أقوال وأفعال تُنافي التوحيد أو تُنقِصُه
وفيه فصول :
الفصل الأول : ادعاء علم الغيب في قراءة الكف والفنجان ، والتنجيم ... إلخ .
الفصل الثاني : السحر والكهانة والعرافة .
الفصل الثالث : تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها .
الفصل الرابع : تعظيم التماثيل والنصب التذكارية .
الفصل الخامس : الاستهزاء بالدين والاستهانة بحرماته .
الفصل السادس : الحكم بغير ما أنزل الله .
الفصل السابع : ادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم .
الفصل الثامن : الانتماء إلى المذاهب الإلحادية والأحزاب الجاهلية .
الفصل التاسع : النظرة المادية للحياة .
الفصل العاشر : التمائم والرقى .
الفصل الحادي عشر : الحلف بغير الله والتوسل والاستعانة بالمخلوق دون الله .
الفصل الأول
ادِّعاء علم الغيب في قراءة الكف والفنجان وغيرهما
المراد بالغيب : ما غاب عن الناس من الأمور المستقبلة والماضية وما لا يرونه ، وقد اختص الله تعالى بعلمه ، وقال تعالى : قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ .
فلا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وحده ، وقد يُطلع رسله على ما شاء من غيبه لحكمة ومصلحة ، قال تعالى : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ .
أي : لا يطلع على شيء من الغيب إلا من اصطفاه لرسالته ، فيظهره على ما يشاء من الغيب ؛ لأنه يُستدل على نبوته بالمعجزات التي منها الإخبار عن الغيب الذي يطلعه الله عليه ، وهذا يعم الرسول الملكي والبشري ، ولا يطلع غيرهما لدليل الحصر . فمن ادّعى علم الغيب بأي وسيلة من الوسائل غير من استثناه الله من رسله فهو كاذب كافر ، سواء ادّعى ذلك بواسطة قراءة الكف أو الفنجان ، أو الكهانة أو السحر أو التنجيم ، أو غير ذلك ، وهذا الذي يحصل من بعض المشعوذين والدجالين من الإخبار عن مكان الأشياء المفقودة والأشياء الغائبة ، وعن أسباب بعض الأمراض ، فيقولون : فلان عَمِلَ لكَ كذا وكذا فمرضتَ بسببه ، وإنما هذا لاستخدام الجن والشياطين ، ويظهرون للناس أن هذا يحصل لهم عن طريق عمل هذه الأشياء من باب الخداع والتلبيس ، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية ( والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين ، يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع ، وكانوا يَخلطون الصِّدقَ بالكذب ) إلى أن قال : ( ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع ، ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما ) انتهى .
وقد يكون إخبارهم عن ذلك عن طريق التنجيم ، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية ، كأوقات هُبوب الرياح ومجيء المطر ، وتغير الأسعار ، وغير ذلك من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بسير الكواكب في مجاريها ، واجتماعها وافتراقها . ويقولون : من تزود بنجم كذا وكذا ، حصل له كذا وكذا ، ومن سافر بنجم كذا حصل له كذا ، ومن وُلد بنجم كذا وكذا حصل له كذا ؛ من السعود أو النحوس ، كما يعلن في بعض المجلات الساقطة من الخزعبلات حول البروج وما يجري فيها من الحظوظ .
وقد يذهب بعضُ الجهال وضعاف الإيمان إلى هؤلاء المنجمين ، فيسألهم عن مستقبل حياته وما يجري عليه فيه وعن زواجه وغير ذلك .
ومن ادَّعى علم الغيب أو صدَّق من يدَّعيه فهو مشركٌ كافر ؛ لأنه يدَّعي مشاركة الله فيما هو من خصائصه ، والنجوم مسخَّرة مخلوقة ، ليس لها من الأمر شيء ، ولا تدل على نحوس ، ولا سعود ، ولا موت ، ولا حياة ، وإنما هذا كله من أعمال الشياطين الذين يسترقون السمع .
الفصل الثاني
السحرُ والكهانةُ والعِرافة
كل هذه الأمور أعمال شيطانية مُحرَّمة تخل بالعقيدة أو تناقضها ؛ لأنها لا تحصل إلا بأمور شركية .
1 - فالسحرُ عبارةٌ عما خفي ولَطُفَ سببُهُ
سُمِّي سِحْرا ؛ لأنه يحصل بأمور خفية ، لا تدرك بالأبصار ، وهو عزائم ورقى ، وكلام يتكلم به ، وأدوية وتدخينات ، وله حقيقة . ومنه ما يؤثر في القلوب والأبدان فيُمرض ويقتُل ويفرق بين المرء وزوجه ، وتأثيره بإذن الله الكوني القَدَريّ ، وهو عمل شيطاني ، وكثير منه لا يتوصل إليه إلا بالشرك والتقرب إلى الأرواح الخبيثة بما تحب ، والتوصل إلى استخدامها بالإشراك بها ؛ ولهذا قرنهُ الشارع بالشرك ، حيث يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : اجتنبوا السبعَ الموبقات ، قالوا : وما هي ؟ قال : الإشراكُ بالله ، والسحر ... الحديث . فهو داخل في الشرك من ناحيتين :
الناحية الأولى : ما فيه من استخدام الشياطين ، والتعلق بهم والتقرب إليهم بما يحبونه ؛ ليقوموا بخدمة الساحر ، فالسِّحرُ من تعليم الشياطين ، قال تعالى : وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .
الثانية : ما فيه من دعوى علم الغيب ، ودعوى مشاركة الله في ذلك ، وهذا كفر وضلال ، قال تعالى : وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ، أي : نصيبٌ .
وإذا كان كذلك فلا شكَّ أنه كفر وشرك يناقض العقيدة ، ويجبُ قتل متعاطيه ، كما قتله جماعة من أكابر الصحابة - رضي الله عنهم - وقد تساهل الناس في شأن الساحر والسِّحر ، ورُبما عدوا ذلك فنًّا من الفنون التي يفتخرون بها ، ويمنحون أصحابها الجوائز والتشجيع ، ويُقيمون النوادي والحفلات والمسابقات للسحرة ، ويحضرها آلاف المتفرجين والمشجعين ، أو يسمونه بالسرك ، وهذا من الجهل بالدين والتهاون بشأن العقيدة ، وتمكين للعابثين .
2- الكهانة والعرافة
وهما ادعاء علم الغيب ، ومعرفة الأمور الغائبة ، كالأخبار بما سيقع في الأرض ، وما سيحصل ، وأين مكان الشيء المفقود ؛ وذلك عن طريق استخدام الشياطين الذين يسترقون السمع من السماء ، كما قال تعالى : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ .
وذلك أن الشيطان يسترق الكلمة من كلام الملائكة ، فيلقيها في أذن الكاهن ، ويكذب الكاهن مع هذه الكلمة مائة كذبة ، فيصدقه الناس بسبب تلك الكلمة التي سُمعت من السماء ، والله عز وجل هو المنفرد بعلم الغيب ، فمن ادعى مشاركته في شيء من ذلك ، بكهانة أو غيرها ، أو صدق من يدعي ذلك فقد جعل لله شريكًا فيما هو من خصائصه . والكهانة لا تخلو من الشرك ؛ لأنها تَقَرُّبٌ إلى الشياطين بما يحبون ؛ فهي شرك في الربوبية من حيث ادعاء مشاركة الله في علمه ، وشرك في الألوهية من حيث التقرب إلى غير الله بشيء من العبادة .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ومما يجب التنبيه عليه والتنبه له : أن السحرة والكهان والعرافين يعبثون بعقائد الناس بحيث يظهرون بمظهر الأطباء ، فيأمرون المرضى بالذبح لغير الله ؛ بأن يذبحوا خروفًا صفته كذا وكذا ، أو دجاجة ، أو يكتبون لهم الطلاسم الشركية ، والتعاويذ الشيطانية بصفة حروز يعلقونها في رقابهم ، أو يضعونها في صناديقهم ، أو في بيوتهم .
والبعض الآخر يظهر بمظهر المخبر عن المغيبات ، وأماكن الأشياء المفقودة ؛ بحيث يأتيه الجهال فيسألونه عن الأشياء الضائعة ، فيخبرهم بها أو يحضرها لهم ، بواسطة عملائه من الشياطين . وبعضهم يظهر بمظهر الولي الذي له خوارق وكرامات ، أو بمظهر الفنان ، كدخول النار ولا تؤثر فيه ، وضرب نفسه بالسلاح ، أو وضع نفسه تحت عجلات السيارة ولا تؤثر فيه ، أو غير ذلك من الشعوذات التي هي في حقيقتها سحر من عمل الشيطان ، يجري على أيدي هؤلاء للفتنة . أو هي أمور تخيلية لا حقيقة لها ؛ بل هي حيل خفية يتعاطونها أمام الأنظار ، كعمل سحرة فرعون بالحبال والعصي .
قال شيخ الإسلام في مناظرته للسحرة البطائحية الأحمدية الرفاعية ( قال : " يعني شيخ البطائحية " ورفع صوته : نحن لنا أحوال وكذا وكذا ، وادَّعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها واختصاصهم بها ، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها ) . قال شيخ الإسلام : ( فقلتُ ورفعتُ صوتي وغضبت : أنا أُخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها : أي شيء فعلوه في النار ؟ ! فأنا أصنع مثل ما يصنعون ، ومن احترق فهو مغلوب ، وربما قلت : فعليه لعنة الله ، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار ، فسألني الأمراء والناس عن ذلك ؛ فقلت : لأن لهم حيلًا في الاتصال بالنار ، يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع ، وقشر النارنج ، وحجر الطلق ، فضج الناس بذلك ؛ فأخذ يظهر القدرة على ذلك ، فقال : أنا وأنت نُلَفُّ في بارية بعد أن نطلي جسومنا بالكبريت . فقلت : فقُم ، وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك ، فمدَّ يده يظهر خلع القميص ، فقُلتُ : لا ، حتى تغتسل بالماء الحار والخل ؛ فأظهر الوهم على عادتهم ، فقال : من كان يحبُّ الأمير فليحضر خشبًا - أو قال : حزمة حطب - فقلتُ : هذا تطويلٌ وتفريقٌ للجمع ولا يَحصلُ به مقصود ؛ بل قنديل يوقد وأُدخل أصبعي وأصبعك فيه بعد الغسل ، ومن احترقت أصبعه فعليه لعنة الله ، أو قلت : فهو مغلوب ، فلمَّا قلتُ ذلك تغير وذل ) انتهى.
والمقصود منه بيان أن هؤلاء الدجالين يكذبون على الناس بمثل هذه الحيل الخفية ، كجرهم السيارة بشعرة ، وإلقائه نفسه تحت عجلاتها ، وإدخال أسياخ الحديد في عينه ، إلى غير ذلك من الشعوذات الشيطانية .
وفيه فصول :
الفصل الأول : ادعاء علم الغيب في قراءة الكف والفنجان ، والتنجيم ... إلخ .
الفصل الثاني : السحر والكهانة والعرافة .
الفصل الثالث : تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها .
الفصل الرابع : تعظيم التماثيل والنصب التذكارية .
الفصل الخامس : الاستهزاء بالدين والاستهانة بحرماته .
الفصل السادس : الحكم بغير ما أنزل الله .
الفصل السابع : ادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم .
الفصل الثامن : الانتماء إلى المذاهب الإلحادية والأحزاب الجاهلية .
الفصل التاسع : النظرة المادية للحياة .
الفصل العاشر : التمائم والرقى .
الفصل الحادي عشر : الحلف بغير الله والتوسل والاستعانة بالمخلوق دون الله .
الفصل الأول
ادِّعاء علم الغيب في قراءة الكف والفنجان وغيرهما
المراد بالغيب : ما غاب عن الناس من الأمور المستقبلة والماضية وما لا يرونه ، وقد اختص الله تعالى بعلمه ، وقال تعالى : قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ .
فلا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وحده ، وقد يُطلع رسله على ما شاء من غيبه لحكمة ومصلحة ، قال تعالى : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ .
أي : لا يطلع على شيء من الغيب إلا من اصطفاه لرسالته ، فيظهره على ما يشاء من الغيب ؛ لأنه يُستدل على نبوته بالمعجزات التي منها الإخبار عن الغيب الذي يطلعه الله عليه ، وهذا يعم الرسول الملكي والبشري ، ولا يطلع غيرهما لدليل الحصر . فمن ادّعى علم الغيب بأي وسيلة من الوسائل غير من استثناه الله من رسله فهو كاذب كافر ، سواء ادّعى ذلك بواسطة قراءة الكف أو الفنجان ، أو الكهانة أو السحر أو التنجيم ، أو غير ذلك ، وهذا الذي يحصل من بعض المشعوذين والدجالين من الإخبار عن مكان الأشياء المفقودة والأشياء الغائبة ، وعن أسباب بعض الأمراض ، فيقولون : فلان عَمِلَ لكَ كذا وكذا فمرضتَ بسببه ، وإنما هذا لاستخدام الجن والشياطين ، ويظهرون للناس أن هذا يحصل لهم عن طريق عمل هذه الأشياء من باب الخداع والتلبيس ، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية ( والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين ، يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع ، وكانوا يَخلطون الصِّدقَ بالكذب ) إلى أن قال : ( ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع ، ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما ) انتهى .
وقد يكون إخبارهم عن ذلك عن طريق التنجيم ، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية ، كأوقات هُبوب الرياح ومجيء المطر ، وتغير الأسعار ، وغير ذلك من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بسير الكواكب في مجاريها ، واجتماعها وافتراقها . ويقولون : من تزود بنجم كذا وكذا ، حصل له كذا وكذا ، ومن سافر بنجم كذا حصل له كذا ، ومن وُلد بنجم كذا وكذا حصل له كذا ؛ من السعود أو النحوس ، كما يعلن في بعض المجلات الساقطة من الخزعبلات حول البروج وما يجري فيها من الحظوظ .
وقد يذهب بعضُ الجهال وضعاف الإيمان إلى هؤلاء المنجمين ، فيسألهم عن مستقبل حياته وما يجري عليه فيه وعن زواجه وغير ذلك .
ومن ادَّعى علم الغيب أو صدَّق من يدَّعيه فهو مشركٌ كافر ؛ لأنه يدَّعي مشاركة الله فيما هو من خصائصه ، والنجوم مسخَّرة مخلوقة ، ليس لها من الأمر شيء ، ولا تدل على نحوس ، ولا سعود ، ولا موت ، ولا حياة ، وإنما هذا كله من أعمال الشياطين الذين يسترقون السمع .
الفصل الثاني
السحرُ والكهانةُ والعِرافة
كل هذه الأمور أعمال شيطانية مُحرَّمة تخل بالعقيدة أو تناقضها ؛ لأنها لا تحصل إلا بأمور شركية .
1 - فالسحرُ عبارةٌ عما خفي ولَطُفَ سببُهُ
سُمِّي سِحْرا ؛ لأنه يحصل بأمور خفية ، لا تدرك بالأبصار ، وهو عزائم ورقى ، وكلام يتكلم به ، وأدوية وتدخينات ، وله حقيقة . ومنه ما يؤثر في القلوب والأبدان فيُمرض ويقتُل ويفرق بين المرء وزوجه ، وتأثيره بإذن الله الكوني القَدَريّ ، وهو عمل شيطاني ، وكثير منه لا يتوصل إليه إلا بالشرك والتقرب إلى الأرواح الخبيثة بما تحب ، والتوصل إلى استخدامها بالإشراك بها ؛ ولهذا قرنهُ الشارع بالشرك ، حيث يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : اجتنبوا السبعَ الموبقات ، قالوا : وما هي ؟ قال : الإشراكُ بالله ، والسحر ... الحديث . فهو داخل في الشرك من ناحيتين :
الناحية الأولى : ما فيه من استخدام الشياطين ، والتعلق بهم والتقرب إليهم بما يحبونه ؛ ليقوموا بخدمة الساحر ، فالسِّحرُ من تعليم الشياطين ، قال تعالى : وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .
الثانية : ما فيه من دعوى علم الغيب ، ودعوى مشاركة الله في ذلك ، وهذا كفر وضلال ، قال تعالى : وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ، أي : نصيبٌ .
وإذا كان كذلك فلا شكَّ أنه كفر وشرك يناقض العقيدة ، ويجبُ قتل متعاطيه ، كما قتله جماعة من أكابر الصحابة - رضي الله عنهم - وقد تساهل الناس في شأن الساحر والسِّحر ، ورُبما عدوا ذلك فنًّا من الفنون التي يفتخرون بها ، ويمنحون أصحابها الجوائز والتشجيع ، ويُقيمون النوادي والحفلات والمسابقات للسحرة ، ويحضرها آلاف المتفرجين والمشجعين ، أو يسمونه بالسرك ، وهذا من الجهل بالدين والتهاون بشأن العقيدة ، وتمكين للعابثين .
2- الكهانة والعرافة
وهما ادعاء علم الغيب ، ومعرفة الأمور الغائبة ، كالأخبار بما سيقع في الأرض ، وما سيحصل ، وأين مكان الشيء المفقود ؛ وذلك عن طريق استخدام الشياطين الذين يسترقون السمع من السماء ، كما قال تعالى : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ .
وذلك أن الشيطان يسترق الكلمة من كلام الملائكة ، فيلقيها في أذن الكاهن ، ويكذب الكاهن مع هذه الكلمة مائة كذبة ، فيصدقه الناس بسبب تلك الكلمة التي سُمعت من السماء ، والله عز وجل هو المنفرد بعلم الغيب ، فمن ادعى مشاركته في شيء من ذلك ، بكهانة أو غيرها ، أو صدق من يدعي ذلك فقد جعل لله شريكًا فيما هو من خصائصه . والكهانة لا تخلو من الشرك ؛ لأنها تَقَرُّبٌ إلى الشياطين بما يحبون ؛ فهي شرك في الربوبية من حيث ادعاء مشاركة الله في علمه ، وشرك في الألوهية من حيث التقرب إلى غير الله بشيء من العبادة .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ومما يجب التنبيه عليه والتنبه له : أن السحرة والكهان والعرافين يعبثون بعقائد الناس بحيث يظهرون بمظهر الأطباء ، فيأمرون المرضى بالذبح لغير الله ؛ بأن يذبحوا خروفًا صفته كذا وكذا ، أو دجاجة ، أو يكتبون لهم الطلاسم الشركية ، والتعاويذ الشيطانية بصفة حروز يعلقونها في رقابهم ، أو يضعونها في صناديقهم ، أو في بيوتهم .
والبعض الآخر يظهر بمظهر المخبر عن المغيبات ، وأماكن الأشياء المفقودة ؛ بحيث يأتيه الجهال فيسألونه عن الأشياء الضائعة ، فيخبرهم بها أو يحضرها لهم ، بواسطة عملائه من الشياطين . وبعضهم يظهر بمظهر الولي الذي له خوارق وكرامات ، أو بمظهر الفنان ، كدخول النار ولا تؤثر فيه ، وضرب نفسه بالسلاح ، أو وضع نفسه تحت عجلات السيارة ولا تؤثر فيه ، أو غير ذلك من الشعوذات التي هي في حقيقتها سحر من عمل الشيطان ، يجري على أيدي هؤلاء للفتنة . أو هي أمور تخيلية لا حقيقة لها ؛ بل هي حيل خفية يتعاطونها أمام الأنظار ، كعمل سحرة فرعون بالحبال والعصي .
قال شيخ الإسلام في مناظرته للسحرة البطائحية الأحمدية الرفاعية ( قال : " يعني شيخ البطائحية " ورفع صوته : نحن لنا أحوال وكذا وكذا ، وادَّعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها واختصاصهم بها ، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها ) . قال شيخ الإسلام : ( فقلتُ ورفعتُ صوتي وغضبت : أنا أُخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها : أي شيء فعلوه في النار ؟ ! فأنا أصنع مثل ما يصنعون ، ومن احترق فهو مغلوب ، وربما قلت : فعليه لعنة الله ، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار ، فسألني الأمراء والناس عن ذلك ؛ فقلت : لأن لهم حيلًا في الاتصال بالنار ، يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع ، وقشر النارنج ، وحجر الطلق ، فضج الناس بذلك ؛ فأخذ يظهر القدرة على ذلك ، فقال : أنا وأنت نُلَفُّ في بارية بعد أن نطلي جسومنا بالكبريت . فقلت : فقُم ، وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك ، فمدَّ يده يظهر خلع القميص ، فقُلتُ : لا ، حتى تغتسل بالماء الحار والخل ؛ فأظهر الوهم على عادتهم ، فقال : من كان يحبُّ الأمير فليحضر خشبًا - أو قال : حزمة حطب - فقلتُ : هذا تطويلٌ وتفريقٌ للجمع ولا يَحصلُ به مقصود ؛ بل قنديل يوقد وأُدخل أصبعي وأصبعك فيه بعد الغسل ، ومن احترقت أصبعه فعليه لعنة الله ، أو قلت : فهو مغلوب ، فلمَّا قلتُ ذلك تغير وذل ) انتهى.
والمقصود منه بيان أن هؤلاء الدجالين يكذبون على الناس بمثل هذه الحيل الخفية ، كجرهم السيارة بشعرة ، وإلقائه نفسه تحت عجلاتها ، وإدخال أسياخ الحديد في عينه ، إلى غير ذلك من الشعوذات الشيطانية .
الفصل الثالث
تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها
في بيان حكم تعظيم التماثيل والنصب التذكارية
تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها
لقد سدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل الطرق المفضية إلى الشرك ، وحذّر منها غاية التحذير ، ومن ذلك : مسألة القبور ، قد وضع الضوابط الواقية من عبادتها ، والغلو في أصحابها ، ومن ذلك :
1 - أنه قد حذّر - صلى الله عليه وسلم - من الغلو في الأولياء والصالحين ؛ لأن ذلك يؤدِّي إلى عبادتهم ، فقال : إياكم والغُلُوَّ ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغُلُوُّ وقال : لا تُطروني كما أطرتِ النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبدٌ فقولوا عبدُ الله ورسوله .
2 - وحذر - صلى الله عليه وسلم - من البناء على القبور ، كما روى أبو الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته ، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته .
3 - ونهى عن تجصيصها والبناء عليها ، عن جابر رضي الله عنه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه بناء .
4 - وحذَّر - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عند القبور ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما نُزِلَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها ، فقال وهو كذلك : لعنةُ الله على اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذرُ ما صنعوا ، ولولا ذلك أبرز قبره ، غير أنه خشي أن يُتَّخذَ مسجدًا .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ألا وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجد ؛ فإني أنهاكم عن ذلك .
واتخاذُها مساجد معناهُ : الصلاة عندها وإن لم يبن مسجد عليها ؛ فكلُّ موضع قصد للصلاة فيه فقد اتُّخذَ مسجدًا ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا فإذا بني عليها مسجد فالأمر أشد .
وقد خالف أكثر الناس هذه النواهي ، وارتكبوا ما حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقعوا بسبب ذلك في الشرك الأكبر ؛ فبنوا على القبور مساجد وأضرحة ومقامات ، وجعلوها مزارات تمارس عندها كل أنواع الشرك الأكبر ، من الذبح لها ، ودعاء أصحابها ، والاستغاثة بهم ، وصرف النذور لهم ، وغير ذلك .
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - : ( ومن جمع بين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبور ، وما أمر به ونهى عنه ، وما كان عليه أصحابه ، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدُهما مضادًا للآخر مناقضًا له ؛ بحيث لا يجتمعان أبدًا ؛ فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة إلى القبور ، وهؤلاء يصلون عندها ، ونهى عن اتخاذها مساجد ، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ، ويسمونها مشاهد ؛ مضاهاة لبيوت الله ، ونهى عن إيقاد السُّرُج عليها ، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها ، ونهى عن أن تُتَّخذَ عيدًا ، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك ، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر .
وأمر بتسويتها ، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بنُ أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثُكَ على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته . وفي صحيحه أيضًا عن ثُمامَة بن شُفيّ قال : كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا ، فأمر فضالة بقبره فسوي ، ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها .
وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ، ويرفعونها عن الأرض كالبيت ، ويعقدون عليها القباب .
إلى أن قال : ( فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور ، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه ؟ ! ولا ريبَ أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره ) .
ثم أخذ يذكر تلك المفاسد ، إلى أن قال : ( ومنها : أن الذي شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة ، والإحسان إلى المزور بالدعاء له ، والترحم عليه والاستغفار ، وسؤال العافية له ؛ فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت ، فقلب هؤلاء المشركون الأمر ، وعكسوا الدين ، وجعلوا المقصود بالزيارة : الشرك بالميت ، ودعاءه والدعاء به ، وسؤال حوائجهم ، واستنزال البركات منه ، ونصره لهم على الأعداء ، ونحو ذلك ؛ فصاروا مسيئين إلى أنفسهم ، وإلى الميت ، ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له ) انتهى .
وبهذا يتضح أن تقديم النذور والقرابين للمزارات شرك أكبر ؛ سببه مخالفة هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحالة التي يجب أن تكون عليها القبور من عدم البناء عليها وإقامة المساجد عليها ؛ لأنها لما بنيت عليها القباب ، وأقيمت حولها المساجد والمزارات ، ظن الجهال أن المدفونين فيها ينفعون أو يضرون ، وأنهم يُغيثون من استغاث بهم ، ويقضون حوائج من التجأ إليهم ، فقدموا لهم النذور والقرابين ؛ حتى صارت أوثانًا تُعبدُ من دون الله ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد وما دعا بهذا الدعاء إلا لأنه سيحصل شيء من ذلك ، وقد حصل عند القبور في كثير من بلاد الإسلام ، أما قبره فقد حماه الله ببركة دعائه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد يحصل في مسجده شيء من المخالفات ، من بعض الجهال أو الخرافيين ، لكنهم لا يقدرون على الوصول إلى قبره ؛ لأن قبره في بيته وليس في المسجد ، وهو محوط بالجدران ، كما قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - في نونيته :
فأجاب ربُّ العالمين دعاءه وأحاطــه بثلاثــة الجــدران
الفصل الرابع 1 - أنه قد حذّر - صلى الله عليه وسلم - من الغلو في الأولياء والصالحين ؛ لأن ذلك يؤدِّي إلى عبادتهم ، فقال : إياكم والغُلُوَّ ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغُلُوُّ وقال : لا تُطروني كما أطرتِ النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبدٌ فقولوا عبدُ الله ورسوله .
2 - وحذر - صلى الله عليه وسلم - من البناء على القبور ، كما روى أبو الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته ، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته .
3 - ونهى عن تجصيصها والبناء عليها ، عن جابر رضي الله عنه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه بناء .
4 - وحذَّر - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عند القبور ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما نُزِلَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها ، فقال وهو كذلك : لعنةُ الله على اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذرُ ما صنعوا ، ولولا ذلك أبرز قبره ، غير أنه خشي أن يُتَّخذَ مسجدًا .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ألا وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجد ؛ فإني أنهاكم عن ذلك .
واتخاذُها مساجد معناهُ : الصلاة عندها وإن لم يبن مسجد عليها ؛ فكلُّ موضع قصد للصلاة فيه فقد اتُّخذَ مسجدًا ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا فإذا بني عليها مسجد فالأمر أشد .
وقد خالف أكثر الناس هذه النواهي ، وارتكبوا ما حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقعوا بسبب ذلك في الشرك الأكبر ؛ فبنوا على القبور مساجد وأضرحة ومقامات ، وجعلوها مزارات تمارس عندها كل أنواع الشرك الأكبر ، من الذبح لها ، ودعاء أصحابها ، والاستغاثة بهم ، وصرف النذور لهم ، وغير ذلك .
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - : ( ومن جمع بين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبور ، وما أمر به ونهى عنه ، وما كان عليه أصحابه ، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدُهما مضادًا للآخر مناقضًا له ؛ بحيث لا يجتمعان أبدًا ؛ فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة إلى القبور ، وهؤلاء يصلون عندها ، ونهى عن اتخاذها مساجد ، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ، ويسمونها مشاهد ؛ مضاهاة لبيوت الله ، ونهى عن إيقاد السُّرُج عليها ، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها ، ونهى عن أن تُتَّخذَ عيدًا ، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك ، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر .
وأمر بتسويتها ، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بنُ أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثُكَ على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته . وفي صحيحه أيضًا عن ثُمامَة بن شُفيّ قال : كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا ، فأمر فضالة بقبره فسوي ، ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها .
وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ، ويرفعونها عن الأرض كالبيت ، ويعقدون عليها القباب .
إلى أن قال : ( فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور ، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه ؟ ! ولا ريبَ أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره ) .
ثم أخذ يذكر تلك المفاسد ، إلى أن قال : ( ومنها : أن الذي شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة ، والإحسان إلى المزور بالدعاء له ، والترحم عليه والاستغفار ، وسؤال العافية له ؛ فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت ، فقلب هؤلاء المشركون الأمر ، وعكسوا الدين ، وجعلوا المقصود بالزيارة : الشرك بالميت ، ودعاءه والدعاء به ، وسؤال حوائجهم ، واستنزال البركات منه ، ونصره لهم على الأعداء ، ونحو ذلك ؛ فصاروا مسيئين إلى أنفسهم ، وإلى الميت ، ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له ) انتهى .
وبهذا يتضح أن تقديم النذور والقرابين للمزارات شرك أكبر ؛ سببه مخالفة هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحالة التي يجب أن تكون عليها القبور من عدم البناء عليها وإقامة المساجد عليها ؛ لأنها لما بنيت عليها القباب ، وأقيمت حولها المساجد والمزارات ، ظن الجهال أن المدفونين فيها ينفعون أو يضرون ، وأنهم يُغيثون من استغاث بهم ، ويقضون حوائج من التجأ إليهم ، فقدموا لهم النذور والقرابين ؛ حتى صارت أوثانًا تُعبدُ من دون الله ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد وما دعا بهذا الدعاء إلا لأنه سيحصل شيء من ذلك ، وقد حصل عند القبور في كثير من بلاد الإسلام ، أما قبره فقد حماه الله ببركة دعائه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد يحصل في مسجده شيء من المخالفات ، من بعض الجهال أو الخرافيين ، لكنهم لا يقدرون على الوصول إلى قبره ؛ لأن قبره في بيته وليس في المسجد ، وهو محوط بالجدران ، كما قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - في نونيته :
فأجاب ربُّ العالمين دعاءه وأحاطــه بثلاثــة الجــدران
في بيان حكم تعظيم التماثيل والنصب التذكارية
التماثيل جمع تمثال ، وهو الصورة المجسمة على شكل إنسان أو حيوان ، أو غيرهما مما فيه روح ، والنصب في الأصل : العَلَمُ ، وأحجار كان المشركون يذبحون عندها . والنُّصُبُ التذكارية : تماثيلٌ يُقيمونها في الميادين ونحوها ؛ لإحياء ذكرى زعيم أو مُعظَّمٍ .
ولقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من تصوير ذوات الأرواح ، ولا سيما تصوير المعظَّمين من البشر كالعلماء والملوك والعُبَّاد والقادة والرؤساء ، سواء كان هذا التصوير عن طريق رسم الصورة على لوحة أو ورقة ، أو جدار أو ثوب ، أو عن طريق الالتقاط بالآلة الضوئية المعروفة في هذا الزمان ، أو عن طريق النحت ، وبناء الصورة على هيئة التمثال ، ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن تعليق الصور على الجدران ونحوها ، وعن نصب التماثيل ، ومنها : النصب التذكارية ؛ لأن ذلك وسيلة إلى الشرك ؛ فإن أول شرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير ونصب الصور ، وذلك أنه كان في قوم نوح رجال صالحون ، فلما ماتوا حزن عليهم قومهم ، فأوحى إليهم الشيطان : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ولم تُعبد ؛ حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلمُ عُبدت . ولما بعثَ الله نبيه نُوحًا عليه السلام ينهى عن هذا الشرك الذي حصل بسبب تلك الصور التي نصبت ، امتنع قومه من قبول دعوته ، وأصروا على عبادة تلك الصور المنصوبة التي تحوّلت إلى أوثان : وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا .
وهذه أسماء الرجال الذين صورت لهم تلك الصور على أشكالهم ؛ إحياء لذكرياتهم ، وتعظيمًا لهم .
فانظر ما آل إليه الأمر بسبب هذه الأنصاب التذكارية من الشرك بالله ، ومعاندة رسله ؟ ! مما سبب إهلاكهم بالطوفان ، ومقتهم عند الله وعند خلقه مما يدلك على خطورة التصوير ونصب الصور ، ولهذا لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المصورين ، وأخبر أنهم أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة ، وأمر بطمس الصور ، وأخبر أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة ، كل ذلك من أجل مفاسدها ، وشدة مخاطرها على الأمة في عقيدتها ، فإنَّ أول شرك حدث في الأرض كان بسبب نصب الصُّور ، وسواء كان هذا النصب للصور والتماثيل في المجالس ، أو الميادين أو الحدائق ؛ فإنه محرم شرعًا ؛ لأنه وسيلة إلى الشرك ، وفساد العقيدة . وإذا كان الكفار اليومَ يعملون هذا العمل ؛ لأنهم ليس لهم عقيدة يحافظون عليها ؛ فإنه لا يجوز للمسلمين أن يتشبهوا بهم ويشاركوهم في هذا العمل ؛ حفاظًا على عقيدتهم التي هي مصدر قوتهم وسعادتهم . ولا يقال : إن الناس تجاوزوا هذه المرحلة وعرفوا التوحيد والشرك ؛ لأن الشيطان ينظر للجيل المستقبل حينما يظهر فيهم الجهل ، كما عمل مع قوم نوح لما مات علماؤهم وفشا فيهم الجهل ، ولأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، كما قال إبراهيم عليه السلام : وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ فخاف على نفسه الفتنة ، قال بعض السلف : ( ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ ) .
ولقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من تصوير ذوات الأرواح ، ولا سيما تصوير المعظَّمين من البشر كالعلماء والملوك والعُبَّاد والقادة والرؤساء ، سواء كان هذا التصوير عن طريق رسم الصورة على لوحة أو ورقة ، أو جدار أو ثوب ، أو عن طريق الالتقاط بالآلة الضوئية المعروفة في هذا الزمان ، أو عن طريق النحت ، وبناء الصورة على هيئة التمثال ، ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن تعليق الصور على الجدران ونحوها ، وعن نصب التماثيل ، ومنها : النصب التذكارية ؛ لأن ذلك وسيلة إلى الشرك ؛ فإن أول شرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير ونصب الصور ، وذلك أنه كان في قوم نوح رجال صالحون ، فلما ماتوا حزن عليهم قومهم ، فأوحى إليهم الشيطان : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ولم تُعبد ؛ حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلمُ عُبدت . ولما بعثَ الله نبيه نُوحًا عليه السلام ينهى عن هذا الشرك الذي حصل بسبب تلك الصور التي نصبت ، امتنع قومه من قبول دعوته ، وأصروا على عبادة تلك الصور المنصوبة التي تحوّلت إلى أوثان : وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا .
وهذه أسماء الرجال الذين صورت لهم تلك الصور على أشكالهم ؛ إحياء لذكرياتهم ، وتعظيمًا لهم .
فانظر ما آل إليه الأمر بسبب هذه الأنصاب التذكارية من الشرك بالله ، ومعاندة رسله ؟ ! مما سبب إهلاكهم بالطوفان ، ومقتهم عند الله وعند خلقه مما يدلك على خطورة التصوير ونصب الصور ، ولهذا لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المصورين ، وأخبر أنهم أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة ، وأمر بطمس الصور ، وأخبر أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة ، كل ذلك من أجل مفاسدها ، وشدة مخاطرها على الأمة في عقيدتها ، فإنَّ أول شرك حدث في الأرض كان بسبب نصب الصُّور ، وسواء كان هذا النصب للصور والتماثيل في المجالس ، أو الميادين أو الحدائق ؛ فإنه محرم شرعًا ؛ لأنه وسيلة إلى الشرك ، وفساد العقيدة . وإذا كان الكفار اليومَ يعملون هذا العمل ؛ لأنهم ليس لهم عقيدة يحافظون عليها ؛ فإنه لا يجوز للمسلمين أن يتشبهوا بهم ويشاركوهم في هذا العمل ؛ حفاظًا على عقيدتهم التي هي مصدر قوتهم وسعادتهم . ولا يقال : إن الناس تجاوزوا هذه المرحلة وعرفوا التوحيد والشرك ؛ لأن الشيطان ينظر للجيل المستقبل حينما يظهر فيهم الجهل ، كما عمل مع قوم نوح لما مات علماؤهم وفشا فيهم الجهل ، ولأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، كما قال إبراهيم عليه السلام : وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ فخاف على نفسه الفتنة ، قال بعض السلف : ( ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ ) .
الفصل الخامس
في بيان حكم الاستهزاء بالدين والاستهانة بحرماته
الاستهزاء بالدين ردة عن الإسلام ، وخروج عن الدين بالكلية ، قال الله تعالى : قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ .
هذه الآية تدل على أن الاستهزاء بالله كفر ، وأن الاستهزاء بالرسول كفر ، وأن الاستهزاء بآيات الله كفر ، فمن استهزأ بواحد من هذه الأمور فهو مستهزئ بجميعها . والذي حصل من هؤلاء المنافقين أنهم استهزءوا بالرسول وصحابته ؛ فنزلت الآية .
فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم ، فالذين يستخِفُّون بتوحيد الله تعالى ، ويعظمون دعاءَ غيره من الأموات ؛ وإذا أمروا بالتوحيد ونُهوا عن الشرك استخفُّوا بذلك ، كما قال تعالى : وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا .
فاستهزءوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - لما نهاهم عن الشرك ، وما زال المشركون يعيبون الأنبياء ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون ، إذا دعوهم إلى التوحيد ؛ لما في أنفسهم من تعظيم الشرك . وهكذا تجد من فيه شبه منهم ؛ إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك ؛ لما عنده من الشرك ، قال الله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ .
فمن أحبَّ مخلوقًا مثل ما يُحبّ الله فهو مشرك . ويجبُ الفرق بين الحب في الله ، والحب مع الله ، فهؤلاء الذين اتخذوا القبورَ أوثانًا ؛ تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته ، ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء ، ويَحلِفُ أحدُهم بالله اليمين الغموس كاذبًا ، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذبًا ، وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى أن استغاثته بالشيخ - إما عند قبره أو غير قبره - أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السَّحَر ! ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد ، وكثير منهم يخربون المساجد ، ويعمرون المشاهد ، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته ورسوله ، وتعظيمهم للشرك ؟ وهذا كثير وقوعه في القبوريين اليوم .
والاستهزاء على نوعين :
أحدهما : الاستهزاء الصريح ، كالذي نزلت الآية فيه ، وهو قولهم : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطونًا ، ولا أكذب ألسُنًا ، ولا أجبن عند اللقاء . أو نحو ذلك من أقوال المستهزئين ، كقول بعضهم : دينكم هذا دينٌ خامس ، وقول الآخر : دينكم أخرق ، وقول الآخر إذا رأى الآمرين بالمعروف ، والناهين عن المنكر : جاءكم أهل الدِّين ، من باب السُّخرية بهم ، وما أشبه ذلك مما لا يُحصى إلا بكلفة ؛ مما هو أعظم من قول الذين نزلت فيهم الآية .
النوع الثاني : غير الصريح ، وهو البحر الذي لا ساحل له ، مثل : الرمز بالعين ، وإخراج اللسان ، ومدّ الشفة ، والغمز باليد عند تلاوة كتاب الله ، أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عند الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . ومثل هذا ما يقوله بعضهم : إنَّ الإسلام لا يَصلُحُ للقرن العشرين ؛ وإنما يصلح للقُرون الوسطى ، وأنه تأخُّرٌ ورجعيةٌ ، وأن فيه قسوة ووحشية في عقوبات الحدود والتعازير ، وأنه ظَلَم المرأة حقوقها ؛ حيث أباح الطلاق ، وتعدد الزوجات . وقولهم : الحكمُ بالقوانين الوضعية أحسنُ للناس من الحكم بالإسلام . ويقولون في الذي يدعو إلى التوحيد ، ويُنكر عبادة القبور والأضرحة : هذا متطرف ، أو يُريد أن يفرق جماعة المسلمين ، أو : هذا وهَّابي ، أو مذهب خامس ، وما أشبه هذه الأقوال التي كلها سب للدين وأهله ، واستهزاء بالعقيدة الصحيحة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . ومن ذلك : استهزاؤهم بمن تمسَّكَ بسنة من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيقولون : الدين ليس في الشَّعرِ ؛ استهزاءً بإعفاء اللحية ، وما أشبه هذه الألفاظ الوقحة .
الفصل السادس
الحكم بغير ما أنزل الله
من مقتضى الإيمان بالله تعالى وعبادته : الخضوع لحكمه والرضا بشرعه ، والرجوع إلى كتابه وسنة رسوله عند الاختلاف في الأقوال ، وفي العقائد وفي الخصومات ، وفي الدماء والأموال ، وسائر الحقوق ، فإنَّ الله هو الحكَمُ وإليه الحُكمُ ، فيجبُ على الحكام أن يحكموا بما أنزل الله ، ويجب على الرَّعيَّة أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله في كتابه ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى في حق الولاة : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ .
وقال في حق الرعية : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا .
ثم بيّن أنه لا يجتمع الإيمان مع التحاكم إلى غير ما أنزل الله ، فقال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ، إلى قوله تعالى : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .
فنفى سُبحانه - نفيًا مؤكَّدًا بالقسم - الإيمانَ عمن لم يتحاكم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويرضى بحكمه ويسلم له ، كما أنه حكم بكُفر الولاة الذين لا يحكمون بما أنزل الله ، وبظلمهم وفسقهم ، قال تعالى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
ولا بُدَّ من الحكم بما أنزل الله ، والتحاكُم إليه في جميع مواردِ النّزاع في الأقوال الاجتهادية بين العلماء ، فلا يقبل منها إلا ما دلّ عليه الكتاب والسنة ؛ من غير تعصب لمذهب ، ولا تحيّز لإمام ، وفي المرافعات والخصومات في سائر الحقوق ؛ لا في الأحوال الشخصية فقط ، كما في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام ؛ فإنَّ الإسلام كُلٌّ لا يتجزَّأ ، قال تعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .
وقال تعالى : أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ .
وكذلك يجب على أتباع المذاهب والمناهج المعاصرة أن يردوا أقوال أئمتهم إلى الكتاب والسنة ، فما وافقهما أخذوا به ، وما خالفهما ردوه دون تعصب أو تحيّز ؛ ولا سيما في أمور العقيدة ، فإن الأئمة - رحمهم الله - يوصون بذلك ، وهذا مذهبهم جميعًا ، فمن خالف ذلك فليس متبعًا لهم ، وإن انتسب إليهم ، وهو ممن قال الله فيهم : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ .
فليست الآية خاصة بالنصارى ، بل تتناول كل من فعل مثل فعلهم ، فمن خالف ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله ، أو طلب ذلك اتباعًا لما يهواه ويريده ؛ فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه ، وإن زَعمَ أنه مؤمن ؛ فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك ، وأكذبهم في زعمهم الإيمان ؛ فقال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا لما في ضمن قوله : ( يزعمون ) من نفي إيمانهم ، فإنَّ ( يزعمون ) إنما يقال غالبًا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب ، لمخالفته لموجبها ، وعمله بما ينافيها ؛ يحقق هذا قوله : وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ؛ لأن الكُفر بالطاغوت ركن التوحيد ، كما في آية البقرة فإذا لم يَحصُلْ هذا الركن ؛ لم يكن مُوحِّدًا ، والتوحيدُ هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال ، وتفسد بعدمه ، كما أن ذلك بيِّنٌ في قوله : فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ونَفيُ الإيمان عمن لم يحكم بما أنزل الله يدلُّ على أن تحكيم شرع الله إيمان وعقيدة ، وعبادة لله يجب أن يدين بها المسلم ، فلا يُحكَّمُ شرعُ الله من أجل أن تحكيمه أصلح للناس وأضبط للأمن فقط ، فإنَّ بعضَ الناس يركز على هذا الجانب ، وينسى الجانب الأول ، والله سبحانه قد عاب على من يُحكِّمُ شرع الله لأجل مصلحة نفسه ، من دُون تعبُّدٍ لله تعالى بذلك ، فقال سبحانه : وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ .
فهم لا يهتمون إلا بما يهوون ، وما خالف هواهم أعرضوا عنه ؛ لأنهم لا يتعبدون لله بالتحاكم إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم .
حكم من حكم بغير ما أنزل الله :
قال الله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ .
في هذه الآية الكريمة : أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله كفر ، وهذا الكفر تارةً يكون كفرًا أكبر ينقل عن الملة ، وتارة يكون كفرًا أصغر لا يُخرج من الملة ، وذلك بحسب حال الحاكم ، فإنه إن اعتقد أنَّ الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخيَّر فيه ، أو استهان بحكم الله ، واعتقد أن غيره من القوانين والنظم الوضعية أحسن منه أو مساويًا له ، أو أنه لا يصلح لهذا الزمان ، أو أراد بالحكم بغير ما أنزل الله استرضاءَ الكفار والمنافقين ، فهذا كفر أكبر . وإن اعتقد وجوبَ الحكم بما أنزل الله ، وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه ، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا عاص ، ويُسمَّى كافرًا كفرًا أصغر . وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده ، واستفراغ وسعه في معرفة الحكم ، وأخطأه ، فهذا مُخطئ له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور . وهذا في الحكم في القضية الخاصة .
وأما الحكم في القضايا العامة فإنه يختلف ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( فإنَّ الحاكم إذا كان ديِّنًا ؛ لكنَّهُ حكم بغير علم ؛ كان من أهل النار ، وإن كان عالمًا لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار ، وإذا حكم بلا عدل ولا علم أولى أن يكون من أهل النار . وهذا إذا حكم في قضية لشخص .
وأما إذا حكم حُكمًا عامًّا في دين المسلمين ؛ فجعل الحق باطلًا ، والباطل حقًّا ، والسنة بدعة ، والبدعة سنة ، والمعروف منكرًا ، والمنكر معروفًا ، ونهى عما أمر الله به ورسوله ، وأمر بما نهى الله عنه ورسوله ، فهذا لون آخر يَحكُم فيه رب العالمين ، وإله المرسلين ، مالك يوم الدين ؛ الذي له الحمد في الأولى والآخرة : لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) .
وقال أيضًا : ( لا ريبَ أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر ، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلًا من غير اتباع لما أنزل الله ؛ فهو كافر ، فإنّهُ ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل ، وقد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم ، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله ، كسواليف البادية ( أي عادات من سلفهم ) ، وكانوا الأمراءَ المطاعين ، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة ، وهذا هو الكفر ، فإن كثيرًا من الناس أسلموا ؛ ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية ؛ التي يأمر بها المطاعون ، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك ، بل استَحَلّوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار ) انتهى .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم : ( وأما الذي قيل فيه أنه كفر دون كفر ، إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاصٍ ، وأنَّ حكم الله هو الحق ، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها . أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع ، فهو كُفرٌ ، وإن قالوا : أخطأنا وحكمُ الشرع أعدل ؛ فهذا كفر ناقل عن الملة ) .
ففرَّقَ - رحمه الله - بينَ الحكم الجزئي الذي لا يتكرر ، وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام ، أو غالبها ، وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقًا ؛ وذلك لأن من نحى الشريعة الإسلامية ، وجعل القانون الوضعي بديلًا منها فهذا دليل على أنه يرى أن القانون أحسن وأصلح من الشريعة ، وهذا لا شك أنه كفر أكبر يُخرجُ من الملَّة ويُناقضُ التوحيد
الفصل السابع
ادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم
تشريع الأحكام التي يسير عليها العباد في عباداتهم ومعاملاتهم وسائر شئونهم ، والتي تفصل النزاع بينهم وتُنهي الخصومات حق لله تعالى رب الناس ، وخالق الخلق : أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ .
وهو الذي يعلم ما يصلح عباده ، فيشرعه لهم ، فبحكم ربوبيته لهم يشرِّعُ لهم ، وبحكم عبوديتهم له يتقبلون أحكامه ، والمصلحةُ في ذلك عائدة إليهم ، قال تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا .
وقال تعالى : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي .
واستنكر سبحانه أن يتخذَ العباد مُشرِّعًا غيره فقال : أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ .
فمن قبل تشريعًا غير تشريع الله ؛ فقد أشرك بالله تعالى ، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات فهو بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي رواية : من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد وما لم يشرعه الله ولا رسوله في السياسة والحكم بين الناس فهو حكم الطاغوت ، وحكم الجاهلية : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .
وكذلك التحليل والتحريم حق لله تعالى ، لا يجوز لأحدٍ أن يُشاركه فيه ، قال تعالى : وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .
فجعل سبحانه طاعة الشياطين وأوليائهم في تحليل ما حرّم الله شركًا به سبحانه ، وكذلك من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله ، أو تحليل ما حرم الله ، فقد اتخذهم أربابًا من دون الله ؛ لقول الله تعالى : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ .
وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية على عَديّ بن حاتم الطائي - رضي الله عنه - فقال : يا رسول الله ، لسنا نعبُدُهم ، قال - صلى الله عليه وسلم - : أليسَ يُحلّون لكم ما حرَّم الله فتُحلّونه ، ويحرمون ما أحلّ الله فتحرمونه ؟ ! قال : بلى ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فتلكَ عبادتُهم .
فصارت طاعتُهم في التحليل والتحريم من دون الله عبادة لهم وشركًا ، وهو شركٌ أكبرُ يُنافي التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله ، فإنّ مِنْ مدلولها : أنَّ التحليل والتحريم حقٌّ لله تعالى ، وإذا كان هذا فيمن أطاع العلماء والعُبَّاد في التحليل والتحريم الذي يخالف شرع الله وهو يعلم هذه المخالفة ، مع أنهم أقرب إلى العلم والدين ، وقد يكونُ خطؤهم عن اجتهاد لم يصيبوا فيه الحق ، وهم مأجورون عليه ، فكيفَ بمن يُطيعُ أحكام القوانين الوضعية التي هي من صنع الكفار والملحدين ، يجلبها إلى بلاد المسلمين ، ويحكم بها بينهم ؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله .
إنَّ هذا قد اتخذ الكفار أربابًا من دون الله ، يُشرِّعونَ له الأحكام ، ويبيحونَ له الحرام ، ويحكمون بين الأنام .
يتبع
في بيان حكم الاستهزاء بالدين والاستهانة بحرماته
الاستهزاء بالدين ردة عن الإسلام ، وخروج عن الدين بالكلية ، قال الله تعالى : قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ .
هذه الآية تدل على أن الاستهزاء بالله كفر ، وأن الاستهزاء بالرسول كفر ، وأن الاستهزاء بآيات الله كفر ، فمن استهزأ بواحد من هذه الأمور فهو مستهزئ بجميعها . والذي حصل من هؤلاء المنافقين أنهم استهزءوا بالرسول وصحابته ؛ فنزلت الآية .
فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم ، فالذين يستخِفُّون بتوحيد الله تعالى ، ويعظمون دعاءَ غيره من الأموات ؛ وإذا أمروا بالتوحيد ونُهوا عن الشرك استخفُّوا بذلك ، كما قال تعالى : وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا .
فاستهزءوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - لما نهاهم عن الشرك ، وما زال المشركون يعيبون الأنبياء ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون ، إذا دعوهم إلى التوحيد ؛ لما في أنفسهم من تعظيم الشرك . وهكذا تجد من فيه شبه منهم ؛ إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك ؛ لما عنده من الشرك ، قال الله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ .
فمن أحبَّ مخلوقًا مثل ما يُحبّ الله فهو مشرك . ويجبُ الفرق بين الحب في الله ، والحب مع الله ، فهؤلاء الذين اتخذوا القبورَ أوثانًا ؛ تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته ، ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء ، ويَحلِفُ أحدُهم بالله اليمين الغموس كاذبًا ، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذبًا ، وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى أن استغاثته بالشيخ - إما عند قبره أو غير قبره - أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السَّحَر ! ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد ، وكثير منهم يخربون المساجد ، ويعمرون المشاهد ، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته ورسوله ، وتعظيمهم للشرك ؟ وهذا كثير وقوعه في القبوريين اليوم .
والاستهزاء على نوعين :
أحدهما : الاستهزاء الصريح ، كالذي نزلت الآية فيه ، وهو قولهم : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطونًا ، ولا أكذب ألسُنًا ، ولا أجبن عند اللقاء . أو نحو ذلك من أقوال المستهزئين ، كقول بعضهم : دينكم هذا دينٌ خامس ، وقول الآخر : دينكم أخرق ، وقول الآخر إذا رأى الآمرين بالمعروف ، والناهين عن المنكر : جاءكم أهل الدِّين ، من باب السُّخرية بهم ، وما أشبه ذلك مما لا يُحصى إلا بكلفة ؛ مما هو أعظم من قول الذين نزلت فيهم الآية .
النوع الثاني : غير الصريح ، وهو البحر الذي لا ساحل له ، مثل : الرمز بالعين ، وإخراج اللسان ، ومدّ الشفة ، والغمز باليد عند تلاوة كتاب الله ، أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عند الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . ومثل هذا ما يقوله بعضهم : إنَّ الإسلام لا يَصلُحُ للقرن العشرين ؛ وإنما يصلح للقُرون الوسطى ، وأنه تأخُّرٌ ورجعيةٌ ، وأن فيه قسوة ووحشية في عقوبات الحدود والتعازير ، وأنه ظَلَم المرأة حقوقها ؛ حيث أباح الطلاق ، وتعدد الزوجات . وقولهم : الحكمُ بالقوانين الوضعية أحسنُ للناس من الحكم بالإسلام . ويقولون في الذي يدعو إلى التوحيد ، ويُنكر عبادة القبور والأضرحة : هذا متطرف ، أو يُريد أن يفرق جماعة المسلمين ، أو : هذا وهَّابي ، أو مذهب خامس ، وما أشبه هذه الأقوال التي كلها سب للدين وأهله ، واستهزاء بالعقيدة الصحيحة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . ومن ذلك : استهزاؤهم بمن تمسَّكَ بسنة من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيقولون : الدين ليس في الشَّعرِ ؛ استهزاءً بإعفاء اللحية ، وما أشبه هذه الألفاظ الوقحة .
الفصل السادس
الحكم بغير ما أنزل الله
من مقتضى الإيمان بالله تعالى وعبادته : الخضوع لحكمه والرضا بشرعه ، والرجوع إلى كتابه وسنة رسوله عند الاختلاف في الأقوال ، وفي العقائد وفي الخصومات ، وفي الدماء والأموال ، وسائر الحقوق ، فإنَّ الله هو الحكَمُ وإليه الحُكمُ ، فيجبُ على الحكام أن يحكموا بما أنزل الله ، ويجب على الرَّعيَّة أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله في كتابه ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى في حق الولاة : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ .
وقال في حق الرعية : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا .
ثم بيّن أنه لا يجتمع الإيمان مع التحاكم إلى غير ما أنزل الله ، فقال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ، إلى قوله تعالى : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .
فنفى سُبحانه - نفيًا مؤكَّدًا بالقسم - الإيمانَ عمن لم يتحاكم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويرضى بحكمه ويسلم له ، كما أنه حكم بكُفر الولاة الذين لا يحكمون بما أنزل الله ، وبظلمهم وفسقهم ، قال تعالى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
ولا بُدَّ من الحكم بما أنزل الله ، والتحاكُم إليه في جميع مواردِ النّزاع في الأقوال الاجتهادية بين العلماء ، فلا يقبل منها إلا ما دلّ عليه الكتاب والسنة ؛ من غير تعصب لمذهب ، ولا تحيّز لإمام ، وفي المرافعات والخصومات في سائر الحقوق ؛ لا في الأحوال الشخصية فقط ، كما في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام ؛ فإنَّ الإسلام كُلٌّ لا يتجزَّأ ، قال تعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .
وقال تعالى : أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ .
وكذلك يجب على أتباع المذاهب والمناهج المعاصرة أن يردوا أقوال أئمتهم إلى الكتاب والسنة ، فما وافقهما أخذوا به ، وما خالفهما ردوه دون تعصب أو تحيّز ؛ ولا سيما في أمور العقيدة ، فإن الأئمة - رحمهم الله - يوصون بذلك ، وهذا مذهبهم جميعًا ، فمن خالف ذلك فليس متبعًا لهم ، وإن انتسب إليهم ، وهو ممن قال الله فيهم : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ .
فليست الآية خاصة بالنصارى ، بل تتناول كل من فعل مثل فعلهم ، فمن خالف ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله ، أو طلب ذلك اتباعًا لما يهواه ويريده ؛ فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه ، وإن زَعمَ أنه مؤمن ؛ فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك ، وأكذبهم في زعمهم الإيمان ؛ فقال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا لما في ضمن قوله : ( يزعمون ) من نفي إيمانهم ، فإنَّ ( يزعمون ) إنما يقال غالبًا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب ، لمخالفته لموجبها ، وعمله بما ينافيها ؛ يحقق هذا قوله : وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ؛ لأن الكُفر بالطاغوت ركن التوحيد ، كما في آية البقرة فإذا لم يَحصُلْ هذا الركن ؛ لم يكن مُوحِّدًا ، والتوحيدُ هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال ، وتفسد بعدمه ، كما أن ذلك بيِّنٌ في قوله : فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ونَفيُ الإيمان عمن لم يحكم بما أنزل الله يدلُّ على أن تحكيم شرع الله إيمان وعقيدة ، وعبادة لله يجب أن يدين بها المسلم ، فلا يُحكَّمُ شرعُ الله من أجل أن تحكيمه أصلح للناس وأضبط للأمن فقط ، فإنَّ بعضَ الناس يركز على هذا الجانب ، وينسى الجانب الأول ، والله سبحانه قد عاب على من يُحكِّمُ شرع الله لأجل مصلحة نفسه ، من دُون تعبُّدٍ لله تعالى بذلك ، فقال سبحانه : وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ .
فهم لا يهتمون إلا بما يهوون ، وما خالف هواهم أعرضوا عنه ؛ لأنهم لا يتعبدون لله بالتحاكم إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم .
حكم من حكم بغير ما أنزل الله :
قال الله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ .
في هذه الآية الكريمة : أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله كفر ، وهذا الكفر تارةً يكون كفرًا أكبر ينقل عن الملة ، وتارة يكون كفرًا أصغر لا يُخرج من الملة ، وذلك بحسب حال الحاكم ، فإنه إن اعتقد أنَّ الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخيَّر فيه ، أو استهان بحكم الله ، واعتقد أن غيره من القوانين والنظم الوضعية أحسن منه أو مساويًا له ، أو أنه لا يصلح لهذا الزمان ، أو أراد بالحكم بغير ما أنزل الله استرضاءَ الكفار والمنافقين ، فهذا كفر أكبر . وإن اعتقد وجوبَ الحكم بما أنزل الله ، وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه ، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا عاص ، ويُسمَّى كافرًا كفرًا أصغر . وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده ، واستفراغ وسعه في معرفة الحكم ، وأخطأه ، فهذا مُخطئ له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور . وهذا في الحكم في القضية الخاصة .
وأما الحكم في القضايا العامة فإنه يختلف ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( فإنَّ الحاكم إذا كان ديِّنًا ؛ لكنَّهُ حكم بغير علم ؛ كان من أهل النار ، وإن كان عالمًا لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار ، وإذا حكم بلا عدل ولا علم أولى أن يكون من أهل النار . وهذا إذا حكم في قضية لشخص .
وأما إذا حكم حُكمًا عامًّا في دين المسلمين ؛ فجعل الحق باطلًا ، والباطل حقًّا ، والسنة بدعة ، والبدعة سنة ، والمعروف منكرًا ، والمنكر معروفًا ، ونهى عما أمر الله به ورسوله ، وأمر بما نهى الله عنه ورسوله ، فهذا لون آخر يَحكُم فيه رب العالمين ، وإله المرسلين ، مالك يوم الدين ؛ الذي له الحمد في الأولى والآخرة : لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) .
وقال أيضًا : ( لا ريبَ أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر ، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلًا من غير اتباع لما أنزل الله ؛ فهو كافر ، فإنّهُ ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل ، وقد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم ، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله ، كسواليف البادية ( أي عادات من سلفهم ) ، وكانوا الأمراءَ المطاعين ، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة ، وهذا هو الكفر ، فإن كثيرًا من الناس أسلموا ؛ ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية ؛ التي يأمر بها المطاعون ، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك ، بل استَحَلّوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار ) انتهى .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم : ( وأما الذي قيل فيه أنه كفر دون كفر ، إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاصٍ ، وأنَّ حكم الله هو الحق ، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها . أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع ، فهو كُفرٌ ، وإن قالوا : أخطأنا وحكمُ الشرع أعدل ؛ فهذا كفر ناقل عن الملة ) .
ففرَّقَ - رحمه الله - بينَ الحكم الجزئي الذي لا يتكرر ، وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام ، أو غالبها ، وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقًا ؛ وذلك لأن من نحى الشريعة الإسلامية ، وجعل القانون الوضعي بديلًا منها فهذا دليل على أنه يرى أن القانون أحسن وأصلح من الشريعة ، وهذا لا شك أنه كفر أكبر يُخرجُ من الملَّة ويُناقضُ التوحيد
الفصل السابع
ادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم
تشريع الأحكام التي يسير عليها العباد في عباداتهم ومعاملاتهم وسائر شئونهم ، والتي تفصل النزاع بينهم وتُنهي الخصومات حق لله تعالى رب الناس ، وخالق الخلق : أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ .
وهو الذي يعلم ما يصلح عباده ، فيشرعه لهم ، فبحكم ربوبيته لهم يشرِّعُ لهم ، وبحكم عبوديتهم له يتقبلون أحكامه ، والمصلحةُ في ذلك عائدة إليهم ، قال تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا .
وقال تعالى : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي .
واستنكر سبحانه أن يتخذَ العباد مُشرِّعًا غيره فقال : أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ .
فمن قبل تشريعًا غير تشريع الله ؛ فقد أشرك بالله تعالى ، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات فهو بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي رواية : من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد وما لم يشرعه الله ولا رسوله في السياسة والحكم بين الناس فهو حكم الطاغوت ، وحكم الجاهلية : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .
وكذلك التحليل والتحريم حق لله تعالى ، لا يجوز لأحدٍ أن يُشاركه فيه ، قال تعالى : وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .
فجعل سبحانه طاعة الشياطين وأوليائهم في تحليل ما حرّم الله شركًا به سبحانه ، وكذلك من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله ، أو تحليل ما حرم الله ، فقد اتخذهم أربابًا من دون الله ؛ لقول الله تعالى : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ .
وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية على عَديّ بن حاتم الطائي - رضي الله عنه - فقال : يا رسول الله ، لسنا نعبُدُهم ، قال - صلى الله عليه وسلم - : أليسَ يُحلّون لكم ما حرَّم الله فتُحلّونه ، ويحرمون ما أحلّ الله فتحرمونه ؟ ! قال : بلى ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فتلكَ عبادتُهم .
فصارت طاعتُهم في التحليل والتحريم من دون الله عبادة لهم وشركًا ، وهو شركٌ أكبرُ يُنافي التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله ، فإنّ مِنْ مدلولها : أنَّ التحليل والتحريم حقٌّ لله تعالى ، وإذا كان هذا فيمن أطاع العلماء والعُبَّاد في التحليل والتحريم الذي يخالف شرع الله وهو يعلم هذه المخالفة ، مع أنهم أقرب إلى العلم والدين ، وقد يكونُ خطؤهم عن اجتهاد لم يصيبوا فيه الحق ، وهم مأجورون عليه ، فكيفَ بمن يُطيعُ أحكام القوانين الوضعية التي هي من صنع الكفار والملحدين ، يجلبها إلى بلاد المسلمين ، ويحكم بها بينهم ؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله .
إنَّ هذا قد اتخذ الكفار أربابًا من دون الله ، يُشرِّعونَ له الأحكام ، ويبيحونَ له الحرام ، ويحكمون بين الأنام .
يتبع
تعليق