عبارة بعض السلف "نَاظَرُوا الْقَدَرِيَّةَ بِالْعِلْمِ فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ خُصِمُوا وَإِنْ جَحَدُوهُ كَفَروا" قليل من يفهمها وكثير من يرددها؟!
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين أما بعد
فإنَّ كلام السلف على وجازته واختصاره فيه أقوى الحجج وأبْيَّن الكلام، كما قال القائل: كلام السلف قليل اللفظ كثير البركة" ، قال ابن رجب -رحمه الله -:
في كلام السلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق التنبيه على مأخذ الفقه ومدارك الأحكام بكلام وجيز مختصر يفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب، وفي كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه ا.هـ [فضل علم السلف على علم الخلف]
فحسبك بهذه الكلمات النيرات والجُمل الحسان من هذا العالم الخبير بكلام السلف فما عليك إلا أن تقلِّب كتبه وشروحه لترى مدى اعتنائه بالآثار السلفية، ومن استمع لنصيحته وعاش مع أولئك الأوائل وجد كلامهم حقًا قد احتوى على أنفس الحجج بأدنى إشارة وألطفها، وكم! وكم! قد رأيت من كلمات وحجج يستدل بها الكبار كابن تيمية وابن القيم ومن بعدهم وأصلها من كلام أحمد أو مالك أو الشافعي أو سفيان أو الأوزاعي أو الدارمي أو ابن مندة أو الصابوني أو الأشعري أو الخطيب أو ابن حزم! فتجد من المتأخرين من يتمايل ويعجب من قوتها ثم تجده ينسبها لمتأخر كابن تيمية أو ابن القيم أو حتى العثيمين-رحمهم الله- ! ولا يدري أنَّ هذا هو عين كلام من تقدَّم وإنما كان من الإمام الفحل أن ارتوى من كلام السلف بل قبله من كلام الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم- فنطق بالحكمة فكما أنَّ ابن القيم شرح كلام شيخه ووضحه وانتصر له، فهكذا هو حال ابن تيمية مع السلف شرح كلامهم ووضحه وانتصر له ولا بد لطالب العلم إذا فهم منهج أهل السنة أن يرجع للأصول السلفية والآثار المسندة فهي الثمرة الطيبة في الأرض الطيبة في الزمان الطيب.
* أعود فأقول: تناقل جماعة من العلماء عن بعض السلف مقولةً -وبعضهم ينسبها للشافعي- ألا وهي "نَاظَرُوا الْقَدَرِيَّةَ بِالْعِلْمِ فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ خَصَمُوا وَإِنْ جَحَدُوهُ كَفَروا" ولم أرها مسندة -وإن كان النفي يحتاج لمزيد تتبع - وقد ذكرها ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب "الإيمان الأوسط"، وفي ومج الفتاوى [23-349] حيث نسبها لبعض السلف، ومثله ابن رجب في كتاب "جامع العلوم والحكم" [1] ، وهكذا ابن القيم في "طريق الهجرتين"، ونُسبت لعمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- .
وهذه الكلمة تتردد في كلام كثير من العلماء إلا أنَّك إذا تتبعت تلك المواضع تجدهم لا يوضحون وجه الحجة فيها، وإليك مثالًا واحدًا ولن أمثِّل للمعاصرين لتجنب العصبية [2] :
1- قال ابن تيمية في الإيمان الأوسط: "وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا لأن ما أقروا به حجة عليهم " ا.هـ [تنبيه: ولا يعني هذا بحال عدم ظهور وجه الحجة لهم!]
لكن ما وجه كون إقرارهم بالعلم حجة عليهم؟! لم يذكر.
وقبل أن أقرب معناها أنقل لك كلام العلامة ابن القيم -رحمه الله- في طريق الهجرتين " ثم سأعلق عليه، قال رحمه الله:
وسأل أبو الحسن الأشعري أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوة لأب وأم مات أحدهم صغيرا وبلغا الآخر فاختار لإسلام وبلغ الآخر فاختار الكفر فاجتمعوا عند رب العالمين فرفع درجة البالغ المسلم فقال أخوه الصغير: يا رب! ارفع درجتي حتى أبلغ منزلة أخي. فقال: إنَّك لا تستحق، إنَّ أخاك بلغ فعمل أعمالا استحق بها تلك الدرجة. فقال: يا رب! فهلا أحييتني حتى أبلغ فأعمل عمله!؟. فقال: كانت تلك لمصلحة تقتضي اخترامك قبل البلوغ، لأنِّي علمت أنَّك لو بلغت لاخترت الكفر فكانت المصلحة في قبضك صغيرًا؟ قال: فصاح الثالث بين أطباق النار، وقال: يا رب! لِمَ لم تمتني صغيرًا ؟!
- فما جواب هذا أيها الشيخ؟!
- فلم يرد إليه جوابًا.
قالوا: وإذا علم سبحانه من بعض العبيد أنَّه لا يختار الإسلام، وأنَّه لا يكون إلا كافرا مفسدًا في الأرض فأي مصلحة لهذا العبد في إيجاده؟
- قالوا: وأي مصلحة لإبليس وذريته الكفار في إيجادهم؟
- فإن قلتم : عرضهم للثواب.
- قيل لكم: كيف يعرضهم لأمر قد يعلم أنَّهم لا يفعلونه ولا يقع منهم البتة؟
- ومن هنا أنكر غلاتهم العلم القديم وكفرهم السلف على ذلك، ومن أقر به منهم فإقراره به مبطل لمذهبه وأصله في وجوب مراعاة الصلاح والأصلح وهذا معنى قول السلف ناظروا القدرية بالعلم فإن جحدوه كفروا وإن أقروا به خصموا ا.هــ كلام العالم بحق ابن قيم الجوزية رحمه الله.
صدق رحمه الله، نعم أصل الاستدلال مبناه على وجوب مراعاة الصلاح والأصلح، وإثبات مشيئته لذلك، هنا مربط الفرس، ووجه الحجة!
*وتقريبًا أقول: لو أنَّك تقول لمن ينفي هذه المرتبة؟ أتقر بأنَّ الله يعلم منذ الأزل أنَّ فلانا من الناس سيزني في الوقت المعيَّن؟
فإن قال : لا يعلم، كفر وانتهينا فالأدلة متكاثرة على تقرير علمه الأزلي، وهذا واضح لا إشكال فيه.
-فإن قال : نعم. يعلم.
قلت له: فإذا كان الله لا يشاء ولا يريد كونا وقوعه فلماذا لم يمنعه من فعله؟
أي كأن يقبضه أو يخسف به، أو يمنع أسباب وقوع الفعل من تيسر المكان والخفاء والمرأة..الخ، فما زال الله لم يفعل هذا وهو داخلٌ تحت مشيئته باتفاقنا، فأنتم إنَّما تخرجون فعل العبد من مشيئة الله بخلاف غيره من الأسباب، فأنتم معنا أنَّ الله بيده مقاليد السماوات والأرض وما يحدث من المخلوقات فبمشيئته، ولكنكم تخالفون في فعل العبد ومشيئته هربًا من الجبر!
- فإذا كان الأمر كذلك: فما زال الله لم يفعل ذلك من منع تقدير الالتقاء أو قبض روحه أو إنزال بلاء عليه يمنعه من ذلك الفعل، أو أو ..الخ وكل هذا هو قادر عليه، وهو تحت مشيئته فيلزم منه هذا أنَّه قد شاء وقوع ذلك الذنب من هذا العبد، وسمح كونًا بوقوعه، ولا مفر لهم من هذا الإلزام السلفي العقلي.
وهذه من أنفس الحجج العقلية السلفية في الرد على من ينكر منزلة المشيئة والحمد لله رب العالمين.
الهامش:
[1][ثم اتضح لي أنَّ ابن رجب قد نقل صفحتين أو أكثر عن ابن تيمية -رحمه الله - في هذا الموضع ولم يشر إلى ذلك ولا أدري هل نبه على ذلك المحققون للكتاب بعده أم لا؟ ولعلي أفرد التنبيه في مشاركة. فعلى هذا فالكلام هو لابن تيمية في الأوسط]
[2] ولن أتعرض من باب أولى لمن يفسرها خطأ لأنَّ المراد هو المعنى الصحيح.
[/color]