بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ الحَمْدَ للهِ ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ -وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ-.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء : 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأَحزاب : 70-71].
أَمَّا بَعْدُ :
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخير الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَة.
و َبَعْدُ :
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم ضال تائه قد هدوه ؛ فما أحسن أثرهم على الناس ، وأقبح أثر الناس عليهم ؛ ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، الذين عقدوا ألوية البدعة ، وأطلقوا عقال الفتنة ، فهم مختلفون في الكتاب ؛ مخالفون للكتاب ؛ مجمعون على مفارقة الكتاب ؛ يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم ؛ يتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ، فنعوذ بالله من فتن المضلين .
أيها الإخوة .. إن التوحيد لهو أمر وقضية من الأهمية بمكان ؛ يدل لهذا أمور :
أولاً : أنها القضية التي خلق الله الجن والإنس من أجلها ؛ فقال تبارك وتعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .
إذن فالغاية العظمى والهدف الأسمى من خلق الجن والإنس هي قضية التوحيد ، وإفراد الله بالعبادة ، والخلوص من الشرك ؛ يدل لهذا أن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل ، وقال تبارك وتعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
وقال تبارك وتعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } .
والكلمة الأولى التي تدعوا بها الأنبياء أممهم { يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره } .
القضية التي نحن بصدد الكلام عنها هذه الليلة .. هي القضية التي قطعت من أجلها الرؤوس ؛ وأريقت من أجلها الدماء ، وأزهقت من أجلها الأرواح ، وبذل من أجلها الغالي والنفيس ،
من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الله الكتب ،
من أجلها قامت القيامة وحقت الحاقة ووقعت الواقعة .
كلها من أجل لا إله إلا الله .
من أجل أن يوحد الله فلا يشرك به .
ومن أجل أن يطاع الله فلا يعصى .
ومن أجل أن يشكر الله فلا يكفر .
هي القضية التي هي حق الله على العبيد ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ : (( أتدري ما حق الله عل العباد ... ألا يشركوا به شيئاً )) .
إذا قضية هذه مواصفاتها .. لاشك أنها قضية عظيمة يجب أن تصرف الأعمار والأوقات والأموال في نصرة هذه القضية ، والدعوة إليها ، والذب عنها ، والحرص على كل ما من شأنه نصرة هذا الدين العظيم { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } .
وما زالت الأجيال الإسلامية تتعاقب على حمل راية التوحيد ؛ جيلاً بعد جيل على مر العصور ؛ حتى بدأت الإنحرافات العقدية تطل برأسها على المسلمين ، تفسد التصورات ، تشوه المفاهيم ، تزعزع الثوابت ، تشكك في المسلمات ، فزلت في تلك المواطن أقدام ؛ وحارت في تلك المواضع أفهام ، وانحرفت عن الطريق جماعات ، وتنكبت عن الصراط فرق وأحزاب .
فتداعت على التوحيد والسنة أمم الكفر والشرك من خارجها ، وطوائف البدع والضلال والأهواء من داخلها ، وانتشر بين المسلمين الجهل بالتوحيد ، وضعف اليقين ؛ فنبتت بذور الضلالة والبدعة ، وارتفعت رايات الشرك في زوايا الأمة ، وأوقدت مصابيح القبور ، وصار التساهل في كثير من الأمور .
تزينت الأضرحة والمشاهد ، وعمت البلوى ، وكثرت المفاسد ، وراجت سوق السحرة ، وتسلطت على المسلمين البطلة ؛ لكن لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة ، لا يضرها من خذلها ، ولا من خالفها ؛ حتى تقوم الساعة .
إن المتأمل لحال الأمة اليوم وخصوصاً مع التوحيد ليرى العجب من خلط في المفاهيم ، وغبش في التصورات ، وجهل بالتوحيد ، وضعف في التوكل ، وتمييع للولاء والبراء ، واستغاثة بالأنبياء والأولياء ، ومن هذه الغبشات التي ابتليت بها الأمة :
جهل كثير من المسلمين اليوم بحقيقة التوحيد ؛ فزين لهم بعض العلماء ممن ينتسبون إلى هذه الأمة ، زينوا لهم أن التوحيد توحيداً آخر وهو غير ما جاء به محمداً صلى الله عليه وسلم ؛ فانطلت على كثير من الشعوب والأمم تلك المفاهيم ، وصدقوا بأن ذلك هو التوحيد الذي يريده الله منا !!
والجواب على ذلك : لا ؛ بل وألف لا .. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : (( فأن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر ؛ غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع فيقولون : هو واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له . أشهر هذه الأنواع الثلاثة عندهم : هو النوع الثالث وهو توحيد الأفعال .. توحيد الربوبية .. وأن خالق العالم واحد ، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها ، ويضنون أن هذا هو التوحيد المطلوب ، وأن هذا هو المعنى لقولنا : لا إله إلا الله ؛ حتى جعلوا معنى الإلهية : القدرة على الاختراع ، ومعلوم أن المشركين لم يخالفوا هذا النوع من التوحيد ؛ بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء )) انتهى كلامه رحمه الله .
ووجه الغلط عندهم في هذا التوحيد – يعني توحيد المتكلمين - :
أولاً : إغفالهم توحيد العبادة ، وعدم اعتباره ، وهذا كاف لإبطال مذهبهم .
ثانياً : إدخالهم في التوحيد ما ليس منه ؛ حيث جعلوا نفي الصفات توحيداً ، وهذا مما لم ينزل به جبريل عليه السلام .
ثالثاً : اعتقادهم أن توحيد العبادة هو توحيد الربوبية ، وأن معنى لا إله إلا الله : أي لا خالق ولا رازق إلا الله ، وهذا ليس صحيحاً ولذلك انتشر فيهم الشرك ، لأنهم أغفلوا توحيد العبادة .
فمثلاً هذا السبكي قد صنف كتاباً سماه ( شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام ) والحمد لله قد انبرى له شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فرد عليه رداً كافياً وهذا التوحيد – يعني توحيد المتكلمين – هو الذي يدرس اليوم في كثير من بلاد المسلمين ؛ حتى عمت به البلوى ؛ بل إن بعض الكتاب المسلمين اليوم يفني وقته ويفني جهده ، ويشقي نفسه في تأليف كتاب أن الله هو الخالق الرازق والمدبر المحيي المميت ، ويزعم أن هذا هو التوحيد ، وهو معنى لا إله إلا الله .
وما علم هذا الجاهل أنه قد أتعب نفسه فيما أقرت به قريشٌ ، وأبو لهب ، وأبو جهل ، ولم ينكروه ؛ بل قال عنهم تبارك وتعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } .
وقد علم أن مثل هذا التوحيد لم يعصم دمائهم و أموالهم فقد قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال الألباني – رحمه الله – في رسالة صغيرة الحجم عظيمة النفع وهي ( التوحيد أولاً يا دعاة الإسلام ) قال فيها – رحمه الله - : (( أما غالب المسلمين اليوم الذين يشهدون بأن لا إله إلا الله فهم لا يفقهون معناها جيداً ؛ بل لعلهم يفهمون معناها فهماً معكوساً ومقلوباً تماماً )) إلى أن قال – رحمه الله - : (( إن واقع كثير من المسلمين اليوم شر مما كان عليه عامة العرب في الجاهلية الأولى من حيث سوء الفهم لمعنى هذه الكلمة الطيبة لأن المشركين العرب كانوا يفهمون ولكن لا يؤمنون ؛ أما غالب المسلمين اليوم فإنهم يقولون ما لا يعتقدون ؛ يقولون لا إله إلا الله ، ولا يؤمنون حقاً بمعناها )) انتهى كلامه رحمه الله .
وبين في موضع آخر الدلالة على عدم وضوح العقيدة الصحيحة عند بعض المسلمين اليوم حيث قال – رحمه الله - : (( إن كثيراًُ من المسلمين الموحدين حقاً والذين لا يوجهون عبادة من العبادات إلى غير الله عز وجل ذهنهم خال من كثير من الأفكار والعقائد الصحيحة التي جاء ذكرها في الكتاب والسنة ، وضرب لذلك مثلاً – رحمه الله – بحديث الجارية الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه ؛ التي سأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها : (( أين الله ؟ )) فقالت : في السماء .
(( أين الله ؟ )) فقالت : في السماء .
قال – رحمه الله – تعليقاً على هذا الحديث : (( فلو سألت اليوم كبار شيوخ الأزهر مثلاً : أين الله ؟ لقالوا لك : في كل مكان .
بينما الجارية أجابت بأنه في السماء ، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ولذلك – والكلام موصول للعلامة الألباني – قال : ولذلك عرفت راعية الغنم العقيدة لأنها لم تتلوث بأي بيئة سيئة ؛ عرفت العقيدة الصحيحة التي جاءت في الكتاب والسنة ، وهو مالم يعرفه كثير ممن يدعي العلم بالكتاب والسنة ، واليوم أقول – يعني هذا الكلام أيضاً للألباني – أقول لا يوجد شيء من هذا البيان ، وهذا الوضوح بين المسلمين بحيث لو سألت لا أقول راعية غنم ، بل راعي أمة ، أو جماعة فإنه قد يحار في الجواب كما حار الكثيرون اليوم ، إلا من رحم الله وقليل ما هم )) انتهى كلامه رحمه الله .
هذا .. وقد ظهر أيضاً في الأزمنة الأخيرة من يفسر التوحيد بتفسير جديد ، وهو توحيد الحاكمية ، جعلوا معنى لا إله إلا الله أي لا حاكم إلا الله ، ولم ينظروا إلى تفسيرات السلف في هذه الشهادة العظيمة ، والتي جعلوها مقصورة على الحاكمية ، ونحن لا ننكر بأنه لا حاكم إلا الله ولكن الحاكمية قضية داخلة تحت التوحيد ، ولذلك لزم من تفسيرهم هذا وقصر التوحيد عليه أن يقولوا بوجوب محاربة شرك القصور ، وترك شرك القبور ؛ بل وصل إلى تسمية شرك القبور بالشرك البدائي ، والشرك الساذج ؛ فاشتغلوا عنه ، وأقحموا أنفسهم في شرك القصور وهو ما يسمونه اليوم بالشرك السياسي .
ولما سئل العلامة الفوزان – حفظه الله – عن معنى لا إله إلا الله ؟
أجاب قائلاً : (( فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن معنى لا إله إلا الله هو إفراد الله تعالى بالعبادة كلها لا بالحاكمية فقط ، فمعنى لا إله إلا الله أي : لا معبود بحق إلا الله ، وهو إخلاص العبادة لله وحده ، ويدخل فيها تحكيم الشريعة ، ومعنى لا إله إلا الله أعم من ذلك ، وأكثر وأهم من تحكيم الكتاب في أمور المنازعات ؛ أهم من ذلك هو إزالة الشرك من الأرض ، وإخلاص العبادة لله سبحانه ، فهو هذا التفسير الصحيح ، وأما تفسيرها بالحاكمية فتفسير قاصر لا يعطي معنى لا إله إلا الله ، وأما تفسريها بأنه لا خالق إلا الله هذا تفسير باطل ليس قاصر فقط )) انتهى كلامه رحمه الله .
والكلام يتواصل أيضاً عن الواقع المؤلم للتوحيد وعن تلك الطعنات والسهام التي توجه إلى ذلك الصرح الشامخ ؛ صرح التوحيد ، الذي تركنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبله ، وجدت كثير من الطعنات توجه سهامها وتصوب طلقاتها إلى ذلك الصرح بغية أن تهده إن استطاعت ، وإن لم تستطع فلا أقل من أن تضعف أركانه وتشل قواعده ، وتأتي على أسه ، فتنقضه نقضاً ، وعلى بنيانه فتدكه دكاً .
الكلام عن الغيب ..
والغيب من اختصاص الله سبحانه وتعالى { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون } .
لكن يوم أن تزعزعت هذه القاعدة في كثير من قلوب المسلمين اليوم انطلت عليهم ألاعيب السحرة ، ودجاجلة المشعوذين بألوانها ، منها ما يصدق ، ومنها مالا يصدق ؛ انطلت عليهم فأخذوها بجميع أنواعها ؛ بل وقعت في قلوبهم موقع الحقيقة فارتابوا وخافوا وترددوا ، وبنوا على ذلك خططاً وأجوبةً وأفعالاً كلها نتجت من التصور الفاسد الذي بنوا على ذلك الإدعاء لعلم الغيب فخرجت السحرة تنشر بين الناس تلك الكذبات ، وتلك الوقائع ، وتلك الأحداث فصدقها كثير من المسلمين اليوم .. وإنا لله وإنا إليه راجعون .
انتشرت أسواقهم ، وكثرت بضاعتهم وكثر زبائنهم فأصبحوا يترددون عليهم الصباح والمساء ، والليل والنهار يبحثون عن علاج لأمراض موهومة ، وأوجاع مزعومة فأخذوا منهم قليلاً من التمائم والأفعال ، والتي نفثوا فيها سمومهم قبل أن ينفثوا فيها قرأتهم ، فراجت وصدقها كثير من المسلمين ، وانطلت عليهم تلك الحيل ، بل وانطبقت عليهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
كما قال عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم : (( من أتى عرافاً أو كاهناً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً )) وفي الحديث الآخر عند أحمد وغيره : (( من أتى عرافاً أو كاهناً فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد )) .
وكثرة تردد الناس على هؤلاء السحرة إن دل على شيء فإنه يدل على ضعف اليقين ، وقلة التوكل ، وقلة الإيمان ، وإلى الله المشتكى .
ظهرت عندنا نماذج وألوان وأشكال عديدة من خطط السحرة حتى أنهم لن يقتصروا على أن يطرق المريض بابهم ؛ بل تطور الأمر حتى أصبحوا يستضيفون السحرة في تلك القنوات الفضائية وعلى الهواء مباشرة ؛ يستضيفون ذلك الساحر الكافر ليجري لقاء على الهواء مع ملايين المسلمين الذين يشاهدون ذلك البرنامج فتنهال وتنكب مئات الألوف من الاتصالات على ذلك الساحر في ذلك البرنامج فيسألونه فيجيبهم فيصدقونه فينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أتى عرافاً أو كاهناً فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد )) .
ولا يلزم أن يذهب المريض إلى الساحر فيطرق بابه ؛ بل تطورت أنواع أساليبهم حتى أصبحوا هم يطرقون بيوتنا ، ويدخلون علينا من الأرض ومن الباب ، ومن السماء ، ومن كل حدب وصوب ، حتى ضاعت عقيدة كثير من أبناء المسلمين ، وطعنوا في توحيدهم على أبواب تلك البرامج وعلى أعتاب أولئك السحرة والمصيبة أن لسان حال تلك القنوات التي تستضيف ذلك الساحر ، لسان حالها يقول : عزيزي المشاهد أبق في بيتك فنحن على استعداد تام أن نخرجك من الإسلام على الهواء مباشرة ؛ لا داعي أن تتحرك من بيتك ؛ بل نضمن لك ألا تضع رأسك على وسادتك الليلة وقد مرقت من الدين كما يمرق اسهم من الرمية .
خذ مثالاً آخر .. تلك المجلات التي ابتلينا بها وعمت وطمت على بعض صفحاتها حظك مع النجوم ، وبرجك هذا الأسبوع .. هذه الصفحات أتدرون ماذا تعني ؟
تعني وجود السحرة في بيوت المسلمين .. وجود الكهنة .. وجود المشعوذين .. شئنا أم أبينا .. رضينا أم غضبنا .
ولذلك من وجدت هذه الصفحات في بيته فهذا يعني وجود السحرة في بيته ، وإطلاع أهله على ذلك يعني ذهابهم إلى أولئك السحرة وسؤالهم فإن المصيبة أننا نرى ونسمع من بعض المسلمين من يقرأ ما فيها ويصدق ما فيها فيندرج تحت كلام النبي صلى الله عليه وسلم – يعني – (( فقد كفر بما أنزل على محمد )) ؛ ولذلك يفتي بعض علمائنا بهذه الفتوى بأن من قرأها وصدقها فهو داخل تحت الحديث عياذاً بالله .
فالمسألة ليست من السهولة كما يظن بعض الناس ، وأنها من وسائل الترفية ، وأنه لا حرج أن تدخل على الأسر مثل هذه القضايا ، وسيأتي إن شاء الله الكلام على مثل هذه الشبه في نهاية هذه المحاضرة .
حتى ظهرت أيضاً سحر جديد وهو ما يسمى بسحر البهلوانات والتي نرى فيها أنواع من أولئك القوم الذين يضعون أسياخ طويلة في أفواههم يدخلونها إلى قعر بطونهم ثم يخرجونها وأحياناً يخرجون النيران ، وأحياناً يبتلعون الأمواس ، وأحياناً يفعلون ما يعجز عنه الإنسان العادي بحجة أنها رياضات بهلوانية ، ولا شك أن هذه هي من مشاهد ومجالس السحر والسحرة ، والمسلم مطالب بالإعراض عنها وجوباً لأنه قد يفتتن بشيء من تلك المشاهد وقد يقع في قلب تصديق شيء من تلك الأحوال التي يصطنعونها ، ويفعلونها أمام كثير من الناس وخلال كثير من البرامج والأفلام .
أما العلاج فضح أولئك القوم وكشف ألاعيبهم حتى لا تنطلي على كثير من السلمين هذه الترهات ، ولذلك ينبغي أن يعرف المسلم أحوال السحرة وأحوال المشعوذين ، وكيف يستخدمون في طريقة تعاملهم مع الناس ، وماهي الوسائل والكلمات التي يقولونها ويرددونها حتى نكون على علم ، لأن بعض المسلمين عندما يقال له : لماذا تذهب إلى ذلك الساحر ؟
يقول : والله ما علمت أنه ساحراً إلا يوم أن قلتم لي ذلك الكلام !
فكثير من الناس يغتر بأولئك القوم ويقحمه جهله في الوقوع تلك المصائب والترهات التي تقدح في دينه وعقيدته ، والعياذ بالله .
ثانياً : تبليغ السلطات وولاة الأمر ممثلة في الشرط والهيئات حتى يأخذوا على أيديهم ، ويستأصلوا جذورهم ، ويقطعوا عروقهم ، فلا تنبت لهم في الأمة نابتة ، وحتى تصبح الأمة أمة موحدة ، لا يدخل فيها شيء من هذه الاتكالات ، ومن هذه الخزعبلات التي ابتلينا بها والعياذ بالله .
أما السكوت عليهم .. فإنه ترويج لبضاعتهم ، وتكثير لأسواقهم ، وصرف للعباد عن عبادة خالقهم ، وصرف للعباد عن التوكل على الله سبحانه وتعالى .
ومازال الكلام حول تلك الطعنات التي يطعن بها التوحيد في هذه الأزمنة ، وفي أزمنة قديمة ، لكنها في هذه الأزمنة راجت وكثرت وانتشرت وتفشت فمن ذلك تلك القبور التي أصبحت عند بعض المسلمين اليوم أعظم من بيت الله ، ويحجها ويؤمها أكثر مما يحج بيت الله في كل عام ؛ ولا يخفى أن الغلو في القبور بشتى صوره وأنواعه في غالب البلاد الإسلامية ، وتلبس بهذه المظاهر الشركية وطرائقها كثير من الناس ، وصارت هذه القبور مزارات ومشاعر يقصدها الناس ويشدون إليها الرحال من سائر الأمصار ، وسدنة هذه الأضرحة وعلماء الضلالة يزينون الشرك للعامة يشتى أنواع الدعاوى والشبهات ، ويأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدون عن سبيل الله تعالى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : (( ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام لا في الحجاز ولا اليمن ولا الشام ولا العراق ولا مصر ولا خرسان ولا المغرب ، ولم يكن قد أحدث مشهد لا على قير نبي ولا صاحب ولا أحد من أهل البيت ولا صالح أصلاً ؛ بل عامة هذه المشاهد محدثة بعد ذلك ، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة وكثر فيهم الزنادقة الملبسون على المسلمين وفشت فيهم كلمة أهل البدع وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة ؛ فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية في أرض المغرب ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر )) انتهى كلامه .
وقال في موضع آخر : (( فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك ، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد ، ووردوا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب مالم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب حتى صنف كبيرهم ابن النعمان كتاباً سماه ( مناسك حج المشاهد ) وكذبوا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه ، وغيروا ملته ، وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد فصاروا جامعين بين الشرك والكذب )) انتهى كلامه رحمه الله .
وبهذا .. يتضح أن الذين بذروا بذور الشرك والقبور كانوا رافضة ، واليوم وجدت إحصائيات لكثرة هذه القبور ؛ حتى أن منها ما يشيب له مفارق الولدان .
فعلى سبيل المثال يوجد في بعض دول آسيا – في دولة واحدة – أكثر من أثني عشر ألف قبر يطاف ويعبد ويزار والعياذ بالله .
ووجد في أحد الدول العربية في أفريقيا أكثر من ستة آلاف قبر ؛ المشهور منها ما يزيد على ألف قبر .
وإذا كانت أمة هذا هو حال وعدد القبور في بلادها فكيف ترجو النصر من الله ، وكيف ترجو الفلاح والنجاح من الله سبحانه وتعالى وهي أصلاً لم تقر بعبادة الله سبحانه وتعالى ، ولم تفرده دون غيره ، وتخلص العبادة له سبحانه ؛ قال ابن القيم – رحمه الله – عن أولئك – عباد القبور – قال : (( فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً ، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد فوضعوا لها الجباه ، وقبلوا الأرض ، وكشفوا الرؤوس ، وارتفعت أصواتهم بالضجيج ، وتباكوا ؛ حتى تسمع لهم النشيج ، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج ، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد ، ونادوا ولكن من مكان بعيد ، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ، ورأوا أنه قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين ، فتراهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً ، وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسراناً ، فلغير الله ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات ، ويطلب من الميت الحاجات ، ويسأل من تفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات ، وإغناء ذوي الفاقات ، ومعافاة ذوي العاهات والبليات ، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدىً للعالمين ؛ ثم أخذوا في التقبيل والاستلام ؛ أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام ؛ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود ، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود .
ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هنالك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق ؛ وقد قربوا لذلك الوثن من القرابين ، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين ، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضاً ويقول : أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظاً .
فإن رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة إلى البيت الحرام ، فيأبى ويقول : ولا بعشر حجج إلى البيت الحرام )) .
إن معالجة انحرافات القبوريين تكمن في ثلاثة مسالك :
الأول : المسلك العلمي : وهذا يقوم به العلماء ، وطلبة العلم ، فإن القبوريين يعولون في تلقيهم واستدلالاتهم على المنامات والأحاديث المكذوبة والحكايات المزعومة فيتعين عليكم طلبة العلم فساد وكشف عوار مسلك أولئك القبوريين ، وبيان تهافته ، وفساد التعويل على تلك المنامات والأحلام والأحاديث الموضوعة ، والحكايات المزعومة ، مع تقرير المنهج الصحيح في التلقي والاستدلال كالاعتماد على الكتاب والسنة الصحيحة ، واعتبار فهم السلف الصالح ونحو ذلك .
ثانياً : معالجة انحراف القبوريين في المسلك الدعوي : وذلك أن يعنى العلماء والدعاة بتقرير التوحيد في تلك المجتمعات المولعة بتعظيم القبور والغلو فيها ، وأن يجتهدوا في تجلية مفهوم التوحيد ، وضرورة تعلق القلب بالله سبحانه وتعالى .
وأيضاً أن تربى الأمة عموماً على أهمية التسليم لنصوص الكتاب والسنة ، والتحاكم إليهما ؛ ليس هذا وحسب ؛ بل وانشراح الصدر لذلك { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } .
ثالثاً : دعوتهم إلى التفكير والتأمل ومخاطبة عقولهم ، فإن الغلو في الأضرحة وتقديس القبور لا يظهر إلا عند أقوام ألغوا عقولهم ، وعطلوا تفكيرهم .
أما المسلك الثالث : فهو المسلك ألاحتسابي :
وذلك أن يسعى إلى هدم هذه القباب ، ونقضها وإزالتها ، كما في حديث أبي الهياج الأسدي الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث علي ابن أبي طالب يوم أن قال : (( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته ، ولا صورة إلا طمستها ))، بالطبع هذا مشروط بالقدرة ، مع عدم ترتب الضرر ، وذلك كما فعل إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – مع عثمان ابن معمر – رحم الله الجميع – عندما هدموا القباب وقطعوا الأشجار ، وكان الشيخ – رحمه الله – هو الذي هدم القبة التي كانت على قبر زيد بن الخطاب بيده ، وكذلك قطع شجرة الذئب ، وكذلك قام الشيخ حافظ الحكمي – رحمه الله – بهدم قبة في الساحل وبقايا قبة على قبر الشريف حمود المكرمي وذلك في مدينة صامطة ، وكذلك في عام ثلاثة وأربعين بعد ألف وثلاثمائة للهجرة قام أتباع الدعوة السلفية بهدم القباب والأبنية على القبور بمكة المكرمة مثل القبة المبنية على قبر أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها - .
ثانياً : أن يسعى إلى فضح وكشف مكائد أرباب القبور ، وسدنتها ، وبيان حقيقة هؤلاء الدجالين الملبسين وما هم عليه من الفجور ، وأكل أموال الناس بالباطل ، ولاشك أن لانتشار واستمرار القبور في العالم الإسلامي عوامل ، منها :
أولاً : العوامل الدينية :
ويرجع ذلك إلى الفراغ التوحيدي في نفوس القبوريين ، وكذلك ترويج مشايخ القبورية لشبهات ساقطة على أنها أدلة شرعية ، وحقائق دينية تسمح بهذه الطقوس ، وهم يعتقدون في القبور والأضرحة وأصحابها النفع والضر .
ثانياً : العوامل النفسية :
التي تعمل على انتشار تقديس القبور والأضرحة واستمرارها حيث يمثل الخوف منها الذي نتج أيضاً عن ذلك الاعتقاد وتلك الإشاعات ونسج الأكاذيب لعبت دوراً مهماً في بناء العامل النفسي ، فالصوفية مثلاً دأبوا على تحذير الناس من غضب الأولياء .
ومن العوامل : العوامل الاجتماعية :
والمجاملات لها دور مهم في الانتشار ، وكذلك صفة الهيبة ، والوجاهة الاجتماعية ، التي تصبغ وتجعل على أهل القبور والأضرحة من سدنتها ، وخدمها القائمين عليها ، وكذلك التفاخر بين أهل القرى والمدن بهذه القبور والأضرحة وخاصة إذا كان من ذوي الشهرة والمكانة ، فبعض القرى تفتخر أن قبر فلان بين جنباتها ، وفي أوساطها ، وكأنه شرف لم تحض قرية ولا مدينة بمثل هذا الشرف .
العوامل الاقتصادية :
هي المنافع المادية ، فمنذ القدم استعمل الرافضة القبور والأضرحة وسيلة للتكسب والعيش والقائمون عليها من المنتفعين ؛ كذلك الآلاف من الفقراء الذين يتعيشون بجوار الأضرحة ويستفيدون من الموالد .
ومن العوامل : العوامل السياسية :
وذلك من خلال المنافع التي تجلبها عليها لتلك الدول من وراء ذلك إضافة لضرب الاتجاهات الدينية المعارضة لهم ، وكذلك دعم بعض الدول الاستعمارية لهذه المظاهر الشركية ، والقبورية لما تعلم أنها سبب في ضعف الأمة ، وتمزيقها وتفريق كلمتها .
والكلام مازال مستمراً على تلك الطعنات في جناب ذلك التوحيد الشامخ العظيم .
فمن تلك الطعنات : أننا ابتلينا اليوم بكثرة في الجماعات وتعدد في الفرق والأحزاب لا تدعوا إلى التوحيد ولا تصحح العقيدة ، ولم يكن ذلك من همها وشأنها ؛ بل وصل الحال إلى تجاهل التوحيد ، والتحذير من الدعاة إليه ، وهذا من ضمن بعض الأمور والشبه التي ابتليت بها الأمة وسنفرد لها بحثاً مستقلاً في ختام هذه المحاضرة .
يتبع.........
إِنَّ الحَمْدَ للهِ ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ -وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ-.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء : 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأَحزاب : 70-71].
أَمَّا بَعْدُ :
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخير الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَة.
و َبَعْدُ :
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم ضال تائه قد هدوه ؛ فما أحسن أثرهم على الناس ، وأقبح أثر الناس عليهم ؛ ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، الذين عقدوا ألوية البدعة ، وأطلقوا عقال الفتنة ، فهم مختلفون في الكتاب ؛ مخالفون للكتاب ؛ مجمعون على مفارقة الكتاب ؛ يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم ؛ يتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ، فنعوذ بالله من فتن المضلين .
أيها الإخوة .. إن التوحيد لهو أمر وقضية من الأهمية بمكان ؛ يدل لهذا أمور :
أولاً : أنها القضية التي خلق الله الجن والإنس من أجلها ؛ فقال تبارك وتعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .
إذن فالغاية العظمى والهدف الأسمى من خلق الجن والإنس هي قضية التوحيد ، وإفراد الله بالعبادة ، والخلوص من الشرك ؛ يدل لهذا أن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل ، وقال تبارك وتعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
وقال تبارك وتعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } .
والكلمة الأولى التي تدعوا بها الأنبياء أممهم { يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره } .
القضية التي نحن بصدد الكلام عنها هذه الليلة .. هي القضية التي قطعت من أجلها الرؤوس ؛ وأريقت من أجلها الدماء ، وأزهقت من أجلها الأرواح ، وبذل من أجلها الغالي والنفيس ،
من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الله الكتب ،
من أجلها قامت القيامة وحقت الحاقة ووقعت الواقعة .
كلها من أجل لا إله إلا الله .
من أجل أن يوحد الله فلا يشرك به .
ومن أجل أن يطاع الله فلا يعصى .
ومن أجل أن يشكر الله فلا يكفر .
هي القضية التي هي حق الله على العبيد ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ : (( أتدري ما حق الله عل العباد ... ألا يشركوا به شيئاً )) .
إذا قضية هذه مواصفاتها .. لاشك أنها قضية عظيمة يجب أن تصرف الأعمار والأوقات والأموال في نصرة هذه القضية ، والدعوة إليها ، والذب عنها ، والحرص على كل ما من شأنه نصرة هذا الدين العظيم { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } .
وما زالت الأجيال الإسلامية تتعاقب على حمل راية التوحيد ؛ جيلاً بعد جيل على مر العصور ؛ حتى بدأت الإنحرافات العقدية تطل برأسها على المسلمين ، تفسد التصورات ، تشوه المفاهيم ، تزعزع الثوابت ، تشكك في المسلمات ، فزلت في تلك المواطن أقدام ؛ وحارت في تلك المواضع أفهام ، وانحرفت عن الطريق جماعات ، وتنكبت عن الصراط فرق وأحزاب .
فتداعت على التوحيد والسنة أمم الكفر والشرك من خارجها ، وطوائف البدع والضلال والأهواء من داخلها ، وانتشر بين المسلمين الجهل بالتوحيد ، وضعف اليقين ؛ فنبتت بذور الضلالة والبدعة ، وارتفعت رايات الشرك في زوايا الأمة ، وأوقدت مصابيح القبور ، وصار التساهل في كثير من الأمور .
تزينت الأضرحة والمشاهد ، وعمت البلوى ، وكثرت المفاسد ، وراجت سوق السحرة ، وتسلطت على المسلمين البطلة ؛ لكن لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة ، لا يضرها من خذلها ، ولا من خالفها ؛ حتى تقوم الساعة .
إن المتأمل لحال الأمة اليوم وخصوصاً مع التوحيد ليرى العجب من خلط في المفاهيم ، وغبش في التصورات ، وجهل بالتوحيد ، وضعف في التوكل ، وتمييع للولاء والبراء ، واستغاثة بالأنبياء والأولياء ، ومن هذه الغبشات التي ابتليت بها الأمة :
جهل كثير من المسلمين اليوم بحقيقة التوحيد ؛ فزين لهم بعض العلماء ممن ينتسبون إلى هذه الأمة ، زينوا لهم أن التوحيد توحيداً آخر وهو غير ما جاء به محمداً صلى الله عليه وسلم ؛ فانطلت على كثير من الشعوب والأمم تلك المفاهيم ، وصدقوا بأن ذلك هو التوحيد الذي يريده الله منا !!
والجواب على ذلك : لا ؛ بل وألف لا .. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : (( فأن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر ؛ غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع فيقولون : هو واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له . أشهر هذه الأنواع الثلاثة عندهم : هو النوع الثالث وهو توحيد الأفعال .. توحيد الربوبية .. وأن خالق العالم واحد ، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها ، ويضنون أن هذا هو التوحيد المطلوب ، وأن هذا هو المعنى لقولنا : لا إله إلا الله ؛ حتى جعلوا معنى الإلهية : القدرة على الاختراع ، ومعلوم أن المشركين لم يخالفوا هذا النوع من التوحيد ؛ بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء )) انتهى كلامه رحمه الله .
ووجه الغلط عندهم في هذا التوحيد – يعني توحيد المتكلمين - :
أولاً : إغفالهم توحيد العبادة ، وعدم اعتباره ، وهذا كاف لإبطال مذهبهم .
ثانياً : إدخالهم في التوحيد ما ليس منه ؛ حيث جعلوا نفي الصفات توحيداً ، وهذا مما لم ينزل به جبريل عليه السلام .
ثالثاً : اعتقادهم أن توحيد العبادة هو توحيد الربوبية ، وأن معنى لا إله إلا الله : أي لا خالق ولا رازق إلا الله ، وهذا ليس صحيحاً ولذلك انتشر فيهم الشرك ، لأنهم أغفلوا توحيد العبادة .
فمثلاً هذا السبكي قد صنف كتاباً سماه ( شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام ) والحمد لله قد انبرى له شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فرد عليه رداً كافياً وهذا التوحيد – يعني توحيد المتكلمين – هو الذي يدرس اليوم في كثير من بلاد المسلمين ؛ حتى عمت به البلوى ؛ بل إن بعض الكتاب المسلمين اليوم يفني وقته ويفني جهده ، ويشقي نفسه في تأليف كتاب أن الله هو الخالق الرازق والمدبر المحيي المميت ، ويزعم أن هذا هو التوحيد ، وهو معنى لا إله إلا الله .
وما علم هذا الجاهل أنه قد أتعب نفسه فيما أقرت به قريشٌ ، وأبو لهب ، وأبو جهل ، ولم ينكروه ؛ بل قال عنهم تبارك وتعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } .
وقد علم أن مثل هذا التوحيد لم يعصم دمائهم و أموالهم فقد قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال الألباني – رحمه الله – في رسالة صغيرة الحجم عظيمة النفع وهي ( التوحيد أولاً يا دعاة الإسلام ) قال فيها – رحمه الله - : (( أما غالب المسلمين اليوم الذين يشهدون بأن لا إله إلا الله فهم لا يفقهون معناها جيداً ؛ بل لعلهم يفهمون معناها فهماً معكوساً ومقلوباً تماماً )) إلى أن قال – رحمه الله - : (( إن واقع كثير من المسلمين اليوم شر مما كان عليه عامة العرب في الجاهلية الأولى من حيث سوء الفهم لمعنى هذه الكلمة الطيبة لأن المشركين العرب كانوا يفهمون ولكن لا يؤمنون ؛ أما غالب المسلمين اليوم فإنهم يقولون ما لا يعتقدون ؛ يقولون لا إله إلا الله ، ولا يؤمنون حقاً بمعناها )) انتهى كلامه رحمه الله .
وبين في موضع آخر الدلالة على عدم وضوح العقيدة الصحيحة عند بعض المسلمين اليوم حيث قال – رحمه الله - : (( إن كثيراًُ من المسلمين الموحدين حقاً والذين لا يوجهون عبادة من العبادات إلى غير الله عز وجل ذهنهم خال من كثير من الأفكار والعقائد الصحيحة التي جاء ذكرها في الكتاب والسنة ، وضرب لذلك مثلاً – رحمه الله – بحديث الجارية الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه ؛ التي سأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها : (( أين الله ؟ )) فقالت : في السماء .
(( أين الله ؟ )) فقالت : في السماء .
قال – رحمه الله – تعليقاً على هذا الحديث : (( فلو سألت اليوم كبار شيوخ الأزهر مثلاً : أين الله ؟ لقالوا لك : في كل مكان .
بينما الجارية أجابت بأنه في السماء ، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ولذلك – والكلام موصول للعلامة الألباني – قال : ولذلك عرفت راعية الغنم العقيدة لأنها لم تتلوث بأي بيئة سيئة ؛ عرفت العقيدة الصحيحة التي جاءت في الكتاب والسنة ، وهو مالم يعرفه كثير ممن يدعي العلم بالكتاب والسنة ، واليوم أقول – يعني هذا الكلام أيضاً للألباني – أقول لا يوجد شيء من هذا البيان ، وهذا الوضوح بين المسلمين بحيث لو سألت لا أقول راعية غنم ، بل راعي أمة ، أو جماعة فإنه قد يحار في الجواب كما حار الكثيرون اليوم ، إلا من رحم الله وقليل ما هم )) انتهى كلامه رحمه الله .
هذا .. وقد ظهر أيضاً في الأزمنة الأخيرة من يفسر التوحيد بتفسير جديد ، وهو توحيد الحاكمية ، جعلوا معنى لا إله إلا الله أي لا حاكم إلا الله ، ولم ينظروا إلى تفسيرات السلف في هذه الشهادة العظيمة ، والتي جعلوها مقصورة على الحاكمية ، ونحن لا ننكر بأنه لا حاكم إلا الله ولكن الحاكمية قضية داخلة تحت التوحيد ، ولذلك لزم من تفسيرهم هذا وقصر التوحيد عليه أن يقولوا بوجوب محاربة شرك القصور ، وترك شرك القبور ؛ بل وصل إلى تسمية شرك القبور بالشرك البدائي ، والشرك الساذج ؛ فاشتغلوا عنه ، وأقحموا أنفسهم في شرك القصور وهو ما يسمونه اليوم بالشرك السياسي .
ولما سئل العلامة الفوزان – حفظه الله – عن معنى لا إله إلا الله ؟
أجاب قائلاً : (( فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن معنى لا إله إلا الله هو إفراد الله تعالى بالعبادة كلها لا بالحاكمية فقط ، فمعنى لا إله إلا الله أي : لا معبود بحق إلا الله ، وهو إخلاص العبادة لله وحده ، ويدخل فيها تحكيم الشريعة ، ومعنى لا إله إلا الله أعم من ذلك ، وأكثر وأهم من تحكيم الكتاب في أمور المنازعات ؛ أهم من ذلك هو إزالة الشرك من الأرض ، وإخلاص العبادة لله سبحانه ، فهو هذا التفسير الصحيح ، وأما تفسيرها بالحاكمية فتفسير قاصر لا يعطي معنى لا إله إلا الله ، وأما تفسريها بأنه لا خالق إلا الله هذا تفسير باطل ليس قاصر فقط )) انتهى كلامه رحمه الله .
والكلام يتواصل أيضاً عن الواقع المؤلم للتوحيد وعن تلك الطعنات والسهام التي توجه إلى ذلك الصرح الشامخ ؛ صرح التوحيد ، الذي تركنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبله ، وجدت كثير من الطعنات توجه سهامها وتصوب طلقاتها إلى ذلك الصرح بغية أن تهده إن استطاعت ، وإن لم تستطع فلا أقل من أن تضعف أركانه وتشل قواعده ، وتأتي على أسه ، فتنقضه نقضاً ، وعلى بنيانه فتدكه دكاً .
الكلام عن الغيب ..
والغيب من اختصاص الله سبحانه وتعالى { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون } .
لكن يوم أن تزعزعت هذه القاعدة في كثير من قلوب المسلمين اليوم انطلت عليهم ألاعيب السحرة ، ودجاجلة المشعوذين بألوانها ، منها ما يصدق ، ومنها مالا يصدق ؛ انطلت عليهم فأخذوها بجميع أنواعها ؛ بل وقعت في قلوبهم موقع الحقيقة فارتابوا وخافوا وترددوا ، وبنوا على ذلك خططاً وأجوبةً وأفعالاً كلها نتجت من التصور الفاسد الذي بنوا على ذلك الإدعاء لعلم الغيب فخرجت السحرة تنشر بين الناس تلك الكذبات ، وتلك الوقائع ، وتلك الأحداث فصدقها كثير من المسلمين اليوم .. وإنا لله وإنا إليه راجعون .
انتشرت أسواقهم ، وكثرت بضاعتهم وكثر زبائنهم فأصبحوا يترددون عليهم الصباح والمساء ، والليل والنهار يبحثون عن علاج لأمراض موهومة ، وأوجاع مزعومة فأخذوا منهم قليلاً من التمائم والأفعال ، والتي نفثوا فيها سمومهم قبل أن ينفثوا فيها قرأتهم ، فراجت وصدقها كثير من المسلمين ، وانطلت عليهم تلك الحيل ، بل وانطبقت عليهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
كما قال عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم : (( من أتى عرافاً أو كاهناً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً )) وفي الحديث الآخر عند أحمد وغيره : (( من أتى عرافاً أو كاهناً فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد )) .
وكثرة تردد الناس على هؤلاء السحرة إن دل على شيء فإنه يدل على ضعف اليقين ، وقلة التوكل ، وقلة الإيمان ، وإلى الله المشتكى .
ظهرت عندنا نماذج وألوان وأشكال عديدة من خطط السحرة حتى أنهم لن يقتصروا على أن يطرق المريض بابهم ؛ بل تطور الأمر حتى أصبحوا يستضيفون السحرة في تلك القنوات الفضائية وعلى الهواء مباشرة ؛ يستضيفون ذلك الساحر الكافر ليجري لقاء على الهواء مع ملايين المسلمين الذين يشاهدون ذلك البرنامج فتنهال وتنكب مئات الألوف من الاتصالات على ذلك الساحر في ذلك البرنامج فيسألونه فيجيبهم فيصدقونه فينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أتى عرافاً أو كاهناً فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد )) .
ولا يلزم أن يذهب المريض إلى الساحر فيطرق بابه ؛ بل تطورت أنواع أساليبهم حتى أصبحوا هم يطرقون بيوتنا ، ويدخلون علينا من الأرض ومن الباب ، ومن السماء ، ومن كل حدب وصوب ، حتى ضاعت عقيدة كثير من أبناء المسلمين ، وطعنوا في توحيدهم على أبواب تلك البرامج وعلى أعتاب أولئك السحرة والمصيبة أن لسان حال تلك القنوات التي تستضيف ذلك الساحر ، لسان حالها يقول : عزيزي المشاهد أبق في بيتك فنحن على استعداد تام أن نخرجك من الإسلام على الهواء مباشرة ؛ لا داعي أن تتحرك من بيتك ؛ بل نضمن لك ألا تضع رأسك على وسادتك الليلة وقد مرقت من الدين كما يمرق اسهم من الرمية .
خذ مثالاً آخر .. تلك المجلات التي ابتلينا بها وعمت وطمت على بعض صفحاتها حظك مع النجوم ، وبرجك هذا الأسبوع .. هذه الصفحات أتدرون ماذا تعني ؟
تعني وجود السحرة في بيوت المسلمين .. وجود الكهنة .. وجود المشعوذين .. شئنا أم أبينا .. رضينا أم غضبنا .
ولذلك من وجدت هذه الصفحات في بيته فهذا يعني وجود السحرة في بيته ، وإطلاع أهله على ذلك يعني ذهابهم إلى أولئك السحرة وسؤالهم فإن المصيبة أننا نرى ونسمع من بعض المسلمين من يقرأ ما فيها ويصدق ما فيها فيندرج تحت كلام النبي صلى الله عليه وسلم – يعني – (( فقد كفر بما أنزل على محمد )) ؛ ولذلك يفتي بعض علمائنا بهذه الفتوى بأن من قرأها وصدقها فهو داخل تحت الحديث عياذاً بالله .
فالمسألة ليست من السهولة كما يظن بعض الناس ، وأنها من وسائل الترفية ، وأنه لا حرج أن تدخل على الأسر مثل هذه القضايا ، وسيأتي إن شاء الله الكلام على مثل هذه الشبه في نهاية هذه المحاضرة .
حتى ظهرت أيضاً سحر جديد وهو ما يسمى بسحر البهلوانات والتي نرى فيها أنواع من أولئك القوم الذين يضعون أسياخ طويلة في أفواههم يدخلونها إلى قعر بطونهم ثم يخرجونها وأحياناً يخرجون النيران ، وأحياناً يبتلعون الأمواس ، وأحياناً يفعلون ما يعجز عنه الإنسان العادي بحجة أنها رياضات بهلوانية ، ولا شك أن هذه هي من مشاهد ومجالس السحر والسحرة ، والمسلم مطالب بالإعراض عنها وجوباً لأنه قد يفتتن بشيء من تلك المشاهد وقد يقع في قلب تصديق شيء من تلك الأحوال التي يصطنعونها ، ويفعلونها أمام كثير من الناس وخلال كثير من البرامج والأفلام .
أما العلاج فضح أولئك القوم وكشف ألاعيبهم حتى لا تنطلي على كثير من السلمين هذه الترهات ، ولذلك ينبغي أن يعرف المسلم أحوال السحرة وأحوال المشعوذين ، وكيف يستخدمون في طريقة تعاملهم مع الناس ، وماهي الوسائل والكلمات التي يقولونها ويرددونها حتى نكون على علم ، لأن بعض المسلمين عندما يقال له : لماذا تذهب إلى ذلك الساحر ؟
يقول : والله ما علمت أنه ساحراً إلا يوم أن قلتم لي ذلك الكلام !
فكثير من الناس يغتر بأولئك القوم ويقحمه جهله في الوقوع تلك المصائب والترهات التي تقدح في دينه وعقيدته ، والعياذ بالله .
ثانياً : تبليغ السلطات وولاة الأمر ممثلة في الشرط والهيئات حتى يأخذوا على أيديهم ، ويستأصلوا جذورهم ، ويقطعوا عروقهم ، فلا تنبت لهم في الأمة نابتة ، وحتى تصبح الأمة أمة موحدة ، لا يدخل فيها شيء من هذه الاتكالات ، ومن هذه الخزعبلات التي ابتلينا بها والعياذ بالله .
أما السكوت عليهم .. فإنه ترويج لبضاعتهم ، وتكثير لأسواقهم ، وصرف للعباد عن عبادة خالقهم ، وصرف للعباد عن التوكل على الله سبحانه وتعالى .
ومازال الكلام حول تلك الطعنات التي يطعن بها التوحيد في هذه الأزمنة ، وفي أزمنة قديمة ، لكنها في هذه الأزمنة راجت وكثرت وانتشرت وتفشت فمن ذلك تلك القبور التي أصبحت عند بعض المسلمين اليوم أعظم من بيت الله ، ويحجها ويؤمها أكثر مما يحج بيت الله في كل عام ؛ ولا يخفى أن الغلو في القبور بشتى صوره وأنواعه في غالب البلاد الإسلامية ، وتلبس بهذه المظاهر الشركية وطرائقها كثير من الناس ، وصارت هذه القبور مزارات ومشاعر يقصدها الناس ويشدون إليها الرحال من سائر الأمصار ، وسدنة هذه الأضرحة وعلماء الضلالة يزينون الشرك للعامة يشتى أنواع الدعاوى والشبهات ، ويأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدون عن سبيل الله تعالى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : (( ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام لا في الحجاز ولا اليمن ولا الشام ولا العراق ولا مصر ولا خرسان ولا المغرب ، ولم يكن قد أحدث مشهد لا على قير نبي ولا صاحب ولا أحد من أهل البيت ولا صالح أصلاً ؛ بل عامة هذه المشاهد محدثة بعد ذلك ، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة وكثر فيهم الزنادقة الملبسون على المسلمين وفشت فيهم كلمة أهل البدع وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة ؛ فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية في أرض المغرب ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر )) انتهى كلامه .
وقال في موضع آخر : (( فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك ، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد ، ووردوا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب مالم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب حتى صنف كبيرهم ابن النعمان كتاباً سماه ( مناسك حج المشاهد ) وكذبوا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه ، وغيروا ملته ، وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد فصاروا جامعين بين الشرك والكذب )) انتهى كلامه رحمه الله .
وبهذا .. يتضح أن الذين بذروا بذور الشرك والقبور كانوا رافضة ، واليوم وجدت إحصائيات لكثرة هذه القبور ؛ حتى أن منها ما يشيب له مفارق الولدان .
فعلى سبيل المثال يوجد في بعض دول آسيا – في دولة واحدة – أكثر من أثني عشر ألف قبر يطاف ويعبد ويزار والعياذ بالله .
ووجد في أحد الدول العربية في أفريقيا أكثر من ستة آلاف قبر ؛ المشهور منها ما يزيد على ألف قبر .
وإذا كانت أمة هذا هو حال وعدد القبور في بلادها فكيف ترجو النصر من الله ، وكيف ترجو الفلاح والنجاح من الله سبحانه وتعالى وهي أصلاً لم تقر بعبادة الله سبحانه وتعالى ، ولم تفرده دون غيره ، وتخلص العبادة له سبحانه ؛ قال ابن القيم – رحمه الله – عن أولئك – عباد القبور – قال : (( فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً ، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد فوضعوا لها الجباه ، وقبلوا الأرض ، وكشفوا الرؤوس ، وارتفعت أصواتهم بالضجيج ، وتباكوا ؛ حتى تسمع لهم النشيج ، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج ، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد ، ونادوا ولكن من مكان بعيد ، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ، ورأوا أنه قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين ، فتراهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً ، وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسراناً ، فلغير الله ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات ، ويطلب من الميت الحاجات ، ويسأل من تفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات ، وإغناء ذوي الفاقات ، ومعافاة ذوي العاهات والبليات ، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدىً للعالمين ؛ ثم أخذوا في التقبيل والاستلام ؛ أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام ؛ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود ، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود .
ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هنالك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق ؛ وقد قربوا لذلك الوثن من القرابين ، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين ، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضاً ويقول : أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظاً .
فإن رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة إلى البيت الحرام ، فيأبى ويقول : ولا بعشر حجج إلى البيت الحرام )) .
إن معالجة انحرافات القبوريين تكمن في ثلاثة مسالك :
الأول : المسلك العلمي : وهذا يقوم به العلماء ، وطلبة العلم ، فإن القبوريين يعولون في تلقيهم واستدلالاتهم على المنامات والأحاديث المكذوبة والحكايات المزعومة فيتعين عليكم طلبة العلم فساد وكشف عوار مسلك أولئك القبوريين ، وبيان تهافته ، وفساد التعويل على تلك المنامات والأحلام والأحاديث الموضوعة ، والحكايات المزعومة ، مع تقرير المنهج الصحيح في التلقي والاستدلال كالاعتماد على الكتاب والسنة الصحيحة ، واعتبار فهم السلف الصالح ونحو ذلك .
ثانياً : معالجة انحراف القبوريين في المسلك الدعوي : وذلك أن يعنى العلماء والدعاة بتقرير التوحيد في تلك المجتمعات المولعة بتعظيم القبور والغلو فيها ، وأن يجتهدوا في تجلية مفهوم التوحيد ، وضرورة تعلق القلب بالله سبحانه وتعالى .
وأيضاً أن تربى الأمة عموماً على أهمية التسليم لنصوص الكتاب والسنة ، والتحاكم إليهما ؛ ليس هذا وحسب ؛ بل وانشراح الصدر لذلك { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } .
ثالثاً : دعوتهم إلى التفكير والتأمل ومخاطبة عقولهم ، فإن الغلو في الأضرحة وتقديس القبور لا يظهر إلا عند أقوام ألغوا عقولهم ، وعطلوا تفكيرهم .
أما المسلك الثالث : فهو المسلك ألاحتسابي :
وذلك أن يسعى إلى هدم هذه القباب ، ونقضها وإزالتها ، كما في حديث أبي الهياج الأسدي الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث علي ابن أبي طالب يوم أن قال : (( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته ، ولا صورة إلا طمستها ))، بالطبع هذا مشروط بالقدرة ، مع عدم ترتب الضرر ، وذلك كما فعل إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – مع عثمان ابن معمر – رحم الله الجميع – عندما هدموا القباب وقطعوا الأشجار ، وكان الشيخ – رحمه الله – هو الذي هدم القبة التي كانت على قبر زيد بن الخطاب بيده ، وكذلك قطع شجرة الذئب ، وكذلك قام الشيخ حافظ الحكمي – رحمه الله – بهدم قبة في الساحل وبقايا قبة على قبر الشريف حمود المكرمي وذلك في مدينة صامطة ، وكذلك في عام ثلاثة وأربعين بعد ألف وثلاثمائة للهجرة قام أتباع الدعوة السلفية بهدم القباب والأبنية على القبور بمكة المكرمة مثل القبة المبنية على قبر أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها - .
ثانياً : أن يسعى إلى فضح وكشف مكائد أرباب القبور ، وسدنتها ، وبيان حقيقة هؤلاء الدجالين الملبسين وما هم عليه من الفجور ، وأكل أموال الناس بالباطل ، ولاشك أن لانتشار واستمرار القبور في العالم الإسلامي عوامل ، منها :
أولاً : العوامل الدينية :
ويرجع ذلك إلى الفراغ التوحيدي في نفوس القبوريين ، وكذلك ترويج مشايخ القبورية لشبهات ساقطة على أنها أدلة شرعية ، وحقائق دينية تسمح بهذه الطقوس ، وهم يعتقدون في القبور والأضرحة وأصحابها النفع والضر .
ثانياً : العوامل النفسية :
التي تعمل على انتشار تقديس القبور والأضرحة واستمرارها حيث يمثل الخوف منها الذي نتج أيضاً عن ذلك الاعتقاد وتلك الإشاعات ونسج الأكاذيب لعبت دوراً مهماً في بناء العامل النفسي ، فالصوفية مثلاً دأبوا على تحذير الناس من غضب الأولياء .
ومن العوامل : العوامل الاجتماعية :
والمجاملات لها دور مهم في الانتشار ، وكذلك صفة الهيبة ، والوجاهة الاجتماعية ، التي تصبغ وتجعل على أهل القبور والأضرحة من سدنتها ، وخدمها القائمين عليها ، وكذلك التفاخر بين أهل القرى والمدن بهذه القبور والأضرحة وخاصة إذا كان من ذوي الشهرة والمكانة ، فبعض القرى تفتخر أن قبر فلان بين جنباتها ، وفي أوساطها ، وكأنه شرف لم تحض قرية ولا مدينة بمثل هذا الشرف .
العوامل الاقتصادية :
هي المنافع المادية ، فمنذ القدم استعمل الرافضة القبور والأضرحة وسيلة للتكسب والعيش والقائمون عليها من المنتفعين ؛ كذلك الآلاف من الفقراء الذين يتعيشون بجوار الأضرحة ويستفيدون من الموالد .
ومن العوامل : العوامل السياسية :
وذلك من خلال المنافع التي تجلبها عليها لتلك الدول من وراء ذلك إضافة لضرب الاتجاهات الدينية المعارضة لهم ، وكذلك دعم بعض الدول الاستعمارية لهذه المظاهر الشركية ، والقبورية لما تعلم أنها سبب في ضعف الأمة ، وتمزيقها وتفريق كلمتها .
والكلام مازال مستمراً على تلك الطعنات في جناب ذلك التوحيد الشامخ العظيم .
فمن تلك الطعنات : أننا ابتلينا اليوم بكثرة في الجماعات وتعدد في الفرق والأحزاب لا تدعوا إلى التوحيد ولا تصحح العقيدة ، ولم يكن ذلك من همها وشأنها ؛ بل وصل الحال إلى تجاهل التوحيد ، والتحذير من الدعاة إليه ، وهذا من ضمن بعض الأمور والشبه التي ابتليت بها الأمة وسنفرد لها بحثاً مستقلاً في ختام هذه المحاضرة .
يتبع.........
تعليق