بسم الله الرحمن الرحيم
وحسبي الله ونعم الوكيل
أما بعد:
قال العلامة المفسر محمد الأمين بن محمد الجكني الشنقيطي -رحمه الله-:في تفسيره"أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " (304-307).
وقد دلَّ استقراء القرآن العظيم على أنَّ توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توحيده في ربوبيته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فِطَرُ العقلاء، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ..}(1)، وقال: {قُلْ مَن يَّرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَّمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُّدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}(2). وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله: {قَالَ فِرْعَونُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}(3) تجاهلٌ من عارفٍ أنَّه عبدٌ مربوبٌ؛ بدليل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلآءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ ...}(4) الآية، وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}(5)، وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله؛ كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(6)، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً.
الثاني: توحيده جلَّ وعلا في عبادته. وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى "لا إله إلا الله" وهي متركبة من نفي وإثبات؛ فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت. ومعنى الإثبات منها: إفراد الله جلَّ وعلا وحده بجميع أنواعالعبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام. وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم {أَجَعَلَ الأَلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}(7).
ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ..}( الآية، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}(9) الآية، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}(10)، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ}(11)، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}(12)، فقد أمر في هذه الآية الكريمة أن يقول: إنَّما أوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد؛ لشمول كلمة "لا إله إلا الله" لجميع ما جاء في الكتب؛ لأنَّها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده. فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب، والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة.
النوع الثالث: توحيده جلَّ وعلا في أسمائه وصفاته. وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين:
الأول: تنزيه الله جلَّ وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم؛ كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(13).
والثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه؛ أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله؛ كما قال بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(14)، مع قطع الطمع عن إدراك كيفيَّة الاتصاف، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}(15)، وقد قدمنا هذا المبحث مستوفى موضحاً بالآيات القرآنية في سورة الأعراف.
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جلَّ وعلا على وجوب توحيده في عبادته؛ ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبيَّة باستفهام التقرير. فإذا أقرُّوا بربوبيته احتج بها عليهم على أنَّه هو المستحق لأنْ يعبد وحده. ووبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنَّه هو الربّ وحده؛ لأنَّ من اعترف بأنَّه الرب وحده لزمه الاعتراف بأنَّه هو المستحق لأن يُعبد وحده.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَن يَّرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَّمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ}(16) إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللهُ}: فلما أقروا بربوبيتهوبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره بقوله: {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}.
ومنها قوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ}، فلما اعترفوا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}، ثم قال: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ سَيَقُولُونَ للهِ}، فلما أقرُّوا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}، ثم قال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ}فلما أقرُّوا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}(17).
ومنها قوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ}، فلما صح الاعتراف وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً}(1.
ومنها قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ}، فلما صحَّ إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}(19).
ومنها قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ}، فلما صحَّ اعترافهم وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}، وقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ}، فلما صحَّ إقرارهم وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلِ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَيَعْقِلُونَ}(20)، وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ}، فلما صح اعترافهم وبخهم الله منكراً عليهم بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(21)، وقوله تعالى: {ءَآللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا}، ولا شك أنَّ الجواب الذي لا جواب لهم البتة غيره: هو أنَّ القادر على خلق السموات والأرض وما ذكر معها خير من جماد لا يقدر على شيء. فلما تعيَّن اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، ثم قال تعالى: {أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً}، ولا شك أنَّ الجواب الذي لا جواب غيره كما قبله. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، ثم قال جلَّ وعلا: {أَمَّن يُّجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْضِ}، ولا شك أنَّ الجواب كما قبله. فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}، ثم قال تعالى: {أَمَّن يَّهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُّرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، ولا شك أنَّ الجواب كما قبله. فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، ثم قال جلَّ وعلا: {أَمَّن يَّبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَّرْزُقُكُم مِّنَّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ}، ولا شك أنَّ الجواب كما قبله. فلما تعين الاعتراف وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(22)، وقوله: {اللهُ الذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَّفْعَلُ مِن ذَالِكُم مِّن شَيْءٍ}(23)، ولا شك أنَّ الجواب الذي لا جواب لهم غيره هو: لا، أي ليس من شركائنا من يقدر على أن يفعل شيئاً من ذلك المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
والآيات بنحو هذا كثيرة جداً. ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع: أنَّ كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهاماتُ تقريرٍ، يراد منها أنَّهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار؛ لأنَّ المقر بالربوبية يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة؛ نحو قوله تعالى: {أَفِي اللهِ شَكٌّ}(24)، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً}(25) وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار؛ لأنَّ استقراء القرآن دلَّ على أنَّ الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار؛ لأنَّهم لا ينكرون الربوبية، كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه.
والكلام على أقسام التوحيد ستجده إن شاء الله في مواضع كثيرة منهذا الكتاب المبارك، بحسب المناسبات في الآيات التي نتكلم على بيانها بآيات أخر اهـــ
وصلى الله على من بعته الله رحمة للعالمين وآله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلم تسليما كثيراً
(1) سورة الزخرف، الآية (87).
(2) سورة يونس: الآية (31).
(3) سورة الشعراء: الآية( 23).
(4) سورة الإسراء: الآية (102).
(5) سورة النمل: الآية (14).
(6) سورة يوسف: الآية (106).
(7) سورة ص: الآية (5).
( سورة محمد: الآية( 19).
(9) سورة النحل: الآية (36).
(10) سورة الأنبياء، الآية (25).
(11) سورة الزخرف: الآية( 45).
(12) سورة الأنبياء:الآية (108).
(13) سورة الشورى:الآية (11).
(14) سورة الشورى: الآية (11).
(15) سورة طه: الآية (110).
(16) سورة يونس: (31).
(17) سورة المؤمنون: الآيات (84 – 89).
(1 سورة الرعد:الآية (16).
(19) سورة الزخرف: الآية (87).
(20) سورة العنكبوت: الآيات (61 – 63).
(21) سورة لقمان، الآية (25).
(22) سورة النمل: الآيات( 60- 64).
(23) سورة الروم: الآية (40).
(24) سورة إبراهيم: الآية( 10).
(25) سورة الأنعام: الآية (164).
تعليق