من ليس كذلك . وكذلك المعرفة بالنبوات واليوم الآخر والقدر وغير ذلك من الغيب الذي يجب الإيمان به ، ومن هنا فرق النبي صلي الله عليه وسلم بين مقام الإيمان ومقام الإحسان ، وجعل مقام الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه ، والمراد : أن ينور قلبه بنور الإيمان حتى يصير الغيب عنده مشهودا بقلبه كالعيان (1).
وقد ذكر محمد بن نصر المروزي في " كتابه " أن التصديق يتفاوت وحكاه عن الحسن ، والعلماء (2) وهذا يشعر إجماع عنده .
ومما يدل على ذلك أيضا _ : ما روى ابن وهب : أنا عبد الرحمن بن ميسرة ، عن أبي هانيء الخولاني ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق ، فسلوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم " .
خرجه الحاكم (3) ، وقال : صحيح الإسناد (4)
.فتح الباري
شرح صحيح البخاري
للحافظ زين الدين أبي الفرج ابن رجب الحنبلي
قال زين الدين ابن رجب رحمه الله .
وأكثر العلماء قالوا : هو قول وعمل . وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث . وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين عليه وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضا .
وقال الأوزراعي : كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل وحكاه غير واحد من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة . وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة : الفضيل بن عياض ، ووكيع بن الجراح .
وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل : الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، وابن المبارك ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد(2) ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور وغيرهم حتى قال كثير منهم : إن الرقبة المؤمنة لا تجزىء في الكفارة حتى يؤخذ منها الإقرار وهو الصلاة والصيام ، منهم الشعبي ، والنخعي ، وأحمد في رواية . وخالف في ذلك طوائف من علماء أهل الكوفة والبصرة وغيرهم ، وأخرجوا الأعمال من الإيمان وقالوا : الإيمان : المعرفة مع القول .
وحدث بعدهم من يقول : الإيمان : المعرفة خاصة ، ومن يقول : الإيمان : القول خاصة .
والبخاري عبر عنه بأنه : قول وفعل . والفعل : من الناس من يقول : هو مرادف للعمل . ومنهم من يقول : هو أعم من العمل . فمن هؤلاء من قال : الفعل يدخل فيه القول وعمل الخوارج ، والعمل لا يدخل فيه القول على الإطلاق . ويشهد لهذا : قول عبيد بن عمير : ليس الإيمان بالتمني ، ولكن الإيمان قول يفعل ، وعمل يعمل . خرجه الخلال(3) .
ومنهم من قال : العمل : ما يحتاج إلى علاج ومشقة ، والفعل : أعم من ذلك . ومنهم من قال : العمل : ما يحصل منه تأثير في المعمول كعمل الطين آجرا ، والفعل أعم من ذلك . ومنهم من قال: العمل أشرف من الفعل ، فلا يطلق العمل إلا على ما فيه شرف ورفعة بخلاف الفعل ، فإن مقلوب عمل : لمع ، ومعناه ظهر وأشرف .
__________
(1) اعتاد بن رجب - رحمه الله تعالى - في " كتاب الإيمان " أن يضع كلمة "فصل " بدلا من " باب" وأحيانا يذكر " فصل " ولا يذكر اسم "الترجمة " ، مثل ذلك : باب (4) " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " ، وباب (6) " إطعام الطعام من الإيمان " وباب (7) " من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ، وغير ذلك من الأمثلة ، وأحيانا يذكر كلمة " فصل " ويعقبها بكلمة "باب" ويذكر الترجمة كاملة مثل باب (113) ، وأحيانا يذكر الترجمة داخل الشرح راجع باب (15) ، لذلك وجب التنبيه . .
(2) راجع جل هذه الأقوال في " الشريعة " للآجري (ص : 120-132) .
(3) في " السنة " (1212) وفيه ابن لهيعة .
وهذا فيه نظر ، فإن عمل السيئات يسمى أعمالا كما قال تعالي { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123] وقال { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } [ غافر: 40] ولو قيل عكس هذا لكان متوجها ، فإن الله تعالى إنما ( 177- أ / ف) يضيف إلى نفسه الفعل كقوله تعالى { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا } [ إبراهيم : 45] ، { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد } [ الفجر : 6] { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } ، { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } [ الحج : 18] .
وإنما أضاف العمل إلى يديه كما قال { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } [ يس : 71] وليس المراد هنا الصفة الذاتية - بغير إشكال - وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم عليه السلام . واشتق سبحانه لنفسه أسماء من الفعل دون العمل ، قال تعالى { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107] .
ثم قال البخاري - رحمه الله : ويزيد وينقص . قال الله عز وجل { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح: 4 ] { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13] ، { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } [ مريم : 76] ، { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ محمد : 17] ، { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } [ المدثر : 31] ، وقوله عز وجل { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [ التوبة : 124] وقوله { فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } [ آل عمران : 173] ، وقوله { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } [ الأحزاب: 22] .
زيادة الإيمان ونقصانه قول جمهور العلماء . وقد روى هذا الكلام عن طائفة من الصحابة كأبي الدرداء وأبي هريرة ، وابن عباس (1) وغيرهم من الصحابة . وروي معناه عن علي ، وابن مسعود - أيضا - ، وعن مجاهد ، وغيره من التابعين . وتوقف بعضهم في نقصه ، فقال : يزيد ولا يقال: ينقص (2) وروي ذلك عن مالك ، والمشهور عنه كقول الجماعة(3) . وعن ابن المبارك قال : الإيمان يتفاضل(4) . ، وهو معنى الزيادة والنقص . وقد تلا البخاري الآيات التي ذكر فيها زيادة الإيمان وقد استدل بها على زيادة الإيمان أئمة السلف قديما ، منهم : عطاء بن أبي رباح فمن بعده . وتلا البخاري - أيضا - الآيات التي ذكر فيها زيادة الهدى ، فإن المراد بالهدى هنا : فعل الطاعات كما قال تعالى بعد وصف المتقين بالإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم وبالإيمان بما أنزل إلى محمد و إلى من قبله باليقين بالآخرة ثم قال { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 5 ] ، فسمى ذلك كله هدى ، فمن زادت طاعته فقد زاد هداه .
ولما كان الإيمان يدخل فيه المعرفة بالقلب والقول والعمل كله كانت زيادته بزيادة الأعمال ونقصانه بنقصانها . وقد صرح بذلك كثير من السلف فقالوا : يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية . فأما زيادة الإيمان بزيادة القول ونقصانه بنقصانه : فهو كالعمل بالجوارح - أيضا - ، فإن من زاد ذكره لله وتلاوته لكتابه زاد إيمانه ، ومن ترك الذكر الواجب بلسانه نقص إيمانه .
و أما المعرفة بالقلب : فهل تزيد وتنقص ؟ على قولين : أحدهما : أنها لا تزيد ولا تنقص . قال يعقوب بن بختان(5) : سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن المعرفة والقول : يزيد وينقص ؟ قال : لا ، قد جئنا بالقول والمعرفة وبقي العمل . ذكره أبو الخلال في كتاب " السنة (6) " ومراده بالقول : التلفظ بالشهادتين خاصة . وهذا قول طوائف من الفقهاء والمتكلمين . و القول الثاني : أن المعرفة تزيد وتنقص .
قال المروذي : قلت لأحمد في معرفة الله بالقلب تتفاضل فيه ؟ قال : نعم ، قلت : ويزيد ؟ قال : نعم .
ذكره الخلال عنه (7) ، وأبو بكر عبد العزيز في كتاب "السنة " - أيضا - ، عنه وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلي من أصحابنا في كتاب " الإيمان ، وكذلك ذكره أبو عبد الله بن حامد . وحكى القاضي - في " المعتمد " - وابن عقيل في المسألة روايتان ( عن أحمد ، وتأولا رواية أنه لا يزيد ولا ينقص . وتفسر زيادة المعرفة بمعنيين :
أحدهما : زيادة المعرفة بتفاصيل أسماء الله وصفاته وأفعاله وأسماء الملائكة والنبيين والكتب المنزلة عليهم وتفاصيل اليوم الآخر . وهذا ظاهر لا يقبل نزاعا .
__________
(1) " الشريعة " ( ص : 111) .
(2) انظر " السنة " للخلال 976- 979 .
(3) " السنة " للخلال : (1014) ، و"الشريعة " (ص:11 .
(4) السنة " للخلال _ (101 .
(5) هو يعقوب بن إسحاق بن بختان . له ترجمة في : طبقات الحنابلة " (1/415) .
(6) 1007) .
(7) في " السنة " ، (1004) .
( كذا ، والجادة " روايتين "
والثاني : زيادة المعرفة بالوحدانية بزيادة معرفة أدلتها (177- ب/ف) ، فإن أدلتها لا تحصر ، إذ كل ذرة من الكون فيها دلالة على وجود الخالق ووحدانيته ، فمن كثرت معرفته بهذه الأدلة زادت معرفته على من ليس كذلك . وكذلك المعرفة بالنبوات واليوم الآخر والقدر وغير ذلك من الغيب الذي يجب الإيمان به ، ومن هنا فرق النبي صلي الله عليه وسلم بين مقام الإيمان ومقام الإحسان ، وجعل مقام الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه ، والمراد : أن ينور قلبه بنور الإيمان حتى يصير الغيب عنده مشهودا بقلبه كالعيان (1).
وقد ذكر محمد بن نصر المروزي في " كتابه " أن التصديق يتفاوت وحكاه عن الحسن ، والعلماء (2) وهذا يشعر إجماع عنده .
ومما يدل على ذلك أيضا _ : ما روى ابن وهب : أنا عبد الرحمن بن ميسرة ، عن أبي هانيء الخولاني ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق ، فسلوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم " .
خرجه الحاكم (3) ، وقال : صحيح الإسناد (4)
.فتح الباري
شرح صحيح البخاري
للحافظ زين الدين أبي الفرج ابن رجب الحنبلي