كيفية الطلب والتلقي
كيفية الطلب ومراتبه:
“من لم يتقن الأصول، حرم الوصول”[1]، و ”من رام العلم جملة، ذهب عنه جملة”[2]، وقيل
أيضاً:”ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم”[3].
وعليه، فلا بد من التأصيل والتأسيس لكل فن تطلبه، بضبط أصله ومختصره على شيخ متقن، لا
بالتحصيل الذاتي وحده، وخذاً الطلب بالتدرج.
قال الله تعالى:
(وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً).
وقال تعالى:
(وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً).
وقال تعالى:
(الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته).
فأمامك أمور لابد من مراعاتها في كل فن تطلبه:
1-حفظ مختصر فيه.
2-ضبطه على شيخ متقن.
3-عدم الاشتغال بالمطولات وتفاريق المصنفات قبل الضبط والإتقان لأصله.
4-لا تنتقل من مختصر إلى آخر بلا موجب، فهذا من باب الضجر.
5-اقتناص الفوائد والضوابط العلمية.
6-جمع النفس للطلب والترقي فيه، والاهتمام والتحرق للتحصيل والبلوغ إلى ما فوقه حتى تفيض إلى
المطولات بسابلة موثقة.
وكان من رأي ابن العربي المالكي[4] أن لا يخلط الطالب في التعليم بين علمين، وأن يقدم تعليم العربية
والشعر والحساب، ثم ينتقل منه إلى القرآن.
لكن تعقبه بن خلدون بأن العوائد لا تساعد على هذا، وأن المقدم هو دراسة القرآن الكريم وحفظه؛ لأن
الولد ما دام في الحجر؛ ينقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ؛ صعب جبره.
أما الخلط في التعليم بين علمين فأكثر؛ فهذا يختلف باختلاف المتعلمين في الفهم والنشاط.
وكان من أهل العلم من يدرس الفقه الحنبلي في ”زاد المستقنع” للمبتدئين، و ”المقنع” لمن بعدهم للخلاف
المذهبي، ثم ”المغني” للخلاف العالي، ولا يسمح بالطبقة الأولى أن تجلس في درس الثانية… وهكذا؛ دفعاً
للتشويش.
واعلم أن ذكر المختصرات والمطولات التي يؤسس عليه الطلب والتلقي لدى المشايخ تختلف غالباً من
قطر إلى قطر باختلاف المذاهب، وما نشأ عليه علماء ذلك القطر من إتقان هذا المختصر والتمرس فيه
دون غيره.
والحال هنا تختلف من طالب إلى آخر باختلاف القرائح والفهوم، وقوة الاستعداد وضعفه، ويروده الذهن
وتقوده.
وقد كان الطلب في قطرنا بعد مرحلة الكتاتيب والأخذ بحفظ القرآن الكريم يمر بمراحل ثلاث لدى المشايخ
في دروس المساجد: للمبتدئين، ثم المتوسطين، ثم المتمكنين:
ففي التوحيد: ”ثلاثة الأصول وأدلتها"، و ”القواعد الأربع"، ثم ”كشف الشبهات"، ثم ”كتاب التوحيد"؛
أربعتها للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، هذا في توحيد العبادة.
وفي توحيد الأسماء والصفات: ”العقيدة الواسطيه"، ثم ”الحموية"، و ”التدمرية"؛ ثلاثتها لشيخ الإسلام
ابن تيميه رحمه الله تعالى، فـ "الطحاوية” مع ”شرحها".
وفي النحو: ”الأجرومية"، ثم ”ملحة الإعراب” للحريري، ثم "قطر الندى” لابن هشام، وألفية ابن مالك مع
شرحها لابن عقيل.
وفي الحديث: ”الأربعين” للنووي، ثم ”عمدة الأحكام” للمقديسي، ثم ”بلوغ المرام” لابن حجر، و ”المنتقى”
للمجد بن تيمية؛ رحمهم الله تعالى، فالدخول في قراءة الأمات السنت وغيرها.
وفي المصطلح: ”نخبة الفكر” لابن حجر، ثم ”ألفية العراقي” رحمه الله تعالى.
وفي الفقه مثلاً: ”آداب المشي إلى الصلاة” للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم ”زاد المستقنع” للحجاوي
رحمه الله تعالى، أو ”عمدة الفقه"، ثم "المقنع” للخلاف المذهبي، و ”المغنى” للخلاف العالي؛ ثلاثتها لابن
قدامه رحمه الله تعالى.
وفي أصول الفقه: ”الورقات” للجويني رحمه الله تعالى، ثم ”روضة الناظر” لابن قدامه رحمه الله تعالى.
وفي الفرائض: ”الرحبية”، و ثم مع شروحها، و”الفوائد الجلية”.
وفي التفسير:”تفسير ابن كثير” رحمه الله تعالى.
وفي أصول التفسير:”المقدمة” لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وفي السيرة النبوية:”مختصرها” للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأصلها لابن هشام، وفيه ”زاد المعاد”
لابن القيم رحمه الله تعالى.
وفي لسان العرب: العناية بأشعارها، وكـ”المعلقات السبع”، والقراءة في ”القاموس” للفيروز آبادي رحمه
الله تعالى.
… وهكذا من مراحل الطلب في الفنون.
وكانوا مع ذلك يأخذون بجرد المطولات؛ مثل ”تاريخ بن جرير”، وابن كثير، وتفسيرهما، ويركزون
على كتب شيخ الإسلام بن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى، وكتب أئمة الدعوى وفتاواهم،
لاسيما محرراتهم في الاعتقاد.
وهكذا كانت الأوقات عامرة في الطلب، ومجالس العلم، فبعد صلاة الفجر إلى ارتفاع الضحى، ثم تقول
القيلولة قبيل صلاة الظهر، وفي أعقاب جميع الصلوات الخمس تعقد الدروس، وكانوا في أدب جم وتقدير
بعزة نفس من الطرفين على منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، ولذا أدركوا وصار منهم في عداد
الأئمة في العلم جمع غفير، والحمد لله رب العالمين.
فهل من عودة إلى أصالة الطلب في دراسة المختصرات المعتمدة، لا على المذكرات، وفي حفظها لا
الاعتماد على الفهم فحسب، حتى ضاع الطلاب فلا حفظ ولا فهم! وفي خلو التلقين من الزعل والشوائب
والكدر، سير على منهاج السلف.
والله المستعان.
وقال الحافظ عثمان بن خرزاد (م سنة 282هـ) رحمه الله تعالى[5]:
"يحتاج صاحب الحديث إلى خمس، فإن عدمت واحدة؛ فهي نقص، يحتاج إلى عقل جيد، ودين، وضبط،
وحذاقة بالصناعة، مع أمانة تعرف منه".
قلت: - أي الذهبي-:
“الأمانة جزء من الدين، والضبط داخل في الحذق، فالذي يحتاج إليه الحافظ أن يكون: تقياً، ذكياً، نحوياً،
لغوياً، زكياً، حيياً، سلفياً يكفيه أن يكتب بيديه مائتي مجلد، ويحصل من الدواوين المعتبرة خمس مائة
مجلد، وأن لا يفتر من طلب العلم إلى الممات بنية خالصة، وتواضع، وإلا فلا يتعن” 1هـ.
تلقي العلم عن الأشياخ:
الأصل في الطلب أن يكون بطريق التلقين والتلقي عن الأساتيذ، والمثافنة للأشياخ، والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف وبطون الكتب، والأول من باب أخذ النسيب عن النسيب الناطق، وهو المعلم أما
الثاني عن الكتاب، فهو جماد، فأنى له اتصال النسب؟
وقد قيل:”من دخل في العلم وحده؛ خرج وحده"[6]؛ أي: من دخل في طلب العلم بلا شيخ؛ خرج منه بلا
علم، إذ العلم صنعة، وكل صنعة تحتاج إلى صانع، فلا بد إذاً لتعلمها من معلمها الحاذق.
وهذا يكاد يكون محل إجماع كلمة من أهل العلم؛ إلا من شذ مثل: علي بن رضوان المصري الطبيب (م
سنة 453هـ)، وقد رد عليه علماء عصره ومن بعدهم.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمته له[7]:
"ولم يكن له شيخ، بل اشتغل بالأخذ عن الكتب، وصنف كتاباً في تحصيل الصناعة من الكتب، وأنها
أوفق من المعلمين، وهذا غلط"1هـ.
وقد بسط الصفدي في ”الوافي” الرد عليه، وعند الزبيدي في ”شرح الإحياء” عن عدد من العلماء معللين
له بعدة علل؛ منها ما قاله ابن بطلان في الرد عليه[8]
السادسة: يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم، وهى معدومة عند المعلم، وهى التصحيف العارض من
اشتباه الحروف مع عدم اللفظ، والغلط بزوغان البصر، وقلة الخبرة بالإعراب، أو فساد الموجود منه،
وإصلاح الكتاب، وكتابة ما لا يقرأ، وقراءة ما لا يكتب، ومذهب صاحب الكتاب، وسقم النسخ، ورداءة
النقل، وإدماج القارئ مواضع المقاطع، وخلط مبادئ التعليم، وذكر ألفاظ مصطلح عليه في تلك الصناعة،
وألفاظ يونانية لم يخرجها الناقل من اللغة، كالنوروس، فهذه كلها معوقة عن العلم، وقد استراح المتعلم من
تكلفها عند قراءته على المعلم، وإذا كان الأمر على هذه الصورة، فالقراءة على العلماء أجدى وأفضل من
قراءة الإنسان لنفسه، وهو ما أردنا بيانه 00 قال الصفدي: ولهذا قال العلماء: لا تأخذ العلم من صحفي
ولا من مصحفي، يعنى: لا تقرأ القرآن على من قرأ من المصحف ولا الحديث وغيره على من أخذ ذلك
من الصحف 000”ا هـ.
والدليل المادي القائم على بطلان نظرة ابن رضوان: أنك ترى آلاف التراجم والسير على اختلاف
الأزمان ومر الأعصار وتنوع المعارف، مشحونة بتسمية الشيوخ والتلاميذ ومستقل من ذلك ومستكثر،
وانظر شذرة من المكثرين عن الشيوخ حتى بلغ بعضهم الألوف كما في ”العزاب” من ”الإسفار” لراقمه
.
وكان أبو حيان محمد يوسف الأندلسي (م سنة 745 هـ)[9] إذا ذكر عنده ابن مالك، يقول:”أين شيوخه
؟”.
“وقال الوليد[10]:
كان الأوزاعي يقول: كان هذا العلم كريماً يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب، دخل فيه غير أهله.
وروى مثلها ابن المبارك عن الأوزاعي.
ولا ريب أن الأخذ من الصحف وبالإجازة يقع فيه خلل، ولا سيما في ذلك العصر، حيث لم يكن بعد نقط
ولا شكل، فتتصحف الكلمة بما يحيل المعنى، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال، وكذلك
طالتحديث من الحفظ يقع فيه الوهم، بخلاف الرواية من كتاب محرر” اهـ.
ولابن خلدون مبحث نفيس في هذا، كما في ”المقدمة” [11]له.
ولبعضهم:
من لم يشافه عالماً بأصوله فيقينه في المشكلات ظنون
وكان أبو حيان كثيراً ما ينشد:
يظن الغمر أن الكتب تهدى أخاً فهم لإدراك العلـــوم
وما يدرى الجهول بأن فيها غوامض حيرت عقل الفهيمإذا رمت العلوم بغير شيخ == ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى== تصير أضل من ”توما الحكيم”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
[1] -”تذكرة السامع والمتكلم”(ص144).
[2] - “فضل العلم” لأرسلان (ص144).
[3] - “شرح الإحياء”(1/334).
[4] -”تراجم الرجال ”للخضر حسين (ص105) و”فتاوى شيخ الإسلام” ابن تيمية (23 / 54 – 55) مهم.
[5] -”سير أعلام النبلاء”(13/380).
[6] -”الجواهر والدرر” للسخاوي (1/5.
[7] -”سير أعلام النبلاء”(18/105). وانظر:”شرح الإحياء”(1/66)، و”بغية الوعاة” (1/131،286)، و”شذرات الذهب (5/11)، و”الغنية” للقاضي عياض (ص16-17).
[8] -”شرح الإحياء”(1 / 66).
[9] - مقدمة التحقيق لكتاب ”الغنية” للقاضى عياض (ص16 – 17).
[10] -”السير”(7 / 114).
[11] - (4 / 1245).
انتهى من كتاب حلية طالب العلم الشيخ بكر أبو زيد