الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه , والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل : من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين , وعلى آله وصحبه أجمعين , أما بعد :
فقد بيّن الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله الفرق بين إرادة الله الكونية وإرادته الشرعية في شرحه للعقيدة السفارينية فقال رحمه الله :
والفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية من حيث الحكم من وجهين :
الوجه الأول : أن الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد ، والإرادة الشرعية لا يلزم فيها وقوع المراد ، فقد يريد الله الشيء شرعا ولا يقع .
الوجه الثاني : الإرادة الشرعية لا تكون إلا فيما يحبه الله ، والإرادة الكونية تكون فيما يحبه وما لا يحبه . فمثلا الإيمان والعمل الصالح مراد لله شرعا لا كونا ؛ لأن من الناس من لم يؤمن ومن لم يعمل صالحا ، ولو كان مرادا لله كونا وقدرا للزم أن يؤمن الناس كلهم ويعملوا صالحاً .
فإذا قال قائل : الكفر الواقع من بني آدم هل هو مراد لله ؟
فنقول : مراد كونا لا شرعا ؛ فمراد كونا لأنه واقع ، وكل شيء يقع فهو مراد لله عز وجل (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فهو مراد كوناً غير مراد شرعاً ؛ لأن الله لا يريد من عباده الكفر ، وإنما يريد منهم الإيمان .
ونمثل ذلك بالأشخاص فكفر أبي جهل مراد كونا ، والدليل على أنه مراد كوناً لأنه واقع ، وكل شيء واقع فهو مراد كوناً لا إشكال فيه ، وليس هو مرادًا شرعًا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحبه ، وإذا كان الله لا يحب شيئا فإنه وإن وقع غير مراد لله شرعاً .
وإيمان أبي بكر رضي الله عنه مراد كونًا لوقوعه ، ومراد شرعًا لأنه محبوب إلى الله عز وجل ؛ لأنه كما قلنا كل شيء واقع فهو مراد كونًا ، وإيمان أبي بكر واقع فهو مراد كونا , وإيمان أبي لهب - أي تقديراً - مراد شرعاً لا كوناً ؛ لأنه لم يقع ، فمراد شرعاً لأن الله يحب منه الإيمان ؛ لأنه محبوب إلى الله عز وجل , وقد ذكرنا فيما سبق أن كفر أبي جهل مراد كونًا لوقوعه ، غير مراد شرعًا لأن الله لا يحبه , وذكرنا أيضاً أن إيمان أبي لهب مراد شرعًا لأن الله يحبه ، غير مراد كونًا لأنه لم يقع .
وهنا يرد علينا إشكال ! وهو كيف يكون الشيء مرادًا لله كونًا وهو لا يحبه ؟ وهل أحد يُكْرِهه على أن يوقع ما لا يحب ؟ وقد أجاب بعض المعتزلة فقال : كل ما وقع فهو مراد لله كونًا وشرعًا حتى المعاصي قالوا : إن الله أرادها شرعًا ، ولكن هذا فيه إشكال
والجواب السديد في مثل هذه المسألة أن يقال : إن الله يكره كفر هذا الكافر ولم يكرهه أحد على أن يوقع شيئا يكرهه ، لكن هذا الشيء مكروه لذاته محبوب لغيره ، فالكفر الواقع هنا مكروه لذاته محبوب لغيره . ويكون الشيء محبوبًا مكروها باعتبارين ، لا باعتبار واحد فهذا ممتنع .
مثال ذلك : أنك ترى الرجل يأتي بالحديدة محماة حمراء من النار ليكوي بها ابنه المريض ، لكن كيه لابنه ليس مرادًا لذاته ، بل مراد لغيره ، ولهذا تجده محبوبًا له مكروهًا ، محبوبًا من وجه ، مكروها من وجه ؛ من وجه إيلامه لابنه مكروه ، ومن وجه أنه سبب لشفائه ، محبوب , وكذلك الكفر واقع بإرادة الله عز وجل مكروه إلى الله لذاته محبوب إليه لغيره . فلولا الكفر ما عرف الإيمان ، ولولا الكفر لم يكن جهاد ، ولولا الكفر لم يكن امتحان ، ولولا الكفر لكان خلق النار عبثًا ، إلى غير ذك من المصالح العظيمة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يقع الكفر بحكمته ، ولهذا قال عمر رضي الله عنه : ( لا ينقض الإسلام عروة عروة إلا من لم يدخل في الكفر ) يعني أن من عرف قدر الإسلام لا ينقضه ، ولا يعرف قدر الإسلام إلا إذا كان قد دخل في الكفر ، فبضدهما تتبين الأشياء .
وهكذا الله عز وجل يوقع في عباده ما يكرهه لكن من أجل مصلحة أخرى أعظم من إيقاعه وذلك مثل قوله تعالى في الحديث القدسي : ( ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره إساءته ولابد له منه ) ، فهذا مما يكرهه الله كونًا لا شرعًا ، لكنه يوقعه عز وجل لما له من المصالح العظيمة ، فإنه لابد من الموت حتى يجازي الإنسان بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر .
فالحاصل أن نقول جوابًا على هذا الإيراد الشائك : إن هذا المكروه إلى الله مكروه إليه لذاته محبوب إليه لغيره فهو مكروه محبوب من وجهين .