التصوف في ميزان الوحي والفقه
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ} [النساء: 59]؛ولوجود كثير من التَّنازع رَدََدْنا أمر التّصّوف إلى الله (في كتابه) وإلى الرّسول (في سنّته) فلم نجد لهذه الكلمة أثرًا في الكتاب ولا في السنة ولا في فقه الخلفاء الراشدين للدّين وهم خَيْر مَنْ فَقِهَهُ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرَّاشدين من بعدي، عضّوا عليها بالنّواجذ» رواه أحمد وأبو داود والتّرمذي وابن ماجه والدّارمي وابن حبان وصحّحه.
وفي هذا الحديث: «وإيّاكم ومحدثات الأمور فإنّ كلّ محدثة بدعة، وكّل بدعة ضلالة».
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» رواه البخاري ومسلم؛ فكلّ مَنْ تقرّب إلى الله بشرعٍ لم يأذن به الله بعد قول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]، وبعد انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم فكأنّما يستدرك على الله ورسوله، وكأنّما يزعم نقص الدّين وعدم كمال النّعمة والتّبليغ، وكأنّما يدّعي خيانة فقهاء الأمّة في القرون المفضلة من الصّحابة والتّابعين، وتابعيهم ومنهم الأئمة الأربعة رضي الله عنهم أجمعين بترك الجميع شيئاً من الدّين وعدم تبليغه والدّعوة إليه، أو بجهله، وقد فضّلهم النبي صلى الله عليه وسلم على بقية الأمّة فقال: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم… ثم يكون بعدهم قوم يَشْهدون ولا يُسْتشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون» [متفق عليه].
هذا من حيث العموم، وفيما يلي يحاول الكاتب أن يوفي التّصّوف حقّه بشيء من التّفصيل والله الهادي إلى سواء الصّراط:
أولاً: منشأ التّصوّف:
1 – يرى المؤرّخ والرّياضي والفيلسوف محمد بن أحمد البيروني (ت440هـ) أنّ مَرَدَّ التَصّوف في بلاد المسلمين إلى تصّوف الهندوس في الهند، وقد نشأت وثنيّتهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بألفي سنة وأخذها منهم البوذيّون منذ انفصالهم عنهم بعد ألف سنة من نشأة الهندوسيّة، وأنّ كلمة المتصوف جاءت من كلمة فيلسوف أي: محبّ الحكمة.
والبيروني حري بأن يَشْهد بما عَلِم؛ لطول مُكثِه في الهند يَدْرسُ أحوال أهلها عدد سنين، ولِذِهْنِه الرّياضي ودقّته في البحث ثم في تسجيل نتائج بحثه، ولسعة اطلاعه وطول باعه في المعرفة، يدلّ على ذلك ما ذكره ياقوت عنه (من أن سجلّ مؤلّفاته بلغ ستّين ورقة) وكثرة نقله عنه، (أعلام الزّركلي).
ويدلّ على صحّة استنتاجه أن الله ذكر في كتابه الكريم أنّ النّصارى (قبل المسلمين) نَزَعُوا إلى شيء من المنهج التصوفي وأنّه مما ابتدعه البشر وليس مما شرعه الله فقال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27]، وقال النَبيّ صلى الله عليه وسلم: «لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع» [متفق عليه].
ويدل على صحّة استنتاجه أنّ كثيراً من معتقدات متصوفة الهند وأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم موجودة في متصوفة المسلمين منذ انتهت القرون المفضلة حتى هذا العصر، وشرّها: تعظيم المزارات والمقامات، ووحدة الوجود والفناء في ذات الإله، وأهونها: المِسْبَحَة والرّهبَنَة وضرب الشيش والرقص والطبل والهزّ عند الذّكْر.
2 – وظن بعض العلماء أنّ منشأ التّصّوف من لبْس الصوف وأنكروا على المتصوفة التقرب إلى الله بلبس الصوف والله لم يشرعه قُرْبَة إليه، ورسوله صلى الله عليه وسلم كان يلبس الكتّان وغيره وهو الذي جعله الله {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، ولكن لُبْس الصُّوف والتّقشف بما يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر شكليٌّ تركه متصّوفة العصر وأقبلوا على شهوات البطن والفرج حتى قال بعض منتقديهم:
أقال الله حيث عشقتموه *** كُلُوا أَكْل البهائم وارقصوا لي
ولكن أسوأ ما اتصف به المتصّوفة تعلّقهم بالشبهات حتى اليوم كما يتبيّن بالرجوع إلى شيء من كتبهم ومقالاتهم قريبًا إن شاء الله.
3 – وظنّ بعض المتصّوفة أن كلمة الصوفي جاءت من كلمة الصفّة التي كان يأوي إليها بعض فقراء المسلمين في المدينة النبويّة، وهذا لا يصحّ لُغَة لأن النّسبة إلى الصفة: (صُفّي)، ولا يصحّ شرعاً لأنّ الصفة لم تُميَّز بفضل المكان فالمسجد أفضل منها ولم يُمَيزْ أهلها بالفضل على غيرهم من الصّحابة فلاشك أن الخلفاء الراشدين وكبار فقهاء الصحابة ممن لم يسكن الصفة أفضل منهم، ولم يَأْوِ إليها فقراء المهاجرين تقرّباً إلى الله بسكناها خاصّة، بل لأنّهم لا يجدون غيرها.
ثانياً: حُكم التّصّوف:
1 – يرى بعض المتصّوفة أنّ التّصّوف من الدّين لأنه الإحسان الذي ورد ذكره في حديث جبريل عليه السلام: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»، ولاشك إن الإحسان من الدّين، ولكن لم يعرّفه المَلَك ولا النّبيّ ولا الصّحابي ولا التّابعي ولا أحد من علماء المسلمين في القرون المفضلة بالتّصوف ولا رَبَطه أحد منهم به، وهم جميعا يوافقون المتصوفة على فضل الإحسان ولا يوافقونهم على فضل التّصوف الذي جاء اسمه ومعناه ومبناه بعد القرون المفضلة وما لم يكن دِيْناً في القرون المفضلة فلن يكون ديناً بعدها.
2 – ويرى بعض المتصّوفة أنّ التّصّوف من الدّين لأنه التّزكية التي ورد ذكرها في كتاب الله، وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة: 2]؛ وما يقوله فقهاء الأُمّة المعتدّ بهم عن الإحسان يقولونه عن التّزكية فهي – لاشك – من الدّين وهي التّطهير من الشرك فما دونه من المبتدعات ومن المعاصي كبائرها وصغائرها.
ولم يعرّفها المفسّرون المعتَدُّ بهم بأنّها التّصوف، ولن يقول عاقل ممن بعدهم: أن معنى {يزكّيهم} في سورة الجمعة: (يصوّفهم) ولن يقول عاقل ممن بعدهم: أن معنى {ولا يزكيهم} في سورة البقرة: (ولا يصوّفهم).
3 – وعلى ما تقدم؛ فالمتصوفة يوافقون علماء الشريعة (منذ القرن الأول) على فضل الإحسان والتّزكية ويخالفونهم في اسم التّصوف ومنهاجه وأقواله وأفعاله، بل هم يخالفون الكتاب والسنة في ذلك كلّه (لفظاً ومعنى وعملاً) حسب فهم الصّحابة فمن دونهم في القرون الأولى للآيات والأحاديث.
وكما قال من سبق: إن كان التّصّوف هو الإسلام ففي الاسلام ما يغنينا عنه، وإن كان التّصّوف غير الإسلام فقد قال الله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، فيقال: إن كان الإحسان والتزكية اللذين جاء بهما الوحي هما التصوف (المحْدَث اسمه ومنهاجه والعمل به بعد القرون المفَضّلة) فلا يجوز للمسلم أن يختار لفظاً أو منهجاً أو عملاً ابتدعه الناس على قول ومنهاج وعمل جاء به الوحي من عند الله تعالى على قلب نبيّه صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] فيما دون ذلك، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36]، وإن كان غيرهما فيجب البراءة منه
ثالثاً: منهاج التّصّوف قديماً وحديثاً:
1 – يظنّ بعض من يُحْسِنون الظّنّ بمتصّوفة العصر أنّهم يتبّرءون ممّا نُقِل عن قدمائهم من ألفاظ أو أفعال الكفر والشرك وما دون ذلك من البدع وكبائر الذّنوب مثل قول الحلاج: (ما في الجبّة إلا الله) وقول أبي يزيد: (سبحاني ما أعظم شاني) ونحوهما مما ورد في كتب ومراجع التّصّوف مثل الرّسالة القشيريّة وإحياء علوم الدّين الإشارة إليه، وما ورد في الفتوحات المكيّة لابن عربي وكذلك الفصوص له من كلام صريح يثبت ما نُسِب إليه من اعتقاد وحدة الوجود مثل: (سبحان من أوجد الأشياء وهو عَيْنُها) وكلماتٍ من الكفر لا يحصيها إلا الله، وما أورده الشعراني في الطَبقات عن أئمة التصوف من أقوال وأفعال لا تليق بالصوفي الأمّي فكيف بإمامه في التّصوف، ولو صحّ عنه بعضها لكان إماماً ممّن قال الله فيهم: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} [القصص:41]؛ إن لم يكن تاب قبل الموت.
ولكنك لا تجد فرقاً كبيراً بين خرافات الصوفيّة في (جامع كرامات الأولياء) ليوسف البنهاني (ت: 1350) وبين خرافات الصّوفيّة في طبقات الشّعراني (ت: 973) قبله بأربعة قرون، وتجد الشعراني يَعُدُّ ضلالات ابن عربي (ت: 63 قمّة المعرفة بالله وبشرعه في كتابه: (الكبريت الأحمر في علوم الشيخ الأكبر)، وتجد ابن عربي الملقب بالشيخ الأكبر بين المتصّوفة (حتى اليوم) يقول بمقالة البسطامي (ت:261) في وحدة الوجود، وتجد محمود الغراب في عصرنا هذا يمجد ابن عربي ويذم ابن تيميه (ت:72 (لمخالفته ابن عربي) في كتابه (شرح كلمات الصّوفيّة والرّدّ على ابن تيمية).
بل تجد أحمد عبد الجواد في عصرنا يُسَمِّي الله: (هو) في ذكره (الدّعاء المستجاب) الذي نشره بعض المبتدعة في رابطة العالم الإسلامي، وسَلَفُه في ذلك الحلاج (ت: 309) الذي ألّف كتاباً بعنوان (هو هو)، ولأن الحلاّج أول من ادعى الحلول في نهاية القرن الثالث قُطِّعتْ أطرافه وأُحرِق، وكاد ابن عربي يلقى مصيره. ولكن الغزالي (ت: 505) في إحيائه والقشيري (ت: 465) في رسالته مَهَّدا لقبول التّصوف بخلطهما بين الضّلال والحقّ، وتجد سيّد قطب (ت:1966) يمجّد أحدّية الوجود التي هام بها الصّوفيّة.
2 – ويظنّ من يُحْسن الظّنّ ببعض من نُصبوا أئمة للتّصّوف من
الأقدمين مثل الجنيد البغدادي (ت: 297) ثم الجيلاني (ت: 561) أنّهم
كانوا دعاة إلى السّنة ولكنْ ظهر عليهم الزّهد فظنّهم النّاس متصّوفةً لغَلَبة التّقشف الهندوسي على قدماء المتصّوفة مثل البسطامي والحلاّج، وعامّة صوفّية الدَّرْوَشه.
ولعل هذا هو الحقّ؛ فدعاة السنة لا يمكن أن يكونوا متصّوفة مبتدعة، وكلّ التّصّوف مُبْتَدع (اسمه ورسمه) كما أسلفنا، ولكن النّاس يبتلونهم بالانتساب إليهم لماَ لهُم من ذِكْرٍ في الصّالحين كما ينْتَسِب أكثر الناس للأمة الأربعة رحمهم الله وهو يخالفونهم في أهمّ مناهجهم: الاعتقاد، ولكنّ علماءهم أقرب إلى العدل إذ يبيّنون مخالفتهم أحياناً فيقولون: (الحنفي مذهباً الماتوريدي عقيدة) أو (الشافعي مذهباً الأشعريّ عقيدة) مثلاً.
رابعاً: أمثلة من مقالات المتصّوفة:
1 – (إحياء علوم الدّين) لأبي حامد الغزالي (ت: 505) من خير كتب المتصوّفة وأكثرها أنتشاراً في أيدي النّاس من مختلف الطرق حتى اليوم ولذلك رَأَيْتُ من العدل اختيار بعض الأمثلة منه، وللقارئ الحصول على عشرات بل مئات الأمثلة من كتاب (أبو حامد الغزالي والتّصّوف) للشيخ عبد الرحمن دمشقيّة من علماء لبنان العاملين على منهاج النبوّه:
-وصيّته للصّوفي بأن (يخلو بنفسه في زاوية ويقتصر على الفرائض ولا يُفَرِّق همّه بقراءة قرآن ولا بالتأمّل في تفسير ولا يكتب حديثاً). (3/19).
-دفاعه عن الغِنَاء الصّوفي بقوله: (فاعلم أن السّماع أشدّ تهييجاً لِلْوَجْد من القرآن من سبعة وجوه). (2/299 – 301).
-حكايته عن أبي تراب النخشبي الصوفي أنّه قال لأحد المريدين: (لو رأيت أبا يزيد) فقال المريد: (قد رأيت الله فأغناني عن أبي يزيد) فغضب أبو تراب وقال: (ويلك تَغْتّرّ بالله؟ لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة) قال الغزالي: (فهذه أوائل سلوكهم وأقل مقاماتهم وهي أعزّ موجود في الأتْقِياء من النّاس) (1/356 – 357)، (وأبو يزيد البسطامي من أوّل من نُقِل عنهم القول بوحدة الوجود والفَنَاء من عقائد الوثنية الهندوسية).
-تقسيم التوحيد إلى أربع مراتب؛ أدناها: (القول باللسان والقلب غافل أو مُنِكر، وهي للمنافقين، والثانية: القول باللسان والتّصديق بالقلب كما صّدق به عموم المسلمين، وهي للعَوَامّ، والثالثة: مشاهدة ذلك بطريق الكشف وهي للمقرّبين، والرابعة: أَلاّ يرى في الوجود إلاّ واحداً وهي للصّديقين وتسّميه الصوفيّة: الفناء في التوحيد، وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد). (4/245).
-(فان قُلْتَ: كيف يُتَصَوَّر ألاّ يشاهِدَ إلا واحداً وهو يُشاهِد السّماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة؟.. فهذا من غاية علوم المكاشفات، وأسرار هذا العِلْم لا يجوز أن تسّطر في كتاب.. قال بعض العارفين: إفشاء سرّ الرّبوبيه كفر) (4/246 – 247)، واستدلّ على صحّة ذلك بقول الحلاج للخوّاص: (قد أفنيت عُمْرك في عُمْران باطنك فأين الفناء في التوحيد؟) قال الغزالي: (فكأنّ الخوّاص كان في تصحيح المقام الثالث في التوحيد فطالبه [الحلاّج] بالمقام الرّابع) (4/247)؛ فالغزالي إِذَنْ يرى أنّ الحلاّج الزّنديق صِدِّيق؟
-قوله عن سهل التّسْتري الصوفي: (للرّبوبيّة سِرٌ لو أُظِهر لبطلت النّبوّة، وللنبّوة سرٌّ لو كُشِف لبطل العلم، وللعلماء سِرٌّ لو أظهروه لبطلت الأحكام). (1/100).
قلتُ: ودعوى الأسرار في الدّين فِرْية باطنيّة فقد وصف الله تعالى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بالبيان فقال تعالى: {الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 1]، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وهذه أمثلة قليلة لما في كتابٍ واحدٍ من كتب الغزالي (إحياء علوم الدّين) من الفكر الصّوفي أختمها بمثال واحد من كتابه (مشكاة الأنوار) (19/20) يوكّد رأيه في التّوحيد والكلمة الطّيّبة: (فلا إله إلا الله توحيد العوام و: لا هو إلا هو توحيد الخَوَاصّ)، ولا يزال الغزالي يُلَقَّب: (حُجة الإسلام) إلى هذا اليوم بعد قرون من الانحراف عن الوحي والفقه فيه إلى الفكر.
2 – الفتوحات المكّية وفصوص الحِكَم لابن عربي(ت: 638، ولا يزال يلقّب الشيخ الأكبر حتى اليوم) من أشهر كُتُبه وأكثرها انتشاراً فيما عدى السعودية ومصر (أخيراً)، ولكثرة الطّوامّ فيهما فسأقتصر على إيراد أمثلة قليلة من تفسير القرآن منهما:
-في الفتوحات عندما ذكر من الأولياء: (الظالمين) بدليل قول الله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} في سورة فاطر (32)، (والكافرين) لأنهم كفروا بمعنى ستروا محبتهم لله عن غيرهم؛ استدلّ بتفسير الصّوفيّة الملامتيّة قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ستروا محّبتهم لله عن غيرهم {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] بك يا محمد لأنهم لا يأخذون إلاّ عنّي {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} [البقرة: 7] فليس فيها إلاّ محبّتي {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] فلا يسمعون إلاّ منّي {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] فلا يرون إلاّ إيّاي {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7] أي: شيء يستعذبونه.
-وأكّد المعنى الأخير شعراً، في الفصوص (ص: 94):
وإن دخلوا دار الشّقاء فإنّهم *** على لذّة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلدفالأمر واحد *** وبينهما عند التجلي تباين
يُسَمَّى عذاباً من عذوبة لفظه *** وذاك له كالقشر والقشرصاين
-وأكدّ ذلك في تفسير قول الله تعالى عن قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24]؛ قال ابن عربي: (أحْسَنوا الظن بالله فأحسن لهم الجزاء؛ أعطاهم ما هو خير لهم من المطر: ريح، والرّيح إشارة إلى ما فيها من الرّاحة، فانّه بهذه الرّيح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة، وفي هذه الرّيح عَذَابٌ، أي: أَمْرٌ يستعذبونه إذا ذاقوه). الفصوص (ص:109).
-وقال عن فرعون وامرأته في قول الله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9] قال ابن عربي: (وصَدَقتْ إذ كملت حياتها بوجود الولد، ومات فرعون طاهراً مُطَهَّرا)، لأنه قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]؛ لما أدركه الغرق.
وفسّر قول الله تعالى: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً} [نوح: 24]؛ وهو يَعُدُّهم من الأولياء لأنّ الضّلال يجعلهم في شغل دائم بالبحث عن الهدى فيزداد رضَى الله عنهم وثوابه لهم، أمّا المهتدون فقد توقّفوا عن البحث وانقطع عنهم الأجر.
3 – والغزالي وابن عربي – كما سبق – هما أعلم وأشهر المتصوفة، والمتأخّرون منهم عالةٌ عليهما بل لا يُحْسِنُون الأخذ عنهما ولا يطمحون إلى درجاتهما الدّنيا.
وممن بلغ أقصى ما يطمحون إليه من الدرجات الدراسية والوظيفية والشهرة منهم: د.محمد بن علوي المالكي، درّس في جامعة أمّ القرى وفي المسجد الحرام ثم بدا له أن يُظْهر ما كان يُخْفي من معتقده ومنهجه الصّوفي ويترك طريق العلماء:
-وقد سمّاه زميله د.سفر الحوالي هداه الله (مجدِّد مِلَّة عمرو بن لُحَيّ)؛ عنوان رسالة له في الردّ على المالكي، لأنه أوّل من اعتدى على حِمَى التوحيد في بلاد التّوحيد.
-وقال عنه ابن عمه الشيخ سمير المالكي أثابه الله في ردّه على محمد ابن علوي بعنوان (جلاء البصائر): (عَمِد إلى أصل هذا الدّين ورَأْسه وهو توحيد الله بنوعيه الخبر والطّلب فَنَقضَه ودكّ بنيانه من أساسه، وافترى على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الملائكة الكرام الكاتبين، واجترأ على الكتاب العزيز فحّرف الكَلِم عن مواضعه واعترض على أحكامه)، وخصّ بكتابه هذا الرّدّ على طامّات ابن عمِّه في (الذخائر المحمدية)، و(شفاء الفؤاد) مثل:
-لا ملجاً ولا منجى لابن علوي إلا النّبي صلى الله عليه وسلم مخالفاً ما ثبت من دعائه الله تعالى: «اللهم لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك»:
-يُغَنّي ابن علوي الصّوفي:
يا سيدي يا رسول الله خُذْ بيدي *** مالي سواك ولا ألوي على أحد
فأقِلْ عِثار عُبَيْدك الداعي الذي *** يرجوك إذ راجيك غير مُخَيَّب)
واكتب له ولوالديه براءة *** من حرِّ نار جهنّم المتلهّ
فالآن ليس سوى قبر حَلَلْتَ به *** منجي الطريد وملجا كلّ معتصم
والله تعالى يقول: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} [الجن: 22].
عجّل بإذهاب الذي أشتكي *** فإن تَوَقَّفْتَ فَمَنْ ذا أسأل)؟
وعلى هذا المنوال أَخَذَ ما خصّ الله به نفسَه فجعله للنبي صلى الله عليه وسلم.
-ويُغَنّي ابن علوي لنبّينا صلى الله عليه وسلم:
كلما لُحْت للملائك خرّوا *** في السّموات سُجّداً وبُكيّا
والله تعالى يقول: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّا} [مريم: 58].
-ويُغَنّي ابن علوي لنبيّنا صلى الله عليه وسلم:
ومدَدْتَ الأكوان شرقاً وغرباً *** مَدَداً في كيانها كلّيّا
له تعالى يقول: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل: 53].
-ويقول الله تعالى عن نفسه: : {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3].
فيُغَنّي ابن علوي لنبيّنا صلى الله عليه وسلم:
(السّلام عليك يا أوَّل، والسّلام عليك يا آخِر، والسّلام عليك يا ظاهر، والسّلام عليك يا باطن). الشفا (ص:120).
-ويقول الله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً} [الأنعام: 79].
فيُغَنّي ابن علوي لنبيّنا صلى الله عليه وسلم: (لك وجهي وجّهت يا أبيض الوجه). الذخائر (ص:166).
-ويقول الله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} [الأعراف: 180].
فيّدعي ابن علوي: (إنّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم كلّ أسماء الله الحسنى). الشفا (ص:106).
-ويقول الله تعالى عن نفسه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59]؛ وهي الخمْسُ؛ عند أحمد والبخاري وغيرهما.
فيردد ابن علوي أن محمداً صلى الله عليه وسلم: (أوتي علم الخَمْس). الذخائر (ص:25).
وهذه أمثلة قليلة من ردّ الشيخ سمير المالكي أثابه الله على ابن عمه محمد ابن علوي المالكي إضافة إلى ردود كبار العلماء الدّعاة على ضلالات أخرى يصعب حصرها، وقد امتنع إمام المسجد الحرام من الصّلاة عليه لأنه لم يُظْهر توبته قبل الموت، فأُخِّرَتْ جنازته إلى الليل حتى تدخل مع جنائز أخر كما كان النّبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل البقيع (وفيهم مشركون) ولكنه لا يَعْنِي باستغفاره إلاّ المؤمنين والمسلمين، وهذه نادرة خُصَّ بها ابن علوي لا أعلم أنّها حدثت لغيره ممن لم يُظْهروا ما أظهره.
4 – ومِنْ أحْدَث من دعا إلى بِدَع المتصوفة (مِنْ عبادة أوثان المقامات والمزارات إلى الاحتفال بالمولد) د.عبد الغفار شريف هداه الله الذي كان عميداً لإحدى كلّياّت الشريعة بالكويت من أصل باكستناني فيما علمت، واللقب الدّراسي الغَرْبي وعمادة كلّية الشريعة في بلدٍ عربي لم ترفع مبتدعاً مثله من حزب الإخوان إلى مستوى جماعة التّبليغ العوامّ: زاروه قبيل عيد الأضحى ليكسبوا رضاه (كما تعودوا) فسألوه سؤالاً يعرف جوابه أقلّ الناس علماً (ماذا يُسَنّ للمضحّي؟) ولما عجز عن الجواب حاول أحدهم أن (يفتح عليه) فقال: هل يُسَنّ له ألاّ يأخذ من شَعْره شيئاً في الأيام العشر، فضحك الدّكتور العميد عجباً من جَهْل السّائل ثم رأى ألاّ يكتم العلم فقال: (الصّحيح أنّه لا يَأخُذ من شَعْر الخروف شيئاً).
-يقول د.عبد الغفار في برنامج (الحياة عبادة) التّلفزيوني: (إذا كان الذي يطوف حول القبر يعبد القبر فالذي يطوف حول الكعبة يعبد الكعبة) ويعجز عن إدراك الفرق بين عبادة عملية شرعية شرعها الله في الكتاب والسنة وبين عبادة عمليّة وثنية لم يأذن بها الله.
-ويقول دفاعاً عن الأوثان والأنصاب المسمّاة في هذا العصر (مزارت ومقامات) وهي أوثان وأصنام الجاهلية الأولى من قوم نوح كما ذكر البخاري في صحيحه وابن جرير في تفسيره عن أوثان وأصنام قوم نوح في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23]: (أولئك أسماء رجال صالحين لما ماتوا أوحى الشيطان إلى مَنْ بعدهم أن ابنوا في مجالسهم أنصاباً، من تفسير ابن عباس ترجمان القرآن).
يقول د.عبد الغفار أغناه الله بالسنة عن البدعة وبالوحي عن الفكر:
-(الصّحابة لم يكسروا الأصنام مثل أبي الهول في مصر)، وأبو الهول كان مطموراً في التّراب ولم يُنْبَش إلاّ في العصر الحديث، ولم يُعْبد شيء من الآثار في مصر وبلاد الشام، وإلاّ لأزيل كما ورد عن عمر رضي الله عنه قَطْع شجرة البيعة وليست تمثالاً ولا صورة لما رأى من اتجاه بعض الجاهلين للتّقرّب إلى الله بالصّلاة عندها.
-(النّبي صلى الله عليه وسلم مرّ على مدائن صالح ولم يكسر أصنامها)، ولا يظهر في مدائن صالح إلاّ بيوت الظالمين كما قال الله تعالى عن مثلهم: {لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]، ومع ذلك منع النّبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من الدّخول إليها إلاّ باكين لئلا يصيبهم ما أصابهم، وأمرهم أن يهريقوا الماء الذي استقوه منها ويُلْقُوا العجين الذي عجنوه من مائها أو يعلفوه الدّواب [متفق عليه]، وسار ولاة الأمر في دولة الدعوة إلى منهاج النّبّوة على خُطى الرّسول الأسوة الحسنة فألزموا من سَكَنها من البدو بالرّحيل عنها.
وليس فيها أصنام تُكْسَر كما ظنّ الدكتور العميد سابقاً أو تُعْبد، ولو وُجدَت الأصنام وخَطَرُ عبادتها (كما يتقرّب كثير من المنتمين للإسلام بأوثان المقامات والمزارات) لكُسِرت كما فُعِل بكلّ الأوثان الحديثة في جزيرة العرب، بل كان اثنان منها صنمين هُدِما في عصر النّبوّة باسم (ذي الخلصة) في تبالة لخثعم وفي زهران لدوس، ثم قاما بعد فتنة الفاطمّيين فلم يُهْدما إلاّ في الدّولة السّعوديّة الأولى في بداية القرن الثالث عشر وفي الدولة السّعودية الثالثة في منتصف القرن الرّابع عشر تقريباً، وكان النّبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بعودة الصنم قبل قيام السّاعة فيما رواه البخاري ومسلم.
وقد يكون لكلام الدكتور معنًى لو وجّهه إلى ابن لادن والظواهري وطالبان من دعاة الفكر والحركيّة والحزبيّة الذين اهتموا بهدم صنمي بوذا النّائيَيْن المهجورَيْن وأبقوا أوثان المنتمين للإسلام والسنة.
-ادّعى د.عبد الغفار أن الله احتفل بولادة النبي صلى الله عليه وسلم بحجّة حديث مرسل وَصفه بالصّحيح عن تخفيف العذاب عن أبي لهب يوم الاثنين لفرحه بولادة النبي، ولو صحّ الحديث لما قامت به حجّة لأنّه رواية عن مجهول أنه رأى أبا لهب في المنام، ورواية المنام (لو صحّت) لا يحتّج بها في الدّين عامّة فكيف بالعبادات، واعجبْ لصوفيّ يأخذ بحديث ضعيف عن مجهول عن منام ويترك سورة محكمة في القرآن (المسد).
-واحتج د.عبد الغفار بصيام الاثنين وسجود الشكر والقياس على مشروعية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، والمتصوفة والمبتدعة عامّة لا يصومون الاثنين الثابت وإنما يحتفلون بالثاني عشر من ربيع الأول الذي لم يثبت، ولو أُطْلِق للمبتدعة (القياس) لأحدثوا كثيراً من العبادات والعقائد شرعاً من الدّين بغير إذن الله.
-ولم يقل د.عبد الغفار: هل فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه أو أحد من فقهاء الأمّة في القرون المفضلة، وهل أمر به النّبي صلى الله عليه وسلم أو أقرّه، وهل أكمل الله الدّين قبل موت النّبي صلى الله عليه وسلم أو لا يزال في حاجة إلى متصوف ليكمله، وهل يعلم أنّ الاحتفال بالمولد لم يُعْرف قبل الفاطميّين المفسدين؟
-يدعي د.عبد الغفار أن فتاوى سدّ الذريعة لا تخرج إلاّ من مجتمع منغلق بدوي وأن فتاوى الأريحيّة [بسَنّ بل إيجاب العمل بالبدع] تخرج من مجتمع متحضّر.
وإذا كان يعني بالبداوة عدم الاهتمام بمتاع الدّنيا فضلاً عن الآثار والبدع الموصوفة بالإسلامية فقد صدق؛ كان حظّ عصر النّبوة من متاع الدّنيا قليل، وقد شرع صلى الله عليه وسلم سدّ الذرائع فلعن من اتّخذ القبور مساجد، وعدّ من الشرك قول ما شاء الله وشئت ولو كان القائل صحابّياً، وقال لأصحابه ـ إِذْ رغبوا العكوف على الشجرة وتعليق أسلحتهم مثل ما يفعل المشركون بذات أنواط ـ أنّهم قالوا له مثلما قال بنوا إسرائيل لموسى عليه السلام: {اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].
أما المجتمعات المتحضرة فكانت وثنيّةً في أكثر أحوالها: الهندوس، والبوذيّون، الفراعنة، اليونانيّون، الرّومان، الصّينيّون، الإنكا، وغيرهم.
وليت المفكرين الإسلاميين يعقلون أنّ الشرع يؤخذ من الوحي بفهم سلف الأمّة في القرون المفضلة لا من المنامات ولا من الفكر ولا من مقاييس عصرية للبداوة والحضارة وإلاّ فيا حسرة على العباد إذا تركوا اليقين وركبوا الظن.
وبعد: فإني أحسن الظن بنيّة أكثر من ذكرْتُ مهما أدركْتُ من سوء أقوالهم وأعمالهم كقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103ـ104]، ولعل الأموات منهم تابوا إلى الله قبل أن يحضرهم الموت، وأرجو الله أن يهدي الأحياء منهم ومن غيرهم ويهديني لأقرب من هذا رشدًا.
(1428هـ).
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ} [النساء: 59]؛ولوجود كثير من التَّنازع رَدََدْنا أمر التّصّوف إلى الله (في كتابه) وإلى الرّسول (في سنّته) فلم نجد لهذه الكلمة أثرًا في الكتاب ولا في السنة ولا في فقه الخلفاء الراشدين للدّين وهم خَيْر مَنْ فَقِهَهُ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرَّاشدين من بعدي، عضّوا عليها بالنّواجذ» رواه أحمد وأبو داود والتّرمذي وابن ماجه والدّارمي وابن حبان وصحّحه.
وفي هذا الحديث: «وإيّاكم ومحدثات الأمور فإنّ كلّ محدثة بدعة، وكّل بدعة ضلالة».
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» رواه البخاري ومسلم؛ فكلّ مَنْ تقرّب إلى الله بشرعٍ لم يأذن به الله بعد قول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]، وبعد انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم فكأنّما يستدرك على الله ورسوله، وكأنّما يزعم نقص الدّين وعدم كمال النّعمة والتّبليغ، وكأنّما يدّعي خيانة فقهاء الأمّة في القرون المفضلة من الصّحابة والتّابعين، وتابعيهم ومنهم الأئمة الأربعة رضي الله عنهم أجمعين بترك الجميع شيئاً من الدّين وعدم تبليغه والدّعوة إليه، أو بجهله، وقد فضّلهم النبي صلى الله عليه وسلم على بقية الأمّة فقال: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم… ثم يكون بعدهم قوم يَشْهدون ولا يُسْتشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون» [متفق عليه].
هذا من حيث العموم، وفيما يلي يحاول الكاتب أن يوفي التّصّوف حقّه بشيء من التّفصيل والله الهادي إلى سواء الصّراط:
أولاً: منشأ التّصوّف:
1 – يرى المؤرّخ والرّياضي والفيلسوف محمد بن أحمد البيروني (ت440هـ) أنّ مَرَدَّ التَصّوف في بلاد المسلمين إلى تصّوف الهندوس في الهند، وقد نشأت وثنيّتهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بألفي سنة وأخذها منهم البوذيّون منذ انفصالهم عنهم بعد ألف سنة من نشأة الهندوسيّة، وأنّ كلمة المتصوف جاءت من كلمة فيلسوف أي: محبّ الحكمة.
والبيروني حري بأن يَشْهد بما عَلِم؛ لطول مُكثِه في الهند يَدْرسُ أحوال أهلها عدد سنين، ولِذِهْنِه الرّياضي ودقّته في البحث ثم في تسجيل نتائج بحثه، ولسعة اطلاعه وطول باعه في المعرفة، يدلّ على ذلك ما ذكره ياقوت عنه (من أن سجلّ مؤلّفاته بلغ ستّين ورقة) وكثرة نقله عنه، (أعلام الزّركلي).
ويدلّ على صحّة استنتاجه أن الله ذكر في كتابه الكريم أنّ النّصارى (قبل المسلمين) نَزَعُوا إلى شيء من المنهج التصوفي وأنّه مما ابتدعه البشر وليس مما شرعه الله فقال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27]، وقال النَبيّ صلى الله عليه وسلم: «لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع» [متفق عليه].
ويدل على صحّة استنتاجه أنّ كثيراً من معتقدات متصوفة الهند وأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم موجودة في متصوفة المسلمين منذ انتهت القرون المفضلة حتى هذا العصر، وشرّها: تعظيم المزارات والمقامات، ووحدة الوجود والفناء في ذات الإله، وأهونها: المِسْبَحَة والرّهبَنَة وضرب الشيش والرقص والطبل والهزّ عند الذّكْر.
2 – وظن بعض العلماء أنّ منشأ التّصّوف من لبْس الصوف وأنكروا على المتصوفة التقرب إلى الله بلبس الصوف والله لم يشرعه قُرْبَة إليه، ورسوله صلى الله عليه وسلم كان يلبس الكتّان وغيره وهو الذي جعله الله {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، ولكن لُبْس الصُّوف والتّقشف بما يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر شكليٌّ تركه متصّوفة العصر وأقبلوا على شهوات البطن والفرج حتى قال بعض منتقديهم:
أقال الله حيث عشقتموه *** كُلُوا أَكْل البهائم وارقصوا لي
ولكن أسوأ ما اتصف به المتصّوفة تعلّقهم بالشبهات حتى اليوم كما يتبيّن بالرجوع إلى شيء من كتبهم ومقالاتهم قريبًا إن شاء الله.
3 – وظنّ بعض المتصّوفة أن كلمة الصوفي جاءت من كلمة الصفّة التي كان يأوي إليها بعض فقراء المسلمين في المدينة النبويّة، وهذا لا يصحّ لُغَة لأن النّسبة إلى الصفة: (صُفّي)، ولا يصحّ شرعاً لأنّ الصفة لم تُميَّز بفضل المكان فالمسجد أفضل منها ولم يُمَيزْ أهلها بالفضل على غيرهم من الصّحابة فلاشك أن الخلفاء الراشدين وكبار فقهاء الصحابة ممن لم يسكن الصفة أفضل منهم، ولم يَأْوِ إليها فقراء المهاجرين تقرّباً إلى الله بسكناها خاصّة، بل لأنّهم لا يجدون غيرها.
ثانياً: حُكم التّصّوف:
1 – يرى بعض المتصّوفة أنّ التّصّوف من الدّين لأنه الإحسان الذي ورد ذكره في حديث جبريل عليه السلام: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»، ولاشك إن الإحسان من الدّين، ولكن لم يعرّفه المَلَك ولا النّبيّ ولا الصّحابي ولا التّابعي ولا أحد من علماء المسلمين في القرون المفضلة بالتّصوف ولا رَبَطه أحد منهم به، وهم جميعا يوافقون المتصوفة على فضل الإحسان ولا يوافقونهم على فضل التّصوف الذي جاء اسمه ومعناه ومبناه بعد القرون المفضلة وما لم يكن دِيْناً في القرون المفضلة فلن يكون ديناً بعدها.
2 – ويرى بعض المتصّوفة أنّ التّصّوف من الدّين لأنه التّزكية التي ورد ذكرها في كتاب الله، وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة: 2]؛ وما يقوله فقهاء الأُمّة المعتدّ بهم عن الإحسان يقولونه عن التّزكية فهي – لاشك – من الدّين وهي التّطهير من الشرك فما دونه من المبتدعات ومن المعاصي كبائرها وصغائرها.
ولم يعرّفها المفسّرون المعتَدُّ بهم بأنّها التّصوف، ولن يقول عاقل ممن بعدهم: أن معنى {يزكّيهم} في سورة الجمعة: (يصوّفهم) ولن يقول عاقل ممن بعدهم: أن معنى {ولا يزكيهم} في سورة البقرة: (ولا يصوّفهم).
3 – وعلى ما تقدم؛ فالمتصوفة يوافقون علماء الشريعة (منذ القرن الأول) على فضل الإحسان والتّزكية ويخالفونهم في اسم التّصوف ومنهاجه وأقواله وأفعاله، بل هم يخالفون الكتاب والسنة في ذلك كلّه (لفظاً ومعنى وعملاً) حسب فهم الصّحابة فمن دونهم في القرون الأولى للآيات والأحاديث.
وكما قال من سبق: إن كان التّصّوف هو الإسلام ففي الاسلام ما يغنينا عنه، وإن كان التّصّوف غير الإسلام فقد قال الله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، فيقال: إن كان الإحسان والتزكية اللذين جاء بهما الوحي هما التصوف (المحْدَث اسمه ومنهاجه والعمل به بعد القرون المفَضّلة) فلا يجوز للمسلم أن يختار لفظاً أو منهجاً أو عملاً ابتدعه الناس على قول ومنهاج وعمل جاء به الوحي من عند الله تعالى على قلب نبيّه صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] فيما دون ذلك، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36]، وإن كان غيرهما فيجب البراءة منه
ثالثاً: منهاج التّصّوف قديماً وحديثاً:
1 – يظنّ بعض من يُحْسِنون الظّنّ بمتصّوفة العصر أنّهم يتبّرءون ممّا نُقِل عن قدمائهم من ألفاظ أو أفعال الكفر والشرك وما دون ذلك من البدع وكبائر الذّنوب مثل قول الحلاج: (ما في الجبّة إلا الله) وقول أبي يزيد: (سبحاني ما أعظم شاني) ونحوهما مما ورد في كتب ومراجع التّصّوف مثل الرّسالة القشيريّة وإحياء علوم الدّين الإشارة إليه، وما ورد في الفتوحات المكيّة لابن عربي وكذلك الفصوص له من كلام صريح يثبت ما نُسِب إليه من اعتقاد وحدة الوجود مثل: (سبحان من أوجد الأشياء وهو عَيْنُها) وكلماتٍ من الكفر لا يحصيها إلا الله، وما أورده الشعراني في الطَبقات عن أئمة التصوف من أقوال وأفعال لا تليق بالصوفي الأمّي فكيف بإمامه في التّصوف، ولو صحّ عنه بعضها لكان إماماً ممّن قال الله فيهم: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} [القصص:41]؛ إن لم يكن تاب قبل الموت.
ولكنك لا تجد فرقاً كبيراً بين خرافات الصوفيّة في (جامع كرامات الأولياء) ليوسف البنهاني (ت: 1350) وبين خرافات الصّوفيّة في طبقات الشّعراني (ت: 973) قبله بأربعة قرون، وتجد الشعراني يَعُدُّ ضلالات ابن عربي (ت: 63 قمّة المعرفة بالله وبشرعه في كتابه: (الكبريت الأحمر في علوم الشيخ الأكبر)، وتجد ابن عربي الملقب بالشيخ الأكبر بين المتصّوفة (حتى اليوم) يقول بمقالة البسطامي (ت:261) في وحدة الوجود، وتجد محمود الغراب في عصرنا هذا يمجد ابن عربي ويذم ابن تيميه (ت:72 (لمخالفته ابن عربي) في كتابه (شرح كلمات الصّوفيّة والرّدّ على ابن تيمية).
بل تجد أحمد عبد الجواد في عصرنا يُسَمِّي الله: (هو) في ذكره (الدّعاء المستجاب) الذي نشره بعض المبتدعة في رابطة العالم الإسلامي، وسَلَفُه في ذلك الحلاج (ت: 309) الذي ألّف كتاباً بعنوان (هو هو)، ولأن الحلاّج أول من ادعى الحلول في نهاية القرن الثالث قُطِّعتْ أطرافه وأُحرِق، وكاد ابن عربي يلقى مصيره. ولكن الغزالي (ت: 505) في إحيائه والقشيري (ت: 465) في رسالته مَهَّدا لقبول التّصوف بخلطهما بين الضّلال والحقّ، وتجد سيّد قطب (ت:1966) يمجّد أحدّية الوجود التي هام بها الصّوفيّة.
2 – ويظنّ من يُحْسن الظّنّ ببعض من نُصبوا أئمة للتّصّوف من
الأقدمين مثل الجنيد البغدادي (ت: 297) ثم الجيلاني (ت: 561) أنّهم
كانوا دعاة إلى السّنة ولكنْ ظهر عليهم الزّهد فظنّهم النّاس متصّوفةً لغَلَبة التّقشف الهندوسي على قدماء المتصّوفة مثل البسطامي والحلاّج، وعامّة صوفّية الدَّرْوَشه.
ولعل هذا هو الحقّ؛ فدعاة السنة لا يمكن أن يكونوا متصّوفة مبتدعة، وكلّ التّصّوف مُبْتَدع (اسمه ورسمه) كما أسلفنا، ولكن النّاس يبتلونهم بالانتساب إليهم لماَ لهُم من ذِكْرٍ في الصّالحين كما ينْتَسِب أكثر الناس للأمة الأربعة رحمهم الله وهو يخالفونهم في أهمّ مناهجهم: الاعتقاد، ولكنّ علماءهم أقرب إلى العدل إذ يبيّنون مخالفتهم أحياناً فيقولون: (الحنفي مذهباً الماتوريدي عقيدة) أو (الشافعي مذهباً الأشعريّ عقيدة) مثلاً.
رابعاً: أمثلة من مقالات المتصّوفة:
1 – (إحياء علوم الدّين) لأبي حامد الغزالي (ت: 505) من خير كتب المتصوّفة وأكثرها أنتشاراً في أيدي النّاس من مختلف الطرق حتى اليوم ولذلك رَأَيْتُ من العدل اختيار بعض الأمثلة منه، وللقارئ الحصول على عشرات بل مئات الأمثلة من كتاب (أبو حامد الغزالي والتّصّوف) للشيخ عبد الرحمن دمشقيّة من علماء لبنان العاملين على منهاج النبوّه:
-وصيّته للصّوفي بأن (يخلو بنفسه في زاوية ويقتصر على الفرائض ولا يُفَرِّق همّه بقراءة قرآن ولا بالتأمّل في تفسير ولا يكتب حديثاً). (3/19).
-دفاعه عن الغِنَاء الصّوفي بقوله: (فاعلم أن السّماع أشدّ تهييجاً لِلْوَجْد من القرآن من سبعة وجوه). (2/299 – 301).
-حكايته عن أبي تراب النخشبي الصوفي أنّه قال لأحد المريدين: (لو رأيت أبا يزيد) فقال المريد: (قد رأيت الله فأغناني عن أبي يزيد) فغضب أبو تراب وقال: (ويلك تَغْتّرّ بالله؟ لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة) قال الغزالي: (فهذه أوائل سلوكهم وأقل مقاماتهم وهي أعزّ موجود في الأتْقِياء من النّاس) (1/356 – 357)، (وأبو يزيد البسطامي من أوّل من نُقِل عنهم القول بوحدة الوجود والفَنَاء من عقائد الوثنية الهندوسية).
-تقسيم التوحيد إلى أربع مراتب؛ أدناها: (القول باللسان والقلب غافل أو مُنِكر، وهي للمنافقين، والثانية: القول باللسان والتّصديق بالقلب كما صّدق به عموم المسلمين، وهي للعَوَامّ، والثالثة: مشاهدة ذلك بطريق الكشف وهي للمقرّبين، والرابعة: أَلاّ يرى في الوجود إلاّ واحداً وهي للصّديقين وتسّميه الصوفيّة: الفناء في التوحيد، وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد). (4/245).
-(فان قُلْتَ: كيف يُتَصَوَّر ألاّ يشاهِدَ إلا واحداً وهو يُشاهِد السّماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة؟.. فهذا من غاية علوم المكاشفات، وأسرار هذا العِلْم لا يجوز أن تسّطر في كتاب.. قال بعض العارفين: إفشاء سرّ الرّبوبيه كفر) (4/246 – 247)، واستدلّ على صحّة ذلك بقول الحلاج للخوّاص: (قد أفنيت عُمْرك في عُمْران باطنك فأين الفناء في التوحيد؟) قال الغزالي: (فكأنّ الخوّاص كان في تصحيح المقام الثالث في التوحيد فطالبه [الحلاّج] بالمقام الرّابع) (4/247)؛ فالغزالي إِذَنْ يرى أنّ الحلاّج الزّنديق صِدِّيق؟
-قوله عن سهل التّسْتري الصوفي: (للرّبوبيّة سِرٌ لو أُظِهر لبطلت النّبوّة، وللنبّوة سرٌّ لو كُشِف لبطل العلم، وللعلماء سِرٌّ لو أظهروه لبطلت الأحكام). (1/100).
قلتُ: ودعوى الأسرار في الدّين فِرْية باطنيّة فقد وصف الله تعالى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بالبيان فقال تعالى: {الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 1]، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وهذه أمثلة قليلة لما في كتابٍ واحدٍ من كتب الغزالي (إحياء علوم الدّين) من الفكر الصّوفي أختمها بمثال واحد من كتابه (مشكاة الأنوار) (19/20) يوكّد رأيه في التّوحيد والكلمة الطّيّبة: (فلا إله إلا الله توحيد العوام و: لا هو إلا هو توحيد الخَوَاصّ)، ولا يزال الغزالي يُلَقَّب: (حُجة الإسلام) إلى هذا اليوم بعد قرون من الانحراف عن الوحي والفقه فيه إلى الفكر.
2 – الفتوحات المكّية وفصوص الحِكَم لابن عربي(ت: 638، ولا يزال يلقّب الشيخ الأكبر حتى اليوم) من أشهر كُتُبه وأكثرها انتشاراً فيما عدى السعودية ومصر (أخيراً)، ولكثرة الطّوامّ فيهما فسأقتصر على إيراد أمثلة قليلة من تفسير القرآن منهما:
-في الفتوحات عندما ذكر من الأولياء: (الظالمين) بدليل قول الله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} في سورة فاطر (32)، (والكافرين) لأنهم كفروا بمعنى ستروا محبتهم لله عن غيرهم؛ استدلّ بتفسير الصّوفيّة الملامتيّة قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ستروا محّبتهم لله عن غيرهم {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] بك يا محمد لأنهم لا يأخذون إلاّ عنّي {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} [البقرة: 7] فليس فيها إلاّ محبّتي {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] فلا يسمعون إلاّ منّي {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] فلا يرون إلاّ إيّاي {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7] أي: شيء يستعذبونه.
-وأكّد المعنى الأخير شعراً، في الفصوص (ص: 94):
وإن دخلوا دار الشّقاء فإنّهم *** على لذّة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلدفالأمر واحد *** وبينهما عند التجلي تباين
يُسَمَّى عذاباً من عذوبة لفظه *** وذاك له كالقشر والقشرصاين
-وأكدّ ذلك في تفسير قول الله تعالى عن قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24]؛ قال ابن عربي: (أحْسَنوا الظن بالله فأحسن لهم الجزاء؛ أعطاهم ما هو خير لهم من المطر: ريح، والرّيح إشارة إلى ما فيها من الرّاحة، فانّه بهذه الرّيح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة، وفي هذه الرّيح عَذَابٌ، أي: أَمْرٌ يستعذبونه إذا ذاقوه). الفصوص (ص:109).
-وقال عن فرعون وامرأته في قول الله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9] قال ابن عربي: (وصَدَقتْ إذ كملت حياتها بوجود الولد، ومات فرعون طاهراً مُطَهَّرا)، لأنه قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]؛ لما أدركه الغرق.
وفسّر قول الله تعالى: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً} [نوح: 24]؛ وهو يَعُدُّهم من الأولياء لأنّ الضّلال يجعلهم في شغل دائم بالبحث عن الهدى فيزداد رضَى الله عنهم وثوابه لهم، أمّا المهتدون فقد توقّفوا عن البحث وانقطع عنهم الأجر.
3 – والغزالي وابن عربي – كما سبق – هما أعلم وأشهر المتصوفة، والمتأخّرون منهم عالةٌ عليهما بل لا يُحْسِنُون الأخذ عنهما ولا يطمحون إلى درجاتهما الدّنيا.
وممن بلغ أقصى ما يطمحون إليه من الدرجات الدراسية والوظيفية والشهرة منهم: د.محمد بن علوي المالكي، درّس في جامعة أمّ القرى وفي المسجد الحرام ثم بدا له أن يُظْهر ما كان يُخْفي من معتقده ومنهجه الصّوفي ويترك طريق العلماء:
-وقد سمّاه زميله د.سفر الحوالي هداه الله (مجدِّد مِلَّة عمرو بن لُحَيّ)؛ عنوان رسالة له في الردّ على المالكي، لأنه أوّل من اعتدى على حِمَى التوحيد في بلاد التّوحيد.
-وقال عنه ابن عمه الشيخ سمير المالكي أثابه الله في ردّه على محمد ابن علوي بعنوان (جلاء البصائر): (عَمِد إلى أصل هذا الدّين ورَأْسه وهو توحيد الله بنوعيه الخبر والطّلب فَنَقضَه ودكّ بنيانه من أساسه، وافترى على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الملائكة الكرام الكاتبين، واجترأ على الكتاب العزيز فحّرف الكَلِم عن مواضعه واعترض على أحكامه)، وخصّ بكتابه هذا الرّدّ على طامّات ابن عمِّه في (الذخائر المحمدية)، و(شفاء الفؤاد) مثل:
-لا ملجاً ولا منجى لابن علوي إلا النّبي صلى الله عليه وسلم مخالفاً ما ثبت من دعائه الله تعالى: «اللهم لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك»:
-يُغَنّي ابن علوي الصّوفي:
يا سيدي يا رسول الله خُذْ بيدي *** مالي سواك ولا ألوي على أحد
فأقِلْ عِثار عُبَيْدك الداعي الذي *** يرجوك إذ راجيك غير مُخَيَّب)
واكتب له ولوالديه براءة *** من حرِّ نار جهنّم المتلهّ
فالآن ليس سوى قبر حَلَلْتَ به *** منجي الطريد وملجا كلّ معتصم
والله تعالى يقول: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} [الجن: 22].
عجّل بإذهاب الذي أشتكي *** فإن تَوَقَّفْتَ فَمَنْ ذا أسأل)؟
وعلى هذا المنوال أَخَذَ ما خصّ الله به نفسَه فجعله للنبي صلى الله عليه وسلم.
-ويُغَنّي ابن علوي لنبّينا صلى الله عليه وسلم:
كلما لُحْت للملائك خرّوا *** في السّموات سُجّداً وبُكيّا
والله تعالى يقول: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّا} [مريم: 58].
-ويُغَنّي ابن علوي لنبيّنا صلى الله عليه وسلم:
ومدَدْتَ الأكوان شرقاً وغرباً *** مَدَداً في كيانها كلّيّا
له تعالى يقول: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل: 53].
-ويقول الله تعالى عن نفسه: : {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3].
فيُغَنّي ابن علوي لنبيّنا صلى الله عليه وسلم:
(السّلام عليك يا أوَّل، والسّلام عليك يا آخِر، والسّلام عليك يا ظاهر، والسّلام عليك يا باطن). الشفا (ص:120).
-ويقول الله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً} [الأنعام: 79].
فيُغَنّي ابن علوي لنبيّنا صلى الله عليه وسلم: (لك وجهي وجّهت يا أبيض الوجه). الذخائر (ص:166).
-ويقول الله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} [الأعراف: 180].
فيّدعي ابن علوي: (إنّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم كلّ أسماء الله الحسنى). الشفا (ص:106).
-ويقول الله تعالى عن نفسه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59]؛ وهي الخمْسُ؛ عند أحمد والبخاري وغيرهما.
فيردد ابن علوي أن محمداً صلى الله عليه وسلم: (أوتي علم الخَمْس). الذخائر (ص:25).
وهذه أمثلة قليلة من ردّ الشيخ سمير المالكي أثابه الله على ابن عمه محمد ابن علوي المالكي إضافة إلى ردود كبار العلماء الدّعاة على ضلالات أخرى يصعب حصرها، وقد امتنع إمام المسجد الحرام من الصّلاة عليه لأنه لم يُظْهر توبته قبل الموت، فأُخِّرَتْ جنازته إلى الليل حتى تدخل مع جنائز أخر كما كان النّبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل البقيع (وفيهم مشركون) ولكنه لا يَعْنِي باستغفاره إلاّ المؤمنين والمسلمين، وهذه نادرة خُصَّ بها ابن علوي لا أعلم أنّها حدثت لغيره ممن لم يُظْهروا ما أظهره.
4 – ومِنْ أحْدَث من دعا إلى بِدَع المتصوفة (مِنْ عبادة أوثان المقامات والمزارات إلى الاحتفال بالمولد) د.عبد الغفار شريف هداه الله الذي كان عميداً لإحدى كلّياّت الشريعة بالكويت من أصل باكستناني فيما علمت، واللقب الدّراسي الغَرْبي وعمادة كلّية الشريعة في بلدٍ عربي لم ترفع مبتدعاً مثله من حزب الإخوان إلى مستوى جماعة التّبليغ العوامّ: زاروه قبيل عيد الأضحى ليكسبوا رضاه (كما تعودوا) فسألوه سؤالاً يعرف جوابه أقلّ الناس علماً (ماذا يُسَنّ للمضحّي؟) ولما عجز عن الجواب حاول أحدهم أن (يفتح عليه) فقال: هل يُسَنّ له ألاّ يأخذ من شَعْره شيئاً في الأيام العشر، فضحك الدّكتور العميد عجباً من جَهْل السّائل ثم رأى ألاّ يكتم العلم فقال: (الصّحيح أنّه لا يَأخُذ من شَعْر الخروف شيئاً).
-يقول د.عبد الغفار في برنامج (الحياة عبادة) التّلفزيوني: (إذا كان الذي يطوف حول القبر يعبد القبر فالذي يطوف حول الكعبة يعبد الكعبة) ويعجز عن إدراك الفرق بين عبادة عملية شرعية شرعها الله في الكتاب والسنة وبين عبادة عمليّة وثنية لم يأذن بها الله.
-ويقول دفاعاً عن الأوثان والأنصاب المسمّاة في هذا العصر (مزارت ومقامات) وهي أوثان وأصنام الجاهلية الأولى من قوم نوح كما ذكر البخاري في صحيحه وابن جرير في تفسيره عن أوثان وأصنام قوم نوح في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23]: (أولئك أسماء رجال صالحين لما ماتوا أوحى الشيطان إلى مَنْ بعدهم أن ابنوا في مجالسهم أنصاباً، من تفسير ابن عباس ترجمان القرآن).
يقول د.عبد الغفار أغناه الله بالسنة عن البدعة وبالوحي عن الفكر:
-(الصّحابة لم يكسروا الأصنام مثل أبي الهول في مصر)، وأبو الهول كان مطموراً في التّراب ولم يُنْبَش إلاّ في العصر الحديث، ولم يُعْبد شيء من الآثار في مصر وبلاد الشام، وإلاّ لأزيل كما ورد عن عمر رضي الله عنه قَطْع شجرة البيعة وليست تمثالاً ولا صورة لما رأى من اتجاه بعض الجاهلين للتّقرّب إلى الله بالصّلاة عندها.
-(النّبي صلى الله عليه وسلم مرّ على مدائن صالح ولم يكسر أصنامها)، ولا يظهر في مدائن صالح إلاّ بيوت الظالمين كما قال الله تعالى عن مثلهم: {لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]، ومع ذلك منع النّبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من الدّخول إليها إلاّ باكين لئلا يصيبهم ما أصابهم، وأمرهم أن يهريقوا الماء الذي استقوه منها ويُلْقُوا العجين الذي عجنوه من مائها أو يعلفوه الدّواب [متفق عليه]، وسار ولاة الأمر في دولة الدعوة إلى منهاج النّبّوة على خُطى الرّسول الأسوة الحسنة فألزموا من سَكَنها من البدو بالرّحيل عنها.
وليس فيها أصنام تُكْسَر كما ظنّ الدكتور العميد سابقاً أو تُعْبد، ولو وُجدَت الأصنام وخَطَرُ عبادتها (كما يتقرّب كثير من المنتمين للإسلام بأوثان المقامات والمزارات) لكُسِرت كما فُعِل بكلّ الأوثان الحديثة في جزيرة العرب، بل كان اثنان منها صنمين هُدِما في عصر النّبوّة باسم (ذي الخلصة) في تبالة لخثعم وفي زهران لدوس، ثم قاما بعد فتنة الفاطمّيين فلم يُهْدما إلاّ في الدّولة السّعوديّة الأولى في بداية القرن الثالث عشر وفي الدولة السّعودية الثالثة في منتصف القرن الرّابع عشر تقريباً، وكان النّبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بعودة الصنم قبل قيام السّاعة فيما رواه البخاري ومسلم.
وقد يكون لكلام الدكتور معنًى لو وجّهه إلى ابن لادن والظواهري وطالبان من دعاة الفكر والحركيّة والحزبيّة الذين اهتموا بهدم صنمي بوذا النّائيَيْن المهجورَيْن وأبقوا أوثان المنتمين للإسلام والسنة.
-ادّعى د.عبد الغفار أن الله احتفل بولادة النبي صلى الله عليه وسلم بحجّة حديث مرسل وَصفه بالصّحيح عن تخفيف العذاب عن أبي لهب يوم الاثنين لفرحه بولادة النبي، ولو صحّ الحديث لما قامت به حجّة لأنّه رواية عن مجهول أنه رأى أبا لهب في المنام، ورواية المنام (لو صحّت) لا يحتّج بها في الدّين عامّة فكيف بالعبادات، واعجبْ لصوفيّ يأخذ بحديث ضعيف عن مجهول عن منام ويترك سورة محكمة في القرآن (المسد).
-واحتج د.عبد الغفار بصيام الاثنين وسجود الشكر والقياس على مشروعية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، والمتصوفة والمبتدعة عامّة لا يصومون الاثنين الثابت وإنما يحتفلون بالثاني عشر من ربيع الأول الذي لم يثبت، ولو أُطْلِق للمبتدعة (القياس) لأحدثوا كثيراً من العبادات والعقائد شرعاً من الدّين بغير إذن الله.
-ولم يقل د.عبد الغفار: هل فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه أو أحد من فقهاء الأمّة في القرون المفضلة، وهل أمر به النّبي صلى الله عليه وسلم أو أقرّه، وهل أكمل الله الدّين قبل موت النّبي صلى الله عليه وسلم أو لا يزال في حاجة إلى متصوف ليكمله، وهل يعلم أنّ الاحتفال بالمولد لم يُعْرف قبل الفاطميّين المفسدين؟
-يدعي د.عبد الغفار أن فتاوى سدّ الذريعة لا تخرج إلاّ من مجتمع منغلق بدوي وأن فتاوى الأريحيّة [بسَنّ بل إيجاب العمل بالبدع] تخرج من مجتمع متحضّر.
وإذا كان يعني بالبداوة عدم الاهتمام بمتاع الدّنيا فضلاً عن الآثار والبدع الموصوفة بالإسلامية فقد صدق؛ كان حظّ عصر النّبوة من متاع الدّنيا قليل، وقد شرع صلى الله عليه وسلم سدّ الذرائع فلعن من اتّخذ القبور مساجد، وعدّ من الشرك قول ما شاء الله وشئت ولو كان القائل صحابّياً، وقال لأصحابه ـ إِذْ رغبوا العكوف على الشجرة وتعليق أسلحتهم مثل ما يفعل المشركون بذات أنواط ـ أنّهم قالوا له مثلما قال بنوا إسرائيل لموسى عليه السلام: {اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].
أما المجتمعات المتحضرة فكانت وثنيّةً في أكثر أحوالها: الهندوس، والبوذيّون، الفراعنة، اليونانيّون، الرّومان، الصّينيّون، الإنكا، وغيرهم.
وليت المفكرين الإسلاميين يعقلون أنّ الشرع يؤخذ من الوحي بفهم سلف الأمّة في القرون المفضلة لا من المنامات ولا من الفكر ولا من مقاييس عصرية للبداوة والحضارة وإلاّ فيا حسرة على العباد إذا تركوا اليقين وركبوا الظن.
وبعد: فإني أحسن الظن بنيّة أكثر من ذكرْتُ مهما أدركْتُ من سوء أقوالهم وأعمالهم كقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103ـ104]، ولعل الأموات منهم تابوا إلى الله قبل أن يحضرهم الموت، وأرجو الله أن يهدي الأحياء منهم ومن غيرهم ويهديني لأقرب من هذا رشدًا.
(1428هـ).
([1]) الشفا ص (203).
([2]) الشفا ص (212).
([3]) الشفا ص (114).
([4]) الذخائر ص (15.