.:: في صفة الاستحياء(١)والإعراض ::.
للشّيخ الفَاضِل أبي عَبدِ المعِزّ مُحمَّد عَلي فَركُوس - حفظه الله -
للشّيخ الفَاضِل أبي عَبدِ المعِزّ مُحمَّد عَلي فَركُوس - حفظه الله -
السـؤال:
ورد في حديثِ أبي واقدٍ اللّيثيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ»(٢)؟
فهل يجوز أن يوصفَ اللهُ تعالى بالاستحياءِ والإعراضِ؟ وهل يجوز تأويلُ صفةِ الاستحياءِ في الحديثِ بأنّ اللهَ تعالى ترك عقابَه ولم يحرمْه من الثّوابِ، وتأويلُ صفةِ الإعراضِ بأنّ اللهَ سخط عليه وحرمه من الثّوابِ؟ فإنْ كان الجوابُ بالنّفيِ، فكيف نوجّه كلامَ الشّيخِ عبدِ الحميدِ بنِ باديسَ -رحمه الله- حيث أوّل ظاهِرَ الصّفتين بالمعنى المذكورِ سابقًا؟ يُرجى إفادتُنا بجواب يُغني ويَشفي، وبارك اللهُ فيكم.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فالحديثُ المذكورُ يدلّ على إثباتِ صفتَيِ الاستحياءِ والإعراضِ للهِ تعالى على وجهٍ لا نقْصَ فيه كما يليق بجلالِه وعظمتِه، و«الحييُّ» اسمٌ من أسمائِه سبحانَه وتعالى، ويدلّ على صفةِ الاستحياءِ قولُه تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: 26]، وقولُه تعالى:﴿وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ [الأحزاب: 53]، وقولُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم: «إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا، -أَوْ قَالَ: خَائِبَتَيْنِ-»(٣)، وأمّا الإعراضُ فهو كالاستحياءِ صفةٌ خبريّةٌ فعليّةٌ ثابتةٌ، ويدلّ عليها مقطعُ الحديثِ المذكورِ في السّؤالِ: «فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ».
وصفةُ الاستحياءِ والإعراضِ -في النّصوصِ الشّرعيّةِ- هي صفاتٌ حقيقيّةٌ يُوصف بها ربُّنا سبحانَه وتعالى على ما يليق به، ولا يلزم من إثباتِها ووصفِه بها تشبيهُه بالمخلوقاتِ ولا تمثيلُه بها، فاستحياؤُه سبحانَه ليس كاستحياءِ المخلوقين، الذي هو تغيُّرٌ وانكسارٌ يعتري الشّخصَ عند خوفِ ما يُعابُ أو يُذمّ، وليس إعراضُه سبحانَه كإعراضِ المخلوقين، الذي هو الصّدُّ عن المُعْرَضِ عنه والذّهابُ عرْضًا وطولاً، فإنّ هذه الحالاتِ من الأمورِ الفطريّةِ الإنسانيّةِ التي لا تليق باللهِ عزّ وجلّ، فكما أنّ ذاتَ اللهِ تعالى لا تماثل الذّواتِ المخلوقةَ ولا تُشبهها، فكذلك صفاتُه سبحانَه وتعالى لا تماثل صفاتِ المخلوقين ولا تشبهها، والقولُ في صفةِ الاستحياءِ والإعراضِ كالقولِ في سائرِ الصّفاتِ ممّا أثبته اللهُ لنفْسِه في كتابِه أو أثبته له رسولُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم بالسّنّةِ الصّحيحةِ من غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ؛ لأنّه لا أحدَ أعلمُ باللهِ من نفسِه، ولا مخلوقَ أعلمُ بخالقِه من رسولِه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم، لذلك كان المعتقَدُ الصّحيحُ هو الإثباتَ مع نفيِ مماثلةِ المخلوقاتِ، جريًا على قاعدةِ الإثباتِ والتّنزيهِ؛ فقولُه تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: 11]: ردٌّ على المشبّهةِ، وقولُه تعالى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشّورى: 11]: ردٌّ على المعطّلةِ.
هذا، والمعطّلةُ الذين عَدَلوا عن ظاهرِ اللّفظِ من غيرِ موجِبٍ إنّما دفعهم توهُّمُهم أنّ إثباتَ صفتَيِ الاستحياءِ والإعراضِ يستلزم التّشبيهَ والتّمثيلَ؛ لذلك منعوا أن يُوصفَ ربُّنا عزّ وجلّ بهاتين الصّفتين وغيرِهما من الصّفاتِ على جهةِ الحقيقةِ، بل أوّلوها بما تستلزمه من معانٍ ومقتضَياتٍ.
وعليه، فالواجبُ -عند أهلِ السّنّةِ- إثباتُ صفةِ الاستحياءِ للهِ تعالى وما تستلزمه هذه الصّفةُ من سَعةِ رحمتِه وكمالِ عطفِه وَجودِه وعظيمِ عفوِه وحِلْمِه، وما تقتضيه من ثبوتِ الأجرِ للمستحيي الواردِ في الحديثِ، كما أنّ الواجبَ -أيضًا- إثباتُ صفةِ الإعراضِ للهِ تعالى، وما تستلزمه هذه الصّفةُ من سخطِ اللهِ وغضبِه وعدمِ رحمتِه وعفوِه، وما تقتضيه من حرمانِ المُعرِضِ من الأجرِ والثّوابِ، فأهلُ السّنّةِ يُثبتون الصّفةَ ولازِمَها خلافًا لأهلِ التّعطيلِ الذين يثبتون اللاّزمَ دون الملزومِ.
وأمّا اكتفاءُ الشّيخِ عبدِ الحميدِ بنِ باديسَ -رحمه اللهُ- في شرحِه للحديثِ بإثباتِ ما تقتضيه صفةُ الاستحياءِ والإعراضِ دون التّعرّضِ للصّفةِ ذاتِها؛ فإنّه لا يلزم من عدمِ تعرُّضِه لها نفيُه أو تعطيلُه لها؛ لأنّه -رحمه اللهُ- لم يصرّحْ بنفيِ الصّفةِ، وقد يكون ذاهلاً عنها، أو لأنّ صفاتِ اللهِ وأسماءَه معلومةُ الإثباتِ ونفيِ المماثلةِ للمخلوقين، على ما قرّره -رحمه اللهُ- في كتابِه: «العقائد الإسلاميّة» في الأسماءِ والصّفاتِ من عقيدةِ الإثباتِ والتّنزيهِ، كما نصّ على ذلك -بوضوحٍ- في قولِه: «نُثبت له تعالى ما أثبته لنفسِه على لسانِ رسولِه من ذاتِه وصفاتِه وأسمائِه وأفعالِه، وننتهي عند ذلك ولا نزيد، وننزّهه في ذلك عن مماثلةِ أو مشابهةِ شيءٍ من مخلوقاتِه»(٤)، وقد كان -رحمه اللهُ- يردّد البيتين:
فَنَحْنُ مَعْشَرَ فَرِيقِ السُّنَّهْ * السَّالِكِينَ فِي طَرِيقِ الجَنَّهْ
نَقُولُ بِالإِثْبَاتِ وَالتَّنْزِيهْ * مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلاَ تَشْبِيهْ(٥)
لذلك وجب حملُ كلامِ الشّيخِ عبدِ الحميدِ بنِ باديسَ -رحمه اللهُ- على أحسنِ المحاملِ، توافقًا مع أصولِه وقواعدِه، وخاصّةً وأنّ سيرةَ المتكلِّمِ حسنةٌ، فيُحمل كلامُه على الوجهِ الحسنِ، مصداقًا لقولِه تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ [الأعراف: 58].والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في: 28 ربيع الأول 1432ﻫ
الموافق ﻟ: 03 مــارس 2011م
الموافق ﻟ: 03 مــارس 2011م
ــــــــــــــ
٢- أخرجه البخاري في « العلم» باب من قعد حيث ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها (66)، ومسلم في «الآداب» (2176)، من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه.
٣- أخرجه أبو داود في «الصلاة» باب الدعاء (148، والترمذي في « الدعوات» (3556) وابن ماجه واللفظ له في «الدّعاء» باب رفع اليدين في الدّعاء (3865)، من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، وصححه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (2070).
٤- «العقائد الإسلامية» لابن باديس (73).
٥- انظر: تعليق محمد الصالح رمضان على « العقائد الإسلاميّة» (73).
.:: من موقع الشيخ حفظه الله ::.