الصواب عدم إطلاق القول بأنَّ أول واجب على العباد هو "التوحيد" "الشهادتان" "عبادة الله"...[كلام نفيس لابن تيمية مع زيادات][سلسلة تعليقات على الطحاوية وشرحها (1)]
الحمدلله الذي فطر الخلق على عبادته وتوحيده وأرسل الرسل لإقامة حجته وبيان دينه والصلاة والسلام على من اصطفاه لبلاغ شريعته وعلى آله وصحبه ، أما بعد
فإنَّي أحببت أنَّ أشارك إخواني بين حين وآخر بتعليقات ونقول على مسائل مهمة في شرح ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله- على متن الإمام محمد بن أحمد بن سلامة الطحاوي -رحمه الله- المشهور باسم "العقيدة الطحاوية"، وهذه التعليقات ربما تكون أحيانًأ تعقبات أو زيادات أو توضيحات على كلام الماتن أو الشارح، وسأقتصر من ذلك على ما أعلم عزته.
وأحببت أن أفتتح هذه الحلقات بالتنبيه على مسألة دخلت في كتب العقيدة ردًا على انحرافات كلامية وتخرصات فلسفية، وهذه المسألة عنون لها أصحابها بـ "أول واجب على العبد" "أول واجب على المكلف" "أول واجب على العبيد"...وقد اختلف أهل الكلام في هذه المسألة على اثني عشر قولًا سردها الباجوري في كتابه " تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد"، والخلاف بينهم في حقيقته نظري كما قرر الجويني والرازي والتفتازاني ووافقهم ابن تيمية-رحمة الله عليهم جميعا- وغير واحد من الباحثين، ولمَّا حدثت هذه البدعة انتشر مبحثها في كتب أهل السنة للرد على مذاهبهم فيها سواء من قال: إنَّ أول واجب هو: (النظر) أو (القصد إلى النظر) أو (أول أجزاء النظر) أو (المعرفة) أو (الشك) أو أو ...، وكان لابد حينها على علماء السنة من تحديد موقفهم الصحيح من هذه المقولة، ثم بيان القول المعتمد المستقى من الأدلة الشرعية وأقوال السلف -فهما المرجع الوحيد لأهل السنة في تقرير عقائدهم وما سوى ذلك فإنما يورد على سبيل تكثير الأدلة كالعقل والفطرة ونحوها- فحينها وجدنا جماعة من علماء السنة صار يطلق القول :إنَّ أول واجب على العبيد هو (التوحيد) أو (عبادة الله) أو (معرفة الله) أو (شهادة ألا إله إلا الله) ونحوها من العبارات التي هي كذلك متفقة معنى وإن اختلفت ألفاظها فمرادهم الشهادتين وتعلم ما دلت عليهما، وفي هذا يقول ابن أبي العز -رحمه الله - في شرحه:
وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا النَّظَرُ، وَلَا الْقَصْدُ إِلَى النَّظَرِ، وَلَا الشَّكُّ، كَمَا هِيَ أَقْوَالٌ لِأَرْبَابِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ. بَلْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ الشَّهَادَتَانِ، وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَجْدِيدِ ذَلِكَ عَقِيبَ بُلُوغِهِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ أَوْ مَيَّزَ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُخَاطِبَهُ حِينَئِذٍ بِتَجْدِيدِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَوُجُوبُهُ يَسْبِقُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ، لَكِنْ هُوَ أَدَّى هَذَا الْوَاجِبَ قَبْلَ ذَلِكَ. "[25-26 ط.الريان ت:ياسين]
وهذا قريب من كلام ابن تيمية فقد نقل ابن أبي العز هنا كلامه بالمعنى فقد قال ابن تيمية -رحمه الله- في "درء تعارض العقل والنقل":
والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أنَّ أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ." [8\11]
وهذا الكلام بهذه القيود يصح إطلاقه وبالمقابل يتضح حكم إطلاق القول بأنَّ أول واجب هو الشهادتان لخروج أكثر المسلمين لأنَّهم قد حصَّلوا هذا قبل البلوغ وفي ذلك الوقت لا تكليف بالوجوب، ولذا قيَّد ابن تيمية-رحمه الله- كلامه فقال: ومتفقون على أنَّ من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك" فهو حقيقة في حقه ليس بأول واجب، وقد صرَّح ابن تيمية-رحمه الله- بهذا كما سيأتي لكن وجدنا من مشايخ السنة من يذكر مثلًا قول ابن القيم -رحمه الله - في المدارج:
فالتوحيد أوَّل ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال النبي من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة فهو أول واجب وآخر واجب فالتوحيد أوَّل الأمر وآخره " [3\444، وقد نقله ابن أبي العز كذلك في شرحه]
وإكلام ابن القيم فيه إشارة إلى أنَّ الوجوب هنا مقيَّد لمن أراد دخول الإسلام وهذا متوجه صحيح لا إشكال عليه.
ولكن من العلماء من أطلق حقيقة كالشيخ حافظ حكمي -رحمه الله- فقد قال في سلم الوصول:
أول واجب على العبيد*** معرفةالرحمن بالتوحيد
قال في شرح كلامه:
أول واجب فرضه الله عز و جل على العبيد هو معرفة الرحمن أي معرفتهم إياه بالتوحيد ا.هـ معارج القبول.
وقال صاحب تيسير العزيز الحميد:
أول واجب على المكلف لا النظر ولا القصد الى النظر ولا الشك في الله كما هي أقوال لمن لم يدر ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه و سلم من معاني الكتاب والحكمة فهو أول واجب وآخر واجب وأول ما يدخل به الاسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا ا.هـ [وقد لخصه من الموضعين من كلام ابن أبي العز اللذين نقلهما عن الشيخين]
وهكذا في موضعين آخرين.
والصواب أنَّ هذا الإطلاق إنما يصح لو أراد المتكلم
أنَّ أول ما بدأت به الرسل التوحيد، وأوَّل ما يؤمر به الكافر ويدعى إليه التوحيد، فإنَّ هذا (صحيح مستقيم) وقد دلت عليه (الأدلة المتكاثرة)من الكتاب والسنة، وأكتفي بحديث واحد ألا وهو حديث معاذ الشهير فقال فيه النبي-صلى الله عليه وسلم-:
« إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ...» . متفق عليها وفي ورواية البخاري «يوحدوا الله تعالى» .
أما من استدل من مشايخ السنة على إطلاق الحكم بهذا الحديث ونحوه من الأحاديث فلا يصح إلا على هذا التفسير لأنَّ المسلمين في أصقاع الأرض ممن وحدوا الله قبل بلوغهم أوَّل ما يؤمرون به عند البلوغ هو واجب الوقت لا التوحيد فلا يصح الإطلاق بأنَّ أول واجب على العباد أو على المكلفين هو الشهادة ؛ لأنَّ التكليف مناطه بعد البلوغ لا قبله وهم قد حصلوه.
وقد تنبَّه إلا هذا أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- فقال في "الدرء":
وأول الواجبات الشرعية يختلف باختلاف أحوال الناس، فقد يجب على هذا ابتداءً ما لا يجب على هذا ابتداءً، فيخاطب الكافر عند بلوغه بالشهادتين، وذلك أول الواجبات الشرعية التي يؤمر بها.
وأما المسلم فيخاطب بالطهارة إذا لم يكن متطهراً، وبالصلاة وغير ذلك من الواجبات الشرعية التي لم يفعلها.
وفي الجملة فينبغي أن يعلم أن ترتيب الواجبات في الشرع واحداً بعد واحد، ليس هو أمراً يستوي فيه جميع الناس، بل هم متنوعون في ذلك، فكما أنه قد يجب على هذا ما لا يجب على هذا، فكذلك قد يؤمر هذا ابتداءً بما لا يؤمر به هذا.
فكما أن الزكاة يؤمر بها بعض الناس دون بعض، وكلهم يؤمر بالصلاة، فهم مختلفون فيما يؤمرون به ابتداءً من واجبات الصلاة، فمن كان يحسن الوضوء وقراءة الفاتحة، ونحو ذلك من واجباتها، أمر بفعل ذلك، ومن لم يحسن ذلك أمر بتعلمه ابتداءً، ولا يكون أول ما يؤمر به هذا من أمور الصلاة، هو أول ما يؤمر به هذا." [8\16-17]
وهذا كلام نفيس يوزن بالذهب، فهنا يصرح ابن تيمية-رحمه الله- على عدم صحة الإطلاق وأنَّ الناس يختلفون في أول واجب: فالكافر أوَّل واجب في حقه الشاهدتان والمسلم إما الطهارة أو الصلاة...،وهذا هو الصواب في هذه المسألة، وهو تفصيل القول فيها، وعدم الإطلاق إلا كما أطلق محققو العلماء في سياق دعوة الكفار أو أول ما ابتدأ به الرسل، فهذه السياقات تقيد العموم والإطلاق، أما إن كان الكلام في خصوص المسلمين فأول واجب يختلف باختلاف أحوالهم، وهكذا كثير من المسائل التي كان سبب الخوض فيها تكلفات أهل الكلام تجد أنَّ صواب قول أهل السنة فيها هو التفصيل لا مقابلة إطلاقهم بمثله، فلعل بعد هذا يتنبه كثيرٌ من إخواننا ومن يشرح كتب التوحيد فيستفيدون من كلام ابن تيمية-رحمه الله- المشار إليه سابقًا، وبهذا تنتهي هذه التعليقة والافتتاحية والله تعالى أعلى وأعلم.
تنبيه: هناك تخريجات في قول بعضهم أول واجب هو عبادة الله، وهذا صحيح لكن مراد من أطلق هذه العبارة هو الشهادة وإلا فالعبادة هي اسم لكل الواجبات فلا معنى لتخصيصها بأول! وهكذا قول بعضهم معرفة الله أو أو...ولكني لم أرد الإطالة في بحث أقوال علماء السنة في شروحهم المختلفة-فليست بغائبة عن ذهني - ولعلي أخصص بذلك مقالا لكن أردت إيقاف القارئ على كلام ابن تيمية-رحمه الله- أما مناقشة بعض العبارات لبعض أهل السنة فأتركه لمحل آخر فإنَّ له تشعبات في حكم إيمان المقلد؟ وهل معرفة الله فطرية ؟ فلو كان كذلك فكيف نقول: أول واجب على العباد هو تعلم أدلة التوحيد؟! وقد صححنا إيمان المقلد أو قلنا بأن توحيد الله فطريٌ..الخ المناقشات الطويلة والاعتراضات الواردة عليها ، لذا أعرضت عنها لعل الله ييسر ذلك في وقت نشاط والله المستعان.
تعليق