التفصيل
في حكم المشاركة في جيش الكفار لقتال المسلمين
في حكم المشاركة في جيش الكفار لقتال المسلمين
هذا البحث كان على إثر نقاش دار أمامي بين طلاب علم مجتهدين، وطلب مني المشاركة والحكم على من شارك الكفار في محاربة المسلمين :
ذهب أهل العلم إلى أن من ثبت له الإسلام بيقين لا يزول عنه إلا بيقين فقالوا من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين؛ ولذلك ليس كل من أعان الكفار يكفر كفرا مخرجا من الملة لأن الإعانة على قسمين :
الأولى : إعانة مكفرة : وهي إعانتهم محبة لدينهم .
الثانية : إعانة غير مكفرة : وهي إعانتهم طلبا لدنياهم .
ومن إعانتهم القتال في جيش الكافرين ضد المسلمين وهو ليس بكفر ظاهر بل فيه التفصيل السابق والدليل على ما أقول الكتاب والسنة وأقوال العلماء المحققين .
أولا : الدليل من الكتاب :
قال تعالى " إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ " قال البخاري حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا حيوة وغيره قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي ثم قال أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " رواه البخاري في صحيحه
وجه الدلالة "سماهم في الحديث المسلمين وسماهم الله ظالمي أنفسهم ولم يطلق عليهم الكفر" .
ثانيا الدليل من السنة :
1ـ حديث حاطب رضي الله عنه في الصحيحين في كتابته للمشركين في فتح مكة فعن علي رضي الله عنه قال : بعثني الرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام وكلنا فارس قال : "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين" فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا الكتاب فقالت ما معنا كتاب فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا فقلنا ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما حملك على ما صنعت " قال حاطب والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صدق ولا تقولوا له إلا خيرا " فقال عمر إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال " أليس من أهل بدر ؟ فقال لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم " فدمعت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم . رواه البخاري ومسلم
وجه الدلالة :
أ ـ أنه أعان الكفار وإن لم تكن بمشاركة في القتال !.
ب ـ أن هذا الفعل قد يكون أشد نكاية بالمسلمين من المشاركة بالنفس .
قال ابن كثير " ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش لأجل ما كان عندهم من الأموال والأولاد " .
2- حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قصة سهل بن بيضاء وكان مسلما بمكة ويخفي إسلامه ثم خرج مع المشركين في بدر ووقع في الأسر فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضربة عنق فقال ابن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم بعد سكتة " إلا سهيل بن بيضاء " رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن وأبو عبيدة بن عبد الله لم يسمع من أبيه وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي . ([1])
3- قصة العباس : عن ابن عباس رضي الله عنها قال : " كان الذي أسر العباس بن عبد المطلب أبو اليسر بن عمرو وهو كعب بن عمرو أحد بني سلمة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف أسرته يا أبا اليسر " قال : لقد أعانني عليه رجل ما رأيته بعد ولا قبل هيئته كذا هيئته كذا قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد أعانك عليه ملك كريم " وقال للعباس : " يا عباس افد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن جحدم " أحد بني الحارث بن فهر قال : فأبى وقال : إني كنت مسلما قبل ذلك وإنما استكرهوني قال : " الله أعلم بشأنك ـ وفي رواية بإسلامك ـ إن يك ما تدعي حقا فالله يجزيك بذلك وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية ذهب فقال : يا رسول الله احسبها لي من فداي قال : " لا ذاك شيء أعطاناه الله منك " قال : فإنه ليس لي مال قال : " فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت عند أم الفضل وليس معكما أحد غيركما فقلت : إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا ولقثم كذا ولعبد الله كذا ؟ " قال : فوالذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد من الناس غيري وغيرها وإني لأعلم أنك رسول الله " رواه أحمد والحاكم والطبري والطبراني والبيهقي وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وحسنه الأرنؤوطي .
وجه الدلالة :
1 - لو كانت المشاركة مكفرة مطلقا لرد النبي صلى الله عليه وسلم بجواب واضح حيث لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
2 - قول النبي صلى الله عليه وسلم له " فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك " السؤال يجزيه على ما ذا ؟ طالما أن المشاركة ردة فلماذا يجزى ؟
ثالثا أقوال العلماء :
1ـ قول الشافعي : جاء في الأم " المسلم يدل المشركين على عورة المسلمين " قيل للشافعي أرأيت المسلم يكتب إلى المشركين من أهل الحرب بأن المسلمين يريدون غزوهم أو بالعورة من عوراتهم هل يحل ذلك دمه ويكون في ذلك دلالة على ممالاة المشركين ؟
(قال الشافعي) رحمه الله تعالى : لا يحل دم من ثبتت له حرمة الإسلام إلا أن يقتل أو يزنى بعد إحصان أو يكفر كفرا بينا بعد إيمان ثم يثبت على الكفر، وليس الدلالة على عورة مسلم، ولا تأييد كافر، بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها، أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بين، فقلت للشافعي : أقلت هذا خبرا أم قياسا ؟ قال قلته بما لا يسع مسلما علمه عندي أن يخالفه بالسنة المنصوصة بعد الاستدلال بالكتاب فقيل للشافعي فاذكر السنة فيه .. ـ فذكر رحمه الله قصة حاطب رضي الله عنه ـ ثم قال الشافعي رحمه الله : في هذا الحديث مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون لأنه لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال من أنه لم يفعله شاكا في الاسلام وأنه فعله ليمنع أهله ويحتمل أن يكون زلة لا رغبة عن الإسلام واحتمل المعنى الأقبح كان القول قوله فيما احتمل فعله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بأن لم يقتله ولم يستعمل عليه الأغلب ولا أحد أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذا لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غرتهم فصدقه ما عاب عليه الأغلب مما يقع في النفوس فيكون لذلك مقبولا كان من بعده في أقل من حاله وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه قيل للشافعي أفرأيت إن قال قائل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قد صدق إنما تركه لمعرفته بصدقة لا بأن فعله كان يحتمل الصدق وغيره فيقال له قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المنافقين كاذبون وحقن دماءهم بالظاهر فلو كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم في حاطب بالعلم بصدقه كان حكمه على المنافقين القتل بالعلم بكذبهم ولكنه إنما حكم في كل بالظاهر وتولى الله عز وجل منهم السرائر ولئلا يكون لحاكم بعده أن يدع حكما له مثل ما وصفت من علل أهل الجاهلية وكل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عام حتى يأتي عنه دلالة على أنه أراد به خاصا .اهـ الأم 4 / 249
2ـ قول ابن قدامة في المغني : " ومن أسر فادعى أنه كان مسلما لم يقبل قوله إلا ببينة لأنه يدعي أمرا الظاهر خلافه يتعلق به إسقاط حق يتعلق برقبته فان شهد له واحد حلف معه وخلي سبيله وقال الشافعي : لا تقبل إلا شهادة عدلين لأنه ليس بمال ولا يقصد منه المال ولنا ما روى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم بدر : لا يبقى منهم أحد إلا أن يفدى أو يضرب عنقه فقال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إلا سهيل بن بيضاء فقبل شهادة عبد الله وحده .اهـ
3ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وأيضا لا يقاتل معهم ـ أي التتار ـ غير مكره إلا فاسقٌ أو مبتدعٌ أو زنديق " الفتاوى 28 / 552
قلت ـ حسام ـ وقد سألت شيخنا إبراهيم الرحيلي حفظه الله عن هذه المسألة عبر الهاتف فأجابني بهذا التفصيل مستدلا بحديث حاطب رضي الله عنه .
([1]) قال حاتم بن عارف الشريف في الولاء والبراء بين الغلو والجفاء في هذا الحديث : أخرجه الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وهو من حديث أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود عن أبيه وهو لم يسمع من أبيه لكنه كان عالماً بحديثه لذلك جرى المحدثون على قبول حديثه عن أبيه ما لم يأت بخبر منكر وهذا ما قرّره ابن رجب في شرح العلل (1 / 29 نقلاً عن علي بن المديني ويعقوب بن شيبة وهذا ما يفسر تحسين الترمذي لحديثه هذا مع تعليقه عليه بعدم سماعه من أبيه .
قلت ـ حسام ـ ولعل ما ذكرت من أحاديث يصلح شاهدا لمعناه .
تعليق