بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في معرض ذكر أوجه ترجيح التائب على الطائع من ناحية الفضل، لا من ناحية الحسنات،
قال رحمه الله: " ...الوجه السادس: وهو قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح وهو حقيقة التوبة قال ابن عباس رضى الله عنهما: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بهذه الآية لما أنزلت وفرحه بنزول {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}.
واختلفوا في صفة هذا التبديل، وهل هو في الدنيا أو في الآخرة على قولين:
فقال ابن عباس وأصحابه: "هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها فبدلهم بالشرك إيمانا وبالزنا عفة وإحصانا وبالكذب صدقا وبالخيانة أمانة".
فعلى هذا معنى الآية: أن صفاتهم القبيحة وأعمالهم السيئة عوضها صفات جميلة وأعمالا صالحة كما يبدل المريض بالمرض صحة والمبتلى ببلائه عافية.
وقال سعيد بن المسيب وغيره من التابعين: "هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة".
واحتج أصحاب هذا القول بما روى الترمذى في جامعه: حدثنا الحسين بن حريث قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: قال رسول الله: "إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه ويخبأ عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا كذا وكذا وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من كبارها فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة فيقول: إن لي ذنوبا ما أراها ههنا قال أبو ذر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه".
فهذا حديث صحيح، ولكن في الاستدلال به على صحة هذا القول نظر، فإن هذا قد عُذِّبَ بسيئاته ودخل بها النار، ثم بعد ذلك أُخرج منها وأُعطي مكان كل سيئة حسنة، صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليه ابتداء بعدد ذنوبه.
وليس في هذا تبديل تلك الذنوب بحسنات، إذ ولو كان كذلك لما عوقب عليها! كما لم يعاقب التائب، والكلام إنما هو في تائب أثبت له مكان كل سيئة حسنة فزادت حسناته فأين في هذا الحديث ما يدل على ذلك؟
والناس استقبلوا هذا الحديث مستدلين به في تفسير هذه الآية على هذا القول، وقد علمت ما فيه، لكن للسلف غورٌ ودقة فهم لا يدركها كثير من المتأخرين.
فالاستدلال به صحيح بعد تمهيد قاعدة، إذا عُرِفَت عُرف لُطف الاستدلال به ودقته،
وهي أن الذنب لا بُدَّ له من أثر، وأثره يرتفع بالتوبة تارة، وبالحسنات الماحية تارة، وبالمصائب المكفرة تارة، وبدخول النار ليتخلص من أثره تارة.
وكذلك إذا اشتد أثره ولم تقو تلك الأمور على محوه، فلا بد إذا من دخول النار لأن الجنة لا يكون فيها ذرة من الخبيث ولا يدخلها إلا من طاب من كل وجه، فإذا بقي عليه شيء من خبث الذنوب أدخل كير الامتحان ليخلص ذهب إيمانه من خبثه فيصلح حينئذ لدار الملك.
إذا عُلِمَ هذا، فزوال مُوجِبِ الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح، وهي أقوى الأسباب، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار،
فإذا تطهر بالنار وزال أثر الوسخ والخبث عنه أُعطي مكان كل سيئة حسنة،
فإذا تطهر بالتوبة النصوح وزال عنه بها أَثر وسخ الذنوب وخبثها كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة، لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار وأحب إلى الله، وإزالة النار بدلٌ منها وهي الأصل، فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول..."
ثم قال رحمه الله: "...وتأمل قوله {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} ولم يقل مكان كل واحدة واحدة فهذا يجوز أن يبدل السيئة الواحدة بعدة حسنات بحسب حال المبدل.
وأما فى الحديث: "فإن الذي عُذِّبَ على ذنوبه لم يبدلها في الدنيا بحسنات من التوبة النصوح وتوابعها، فلم يكن له ما يجعل مكان السيئة حسنات، فأعطي مكان كل سيئة حسنة واحدة"
وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن كبار ذنوبه، ولما انتهى إليها ضحك ولم يبين ما يفعل الله بها وأخبر أن الله يبدل مكان كل صغيرة حسنة، ولكن في الحديث إشارة لطيفة إلى أن هذا التبديل يعم كبارها وصغارها من وجهين:
أحدهما: قوله: "أخبئوا عنه كبارها" فهذا إشعار بأنه إذا رأى تبديل الصغائر ذكرها وطمع في تبديلها فيكون تبديلها أعظم موقعا عنده من تبديل الصغائر وهو به أشد فرحا واغتباطا.
والثاني: ضحك النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكر ذلك، وهذا الضحك مشعر بالتعجب مما يفعل به من الإحسان وما يقر به على نفسه من الذنوب من غير أن يقرر عليها ولا يسأل عنها وإنما عرضت عليه الصغائر.
فتبارك الله رب العالمين، وأجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، البر اللطيف، المتودد إلى عباده بأنواع الإحسان وإيصاله إليهم من كل طريق بكل نوع، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم." انتهى النقل من كتاب مدارج السالكين: (255/1) ط.مؤسسة المختار
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في معرض ذكر أوجه ترجيح التائب على الطائع من ناحية الفضل، لا من ناحية الحسنات،
قال رحمه الله: " ...الوجه السادس: وهو قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح وهو حقيقة التوبة قال ابن عباس رضى الله عنهما: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بهذه الآية لما أنزلت وفرحه بنزول {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}.
واختلفوا في صفة هذا التبديل، وهل هو في الدنيا أو في الآخرة على قولين:
فقال ابن عباس وأصحابه: "هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها فبدلهم بالشرك إيمانا وبالزنا عفة وإحصانا وبالكذب صدقا وبالخيانة أمانة".
فعلى هذا معنى الآية: أن صفاتهم القبيحة وأعمالهم السيئة عوضها صفات جميلة وأعمالا صالحة كما يبدل المريض بالمرض صحة والمبتلى ببلائه عافية.
وقال سعيد بن المسيب وغيره من التابعين: "هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة".
واحتج أصحاب هذا القول بما روى الترمذى في جامعه: حدثنا الحسين بن حريث قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: قال رسول الله: "إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه ويخبأ عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا كذا وكذا وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من كبارها فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة فيقول: إن لي ذنوبا ما أراها ههنا قال أبو ذر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه".
فهذا حديث صحيح، ولكن في الاستدلال به على صحة هذا القول نظر، فإن هذا قد عُذِّبَ بسيئاته ودخل بها النار، ثم بعد ذلك أُخرج منها وأُعطي مكان كل سيئة حسنة، صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليه ابتداء بعدد ذنوبه.
وليس في هذا تبديل تلك الذنوب بحسنات، إذ ولو كان كذلك لما عوقب عليها! كما لم يعاقب التائب، والكلام إنما هو في تائب أثبت له مكان كل سيئة حسنة فزادت حسناته فأين في هذا الحديث ما يدل على ذلك؟
والناس استقبلوا هذا الحديث مستدلين به في تفسير هذه الآية على هذا القول، وقد علمت ما فيه، لكن للسلف غورٌ ودقة فهم لا يدركها كثير من المتأخرين.
فالاستدلال به صحيح بعد تمهيد قاعدة، إذا عُرِفَت عُرف لُطف الاستدلال به ودقته،
وهي أن الذنب لا بُدَّ له من أثر، وأثره يرتفع بالتوبة تارة، وبالحسنات الماحية تارة، وبالمصائب المكفرة تارة، وبدخول النار ليتخلص من أثره تارة.
وكذلك إذا اشتد أثره ولم تقو تلك الأمور على محوه، فلا بد إذا من دخول النار لأن الجنة لا يكون فيها ذرة من الخبيث ولا يدخلها إلا من طاب من كل وجه، فإذا بقي عليه شيء من خبث الذنوب أدخل كير الامتحان ليخلص ذهب إيمانه من خبثه فيصلح حينئذ لدار الملك.
إذا عُلِمَ هذا، فزوال مُوجِبِ الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح، وهي أقوى الأسباب، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار،
فإذا تطهر بالنار وزال أثر الوسخ والخبث عنه أُعطي مكان كل سيئة حسنة،
فإذا تطهر بالتوبة النصوح وزال عنه بها أَثر وسخ الذنوب وخبثها كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة، لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار وأحب إلى الله، وإزالة النار بدلٌ منها وهي الأصل، فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول..."
--------
ثم قال رحمه الله: "...وتأمل قوله {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} ولم يقل مكان كل واحدة واحدة فهذا يجوز أن يبدل السيئة الواحدة بعدة حسنات بحسب حال المبدل.
وأما فى الحديث: "فإن الذي عُذِّبَ على ذنوبه لم يبدلها في الدنيا بحسنات من التوبة النصوح وتوابعها، فلم يكن له ما يجعل مكان السيئة حسنات، فأعطي مكان كل سيئة حسنة واحدة"
وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن كبار ذنوبه، ولما انتهى إليها ضحك ولم يبين ما يفعل الله بها وأخبر أن الله يبدل مكان كل صغيرة حسنة، ولكن في الحديث إشارة لطيفة إلى أن هذا التبديل يعم كبارها وصغارها من وجهين:
أحدهما: قوله: "أخبئوا عنه كبارها" فهذا إشعار بأنه إذا رأى تبديل الصغائر ذكرها وطمع في تبديلها فيكون تبديلها أعظم موقعا عنده من تبديل الصغائر وهو به أشد فرحا واغتباطا.
والثاني: ضحك النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكر ذلك، وهذا الضحك مشعر بالتعجب مما يفعل به من الإحسان وما يقر به على نفسه من الذنوب من غير أن يقرر عليها ولا يسأل عنها وإنما عرضت عليه الصغائر.
فتبارك الله رب العالمين، وأجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، البر اللطيف، المتودد إلى عباده بأنواع الإحسان وإيصاله إليهم من كل طريق بكل نوع، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم." انتهى النقل من كتاب مدارج السالكين: (255/1) ط.مؤسسة المختار
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين