خمس أوجه مختصرة واضحة في نقض استدلال المعطلة بقول إبراهيم-عليه السلام- ( لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) على إنكار الصفات الفعلية أو (قيام الحوادث به سبحانه) [من كلام ابن تيمية-رحمه الله]
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد
فإنَّ الاستدلال بقصة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مع قومه [1] على نفي الأفعال الاختيارية الفعليه لله عز وجل أو بحسب تعبيرهم (نفي قيام الحوادث به سبحانه وتعالى) من الأدلة التي يشنشن بها المعتزلة والأشاعرة في كتبهم وقد رد شيخ الإسلام على هذا الاستدلال بأدلة واضحة بينة إذا حفظها طالب العلم صارت سلاحًا له سواء في نقاشه أو تدريسه..، وقد ذكرها شيخ الإسلام في مواطن عدة، كما في"بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية" فقد أوردها باختصار وأطال في مقصوده قليلا في "درء تعارض العقل والنقل" ..، وقبل أن أنقل ملخصها لابد من ذكر وجه استدلالهم بالآيات الكريمات، قال الله تعالى كما في سورة الأنعام:
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)"
قالوا: الأفول بمعنى التغير فلما كانت هاته النجوم متحركة متغيرة استدل بذلك على حدوثها فلذا لا يصح قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه لأنها كذلك تكون في وقت دون وقت فتفيد التغير والحركة كالنزول والاستواء والمجيء..
* سأورد أولًا كلام ابن تيمية باختصار ثم بتفصيل، قال رحمه الله:
أما أولا: فإنَّ إبراهيم إنَّما قال لا أحب الآفلين والأفول هو المغيب والاختفاء بالعلم القائم المتواتر الضروري في النفس واللغة ولم ينقل أحدٌ أنَّ الأفول مجرد الحركة.
وأما ثانيا فإنَّه قد قال (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (7"
ومعلوم أنَّه من حين البزوغ ظهرت فيه الحركة فلو كانت هي الدليل على الحدوث لم يستمر على ما كان عليه إلى حين المغيب، بل هذا يدل على أنَّ الحركة لم يستدل بها أو لم تكن تدل عنده على نفس مطلوبه.
وأما ثالثا فإنَّه قال:لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ" فنفى محبته فقط ولم يتعرض لما ذكروه.
وأما رابعا فمن المعلوم أنَّ أحدا من العقلاء لم يكن يظن أنَّ كوكبا من الكواكب دون غيره من الكواكب هو رب كل شيء حتى يكون رب سائر الكواكب والأفلاك والشمس والقمر. (انظر هذه الأربع في [بغية المرتاد 359-360] و[درء 8\355-356])
خامسًا: أنَّ هذا القول الذي قالوه لم يقله أحدٌ من علماء السلف أهل التفسير، ولا من أهل اللغة، بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام، كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة، وبينوا أنَّ هذا من التفسير المبتدع. [درء 1\314]
هذه خمس أوجه ذكرها ابن تيمية-رحمه الله- وإليك تفصيل أربع منها من كتابه العظيم "درء تعارض العقل والنقل" قال:
الوجه الأول:
أحدهما: أنَّ قول الخليل {هذا ربي} ـ سواء قاله على سبيل التقدير لتقريع قومه، أو على سبيل الاستدلال والترقي: أو غير ذلك ـ ليس المراد به: هذا رب العالمين القديم الأزلي الواجب الوجود بنفسه، ولا كان قومه يقولون: إن الكواكب أو القمر أو الشمس رب العالمين الأزلي الواجب الوجود بنفسه، ولا قال هذا أحد من اهل المقالات المعروفة التي ذكره الناس: لا من مقالات أهل التعطيل والشرك الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب، ولا من مقالات غيرهم، بل قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم، كانوا يتخذونها أرباباً يدعونها ويتقربون إليها بالبناء عليها والدعوة لها والسجود والقرابين وغير ذلك، وهو دين المشركين الذين صنف الرازي كتابه على طريقتهم وسماه السر المكتوم في دعوة الكواكب والنجوم والسحر والطلاسم والعزائم. ا.هـ
الوجه الثاني:
أنَّه لو كان المراد بقوله: {هذا ربي} أنَّه رب العالمين، لكانت قصة الخليل حجة على نقيض مطلوبهم، لأنَّ الكوكب والقمر والشمس ما زال متحركاً من حين بزوغه إلى عند أفوله وغروبه، وهو جسم متحرك متحيز صغير، فلو كان مراده هذا للزم أن يقال: إنَّ إبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من كون المتحرك المنتقل رب العالمين، بل ولا كونه صغيراً بقدر الكوكب والشمس والقمر.
وهذا ـ مع كونه لا يظنه عاقل ممن هو دون إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه -فإن جوَّزوه عليه كان حجة عليهم، لا لهم.
الوجه الثالث:
أنَّ الأُفول هو المغيب والاحتجاب، ليس هو مجرد الحركة والانتقال، ولا يقول أحدٌ - لا من أهل اللغة ولا من أهل التفسير - إنَّ الشمس والقمر في حال مسيرهما في السماء: إنَّهما آفلان، ولا يقول للكواكب
المرئية في السماء، في حال ظهورها وجريانها: إنَّها آفلة، ولا يقول عاقل لكل من مشى وسافر وسار وطار: إنه آفل.
الوجه الرابع:
أنَّ هذا القول الذي قالوه لم يقله أحدُ من علماء السلف أهل التفسير، ولا من أهل اللغة، بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام، كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة، وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع.
وبسبب هذا الابتداع أخذ ابن سينا وأمثاله لفظ الأفول بمعني الإمكان، كما قال في إشاراته:
قال قوم إنَّ هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه، لكن إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجباً، وتلوت قوله تعالى {لا أحب الأفلين} [الأنعام: 76] فإنَّ الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما.
فهذا قوله، ومن المعلوم بالضرورة من لغة العرب: أنَّهم لا يسمون كل مخلوق موجود آفلا، ولا كل موجود بغيره آفلاً، ولو كان الخليل أراد بقوله {لا أحب الأفلين} [الأنعام: 76] هذا المعنى، لم ينتظر مغيب الكوكب والشمس والقمر، ففساد قول هؤلاء المتفلسفة في الاستدلال بالآية أظهر من فساد قول أولئك. ا.هــ باختصار يسير من [درء 1\311-315]
وبهذا ينتهي المراد نقله، ولولا اشتهار الشبهة وظهور الحجة في ردها لما نقلتها هكذا لجميع القرَّاء، فإنَّ من الشبه ما قد يستحكم في قلوب العامة لقلة علمهم فيصعب بعد ذلك إزالتها، ومما شجعني أيضًا على نشرها: أنَّ منتدانا ولله الحمد هو لطلبة العلم بالدرجة الأولى فالحمدلله رب العالمين ورحم الله ابن تيمية وأسكنه فسيح جناته.
الهامش:
[1] (سواء كانت تلك القصة على سبيل المحاججة كما رجحه جماعة من علماء الإسلام منهم ابن تيمية أو على سبيل الاستدلال كما رجحه ابن الوزير -رحم الله الجميع)
تعليق