مذاهب الفرق الإسلامية في عذر من أخطأ في مسائل الأصول أو الفروع [تلخيص وبيان][تعليقات على الطحاوية وشرحها (3)]
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد
فإنَّ من البدع القديمة مسألة قطع العذر عن المخالف في مسائل أصول الدين وإثباته في الفروع، وجعل هذا الحكم ملازمًا للفظ وصفة له، فمتى ما كانت المسألة أصولية فلا عذر، ومتى ما كانت فرعية فالعذر واقع ومُستحق! وبعضهم يمنع العذر في الأصول والفروع، وبعضهم يفصل..!! وهذا من الخلل في فهم كلام الشارع ، ثم في فهم مناط التكفير والتبديع والتفسيق، وقد أحيا هذه البدعة جماعة معاصرة ممن غلو في باب الجرح والتعديل، فتراهم يكفرون أو يبدعون أو يفسقون من أخطأ في الأصول مطلقًا، بل تجاوزوا حتى صاروا يفسقون ويبدعون بما يَعدُّه كثير من مبتدعة الأزمان السابقة من الفروع، فجاوزهم من هذه الجهة، إلا أنَّ خطر إطلاق التكفير والتبديع بالأصول أخفى وأدق من التكفير والتبديع بالفروع!،، وهذه المشاركة إنما هي تتمة للتعليقة السابقة على استخدام ابن أبي العز للفظ "أصول الدين" فبينت فيها معنى هذا الاصطلاح عند أهل الحديث ثم بيَّنت سبب إنكار ابن تيمية-رحمه الله- لهذا التقسم في مواضع (أصول وفروع)، وبيَّنت كذلك أنَّ إنكاره ليس على إطلاقه [1]، فتتمة لذلك الموضوع كانت هذه التعليقة في بيان حكم من خالف في الأصول أو الفروع ، وقد اختلف أهل القبلة في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
1- لَا يُؤَثِّمُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا لَا فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ وَلَا فِي الْفُرُوعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِن السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى.
2- قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ دَلِيلًا يُعْرَفُ بِهِ، يُمْكِنُ كُلَّ مَنِ اجْتَهَدَ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ فِي مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ أَوْ فُرُوعِيَّةٍ، فَإِنَّمَا هُوَ لِتَفْرِيطِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لَا لِعَجْزِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ: وَهُوَ قَوْلٌ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ.
ثم هؤلاء قالوا:
الْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَفْرِغْ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ فَيَأْثَمُ.
أمَّا الْمَسَائِلَ الْعَمَلِيَّةَ فلهم فيها مذهبان:
أ- أَنَّهَا كَالْعِلْمِيَّةِ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ مَسْأَلَةٍ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، مَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ آثِمٌ. وَهَذَا قَوْلُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ.
ب- أَنَّها إِنْ كَانَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فَإِنَّ مَنْ خَالَفَهُ آثِمٌ مُخْطِئٌ كَالْعِلْمِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ فِي الْبَاطِنِ فلا يكون آثمًا.وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْأَوَّلِينَ في أّنَّ :الْخَطَأُ وَالْإِثْمُ مُتَلَازِمَانِ. لكن عدَمُ الإثْمِ لِعَدَمِ الحُكْم أصلًا.وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ كَالْجِبَائِيِّ وَابْنِهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَشْهَرُهُمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ.
3- القول الثالث: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُسْتَدِلَّ قَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ، لَكِنْ إِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ لَا يُعَاقِبُهُ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَذِّبَ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرَ لِمَنْ يَشَاءُ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا، بَلْ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ.
ثم هؤلاء يمنعونه في حَقِّ الكافر وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الْمُخْتَلِفُونَ فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْفُرُوعِيَّاتِ، فَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ: لَا عَذَابَ فِيهَا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لِأَنَّ الشَّارِعَ عَفَا عَنِ الْخَطَأِ فِيهَا، وَعُلِمَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى الْمُخْطِئِ فِيهَا. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الظَّنِّيَّاتِ مُمْتَنِعٌ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ بَعْضِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ. وَأَمَّا الْقَطْعِيَّاتُ فَأَكْثَرُهُمْ يُؤَثِّمُ الْمُخْطِئَ فِيهَا.
هذا تلخيص لكلام ابن تيمية-رحمه الله- ودونك كلامه بنصه:
وَنَحْنُ نَذْكُرُ قَاعِدَةً جَامِعَةً فِي هَذَا الْبَابِ لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْأُمَّةِ فَنَقُولُ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِنْسَانِ أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ يَرُدُّ إِلَيْهَا الْجُزْئِيَّاتِ لِيَتَكَلَّمَ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ، ثُمَّ يَعْرِفُ الْجُزَيْئَاتِ كَيْفَ وَقَعَتْ، وَإِلَّا فَيَبْقَى فِي كَذِبٍ وَجَهْلٍ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَجَهْلٍ وَظُلْمٍ فِي الْكُلِّيَّاتِ [فَيَتَوَلَّدُ فَسَادٌ عَظِيمٌ].
فَنَقُولُ: النَّاسُ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَخْطِئَتِهِمْ وَتَأْثِيمِهِمْ وَعَدَمِ تَأْثِيمِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ أُصُولًا جَامِعَةً نَافِعَةً.
الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يَعْرِفَ بِاجْتِهَادِهِ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا نِزَاعٌ؟ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ فَاجْتَهَدَ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فَلَمْ يَصِلْ إِلَى الْحَقِّ، بَلْ قَالَ مَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: هَلْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ أَمْ لَا؟ .
هَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ; كُلُّ قَوْلِ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ النُّظَّارِ.
الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ دَلِيلًا يُعْرَفُ بِهِ، يُمْكِنُ كُلَّ مَنِ اجْتَهَدَ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ فِي مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ أَوْ فُرُوعِيَّةٍ، فَإِنَّمَا هُوَ لِتَفْرِيطِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لَا لِعَجْزِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ: وَهُوَ قَوْلٌ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ.
ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ: أَمَّا الْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ فَعَلَيْهَا أَدِلَّةٌ قَطْعِيَّةٌ تُعْرَفُ بِهَا، فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَفْرِغْ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ فَيَأْثَمُ.
وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْعَمَلِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَلَهُمْ فِيهَا مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَالْعِلْمِيَّةِ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ مَسْأَلَةٍ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، مَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ آثِمٌ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ أَصْلِيَّةٍ وَفَرْعِيَّةٍ، وَكُلُّ مَنْ سِوَى الْمُصِيبِ فَهُوَ آثِمٌ لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ، وَالْخَطَأُ وَالْإِثْمُ عِنْدَهُمْ مُتَلَازِمَانِ. وَهَذَا قَوْلُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَسَائِلَ الْعَمَلِيَّةَ إِنْ كَانَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فَإِنَّ مَنْ خَالَفَهُ آثِمٌ مُخْطِئٌ كَالْعِلْمِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ فِي الْبَاطِنِ، وَحُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْأَوَّلِينَ فِي أَنَّ الْخَطَأَ وَالْإِثْمَ مُتَلَازِمَانِ ، وَأَنَّ كُلَّ مُخْطِئٍ آثِمٌ، لَكِنْ خَالَفُوهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَقَالُوا: لَيْسَ فِيهَا قَاطِعٌ.
وَالظَّنُّ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ مَيْلِ النُّفُوسِ إِلَى شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ. فَجَعَلُوا الِاعْتِقَادَاتِ الظَّنِّيَّةَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ، وَادَّعَوْا أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ [حُكْمٌ مَطْلُوبٌ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا ثَمَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ] أَمَارَةٌ أَرْجَحُ مِنْ أَمَارَةٍ.
وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ كَالْجِبَائِيِّ وَابْنِهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَشْهَرُهُمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بَسْطًا كَثِيرًا [فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ] .
وَالْمُخَالِفُونَ لَهُمْ كَأَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ، يَقُولُونَ: هَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُهُ سَفْسَطَةٌ وَآخِرُهُ زَنْدَقَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَهُوَ مُصِيبٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ الَّذِي خَفِيَ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ لَا فِي حَقِّهِ وَلَا فِي حَقِّ أَمْثَالِهِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُخْطِئًا وَهُوَ الْمُخْطِئُ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ فَهُوَ آثِمٌ عِنْدَهُمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُسْتَدِلَّ قَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ، لَكِنْ إِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ لَا يُعَاقِبُهُ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَذِّبَ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرَ لِمَنْ يَشَاءُ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا، بَلْ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ: قَدْ عُلِمَ بِالسَّمْعِ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ، سَوَاءٌ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ صِحَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يَجْتَهِدْ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الْمُخْتَلِفُونَ فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْفُرُوعِيَّاتِ، فَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ: لَا عَذَابَ فِيهَا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لِأَنَّ الشَّارِعَ عَفَا عَنِ الْخَطَأِ فِيهَا، وَعُلِمَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى الْمُخْطِئِ فِيهَا. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الظَّنِّيَّاتِ مُمْتَنِعٌ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ بَعْضِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ. وَأَمَّا الْقَطْعِيَّاتُ فَأَكْثَرُهُمْ يُؤَثِّمُ الْمُخْطِئَ فِيهَا، وَيَقُولُ: إِنَّ السَّمْعَ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤَثِّمُهُ.
وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ فَيَقُولُ: هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ، لَا يُؤَثِّمُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا لَا فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ وَلَا فِي الْفُرُوعِيَّةِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ. وَلِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا يَقْبَلُونَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، إِلَّا الْخَطَّابِيَّةَ ، وَيُصَحِّحُونَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ. وَالْكَافِرُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ.
وَالْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤَثِّمُ الْمُخْطِئَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ: لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ. وَأَنْكَرَ جُمْهُورُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا الْقَوْلَ.
وَقَالُوا: هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ: إِنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ وَلَا يُفَسِّقُونَ وَلَا يُؤَثِّمُونَ أَحَدًا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُخْطِئِينَ، لَا فِي مَسْأَلَةٍ عَمَلِيَّةٍ وَلَا عِلْمِيَّةٍ.
قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ. وَانْتَقَلَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى أَقْوَامٍ تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَلَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ هَذَا الْقَوْلِ وَلَا غَوْرَهُ.
قَالُوا: وَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ كَمَا أَنَّهُ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ، بَلْ وَلَا قَالَهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، فَهِيَ بَاطِلَةٌ عَقْلًا ; فَإِنَّ الْمُفَرِّقِينَ بَيْنَ مَا جَعَلُوهُ مَسَائِلَ أُصُولٍ وَمَسَائِلَ فُرُوعٍ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا بِفَرْقٍ صَحِيحٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، بَلْ ذَكَرُوا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ أَوْ أَرْبَعَةً كُلُّهَا بَاطِلَةٌ. ا.هـــ[منهاج السنة 5\83-88]
الهامش:
[1] وقد اشترطت الاختصار قدر الطاقة وإلا فهذه المباحث تحتمل من البسط والنقاش شيئا كثيرًا لكن حاولت الاقتصار على إيقاف القارئ على بعض النقول المهمة خلال هذه التعاليق مع بعض البيان والتوضيح.
رابط الحلقة الأولى من سلسلة التعليقات: *الصواب عدم إطلاق القول بأنَّ أول واجب على العباد هو "التوحيد" "الشهادتان" "عبادة الله"...[كلام نفيس لابن تيمية مع زيادات][سلسلة تعليقات على الطحاوية وشرحها (1)]
رابط الحلقة الثانية من سلسلة التعليقات:يُطلق أهلُ الحديث والتَّصوّف وأئمّةُ الفقهاء وطائفةٌ مِن أهل الكلام عبارةَ "أصول الدّين"على..[وهل هذا التقسيم منكر مطلقًا؟][التعليقات على الطحاوية وشرحها (2)]