من فقهِ السَّلفِ في نشرِ العِلمِ إعزازهُم له و صيانتُه ، وامتناعُهم عن بذله لغيرِ أهلِهِ
الحمد لله و الصّلاة والسّلام على رسول الله و على آله و صحبه و من اتّبع هداه ؛
و بعد فإنّ صيانةَ العلم و إعزازَه سهمٌ عظيمٌ من سهام الحكمة في الدّعوة ، و مسلكٌ ينبغي أن يفقَهَه كلّ طالب علم يهمّه أمرُ ظهورِ المنهج الحقّ و انتشارِه بين النّاس .
و لا شكّ أنّ عزّة العالِمِ من عزّة العلم ، وشرفُ طالب العلم من شرف ما يطلبُه ، و كلّما عزّ العلمُ عند أهله ، كلّما رأيتَ له مهابةً و توقيرًا لدى عامّة النّاس و خاصّتهم .
بل إنّ عِزّة العلم من عِزّة الدّين ، لهذا كان كثيرٌ من السّلف و الأئمّة يحرصون أن لا يبذلوا العلم إلاّ لأهله ، و يمنعونه عمّن لا يستحقّه و لا يعرفُ له قدْرًا .
رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " لو أنّ أهل العلم صانوا العلمَ و وضعوه عند أهله لسادوا أهلَ زمانهم ، و لكنّهم وضعوه عند أهل الدّنيا لينالوا من دنياهم فهانوا عليهم ". رواه الخلاّل كما في : " الآداب الشرعية " لابن مفلح ( 2/45 ) ، و في رواية عند ابن ماجه و غيره : " و لكنّهم أَتَوا به أهل الدّنيا فاستخفّوا بهم " .
و الأثرُ و إن كان ضعيفًا (1) ، إلاّ أنّ معناه صحيحٌ و عملُ السّلف و أقوالهم تشهدُ له .
فقد عقد الخطيبُ البغداديُّ رحمه الله في كتابه العُجاب : " الجامع لأخلاق الرّاوي و آداب السّامع " بابا لكراهة التّحديث لمن لا يبتغيه و أنّ من ضياعه بذله لغير أهله ، و ساق فيه بأسانيده آثارًا كثيرةً تدلّ على فقه دقيق للسّلف رحمهم الله في هذا الباب (2) ، فهاك أخي القارئ طرفًا منها :
فعن أبي الضّحى عن مسروقٍ قال : " لا تنشر بزّك إلاّ عند من يبغيه " ، قال عبد الله بن الإمام أحمد : قال أبي : يعني الحديث .
و عن عبد الملك بن عمير عن مسروقٍ أيضًا قال : " نكدُ الحديث الكذب ، و آفته النّسيان ، و إضاعته أن تحدّث به غيرَ أهله " .
و عن عكرمةَ قال : " إنّ لهذا الحديث ثمناً . قالوا : و ما ثمنُه ؟ قال : أن يوضع عند من يحسن حفظه ، و لا يضيّعه " .
و عن مطرّفٍ قال : " لا تُطعم طعامك من لا يشتهيه " يريد : لا تحدّث بالحديث من لا يريده .
و عن أبي مسهرٍ قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول في الّذين يضعون الأحاديث عند غير أهلها : " وقع العلمُ عند الحمقى ! " .
و ممّن عرف عنه الشدّة والحزم في هذا سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله ، فعن شعبة قال : رآني الأعمش و أنا أحدّث قوما فقال : " ويحك يا شعبة ! تعلّق اللؤلؤ أعناق الخنازير !! " (3) .
و كان الأعمش يوافق عملُه قولَه ، فقد روى عنه الخطيب في الجامع ( ص 173 ) و أبو نعيم في الحلية ( 5/59 ) أنّه لمّا قدم السّواد ، سألوه أن يحدّثهم فأبى ، فقيل له : لو حدّثتهم ، قال : " و من يعلّق الدُّر على الخنازير !! " .
و لا تستغرب أيّها القارئ هذا الكلامَ عن الأعمش ، فقد جاء مثلُه عن الإمام مالكٍ رحمه الله ، رواه الخطيب أيضًا عن أبي مسهرٍ قال : سمعت مالك بن أنس يقول : " طارحُ العلم عند غير أهله كطارح الزّبَرْجَد للخنازير " .
بل إنّ السّلف كانوا يخشون تغيّرالدّين إذا وقع عند غير أهله ؛ فعن الفريابيّ قال : كان سفيان إذا رأى هؤلاء النّبط يكتبون العلم يتغيّر وجهه ! فقلت له يا أبا عبد الله ! نراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتدُّ عليك ، فقال : " كان العلم في العرب و في سادات النّاس ، فإذا خرج عنهم و صار إلى هؤلاء – يعني النِّبط و السِّفلة – غُيّر الدّين !! " (4) .
و من دقّة فقههم رحمهم الله أنّهم كانوا يحتسبون منعهم الحديث ، كما يحتسب أحدُنا نشره العلم وهذه أحسن أحوالنا إن استحضرنا الإخلاص !
قال جرير : سمعتُ مغيرةَ يقول : " إنّي أحتسب في منعي الحديث ، كما تحتسبون في بذله " . (5)
و عن هارون ابن سوار المقرئ قال سمعتُ الفضيلَ بنَ عياض وقيل له : ألا تحدّثنا تؤجر ؟ قال : " على أيّ شيء أُؤجَر ؟ على شيءِ تتفكّهون به في المجالس !؟ " (6) . فالله أكبر ، ما أفهمَهُم رحمهم الله .
و من هذا الباب امتناعُ كثيرٍ من السّلف عن تحديث الأمراء و السّلاطين صيانةً للعلم و إعزازًا لأهله ، و الآثار في هذا الباب كثيرة ، أكتفي منها باثنين عجبي منهما لا ينقضي ، ثانيهما أعجب إليّ من الأوّل :
فعن الحجّاج بن حمزة قال : أتى ابنَ المبارك ابنُ والي خراسان ، فسأله أن يحدّثه ، فأبى عليه ، ولم يحدّثه . فلمّا خرجَ ؛ خرج معه ابنُ المبارك إلى باب الدّار ، فقال له يا أبا عبد الرّحمن ، سألتُك أن تحدّثني فلم تحدّثني و خرجتَ معي إلى باب الدّار ! فقال : " أمّا عن نفسي فأهَنتُها لك ، و أمّا حديث رسول الله صلى الله عليه و سلّم فإنّي أجلّه عنك ! " (7) .
و لمّا دخل ربيعةُ على الخليفة الوليد بن يزيد قال : يا ربيعةُ حدّثنا ! قال : ما أحدّث شيئا ! فلمّا خرج من عنده قال : " ألا تعجبون من هذا الذي يقترحُ عليّ كما يقترح على المغَنِّية ! : حدّثنا يا ربيعة !! ". (
و بعد فإنّ صيانةَ العلم و إعزازَه سهمٌ عظيمٌ من سهام الحكمة في الدّعوة ، و مسلكٌ ينبغي أن يفقَهَه كلّ طالب علم يهمّه أمرُ ظهورِ المنهج الحقّ و انتشارِه بين النّاس .
و لا شكّ أنّ عزّة العالِمِ من عزّة العلم ، وشرفُ طالب العلم من شرف ما يطلبُه ، و كلّما عزّ العلمُ عند أهله ، كلّما رأيتَ له مهابةً و توقيرًا لدى عامّة النّاس و خاصّتهم .
بل إنّ عِزّة العلم من عِزّة الدّين ، لهذا كان كثيرٌ من السّلف و الأئمّة يحرصون أن لا يبذلوا العلم إلاّ لأهله ، و يمنعونه عمّن لا يستحقّه و لا يعرفُ له قدْرًا .
رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " لو أنّ أهل العلم صانوا العلمَ و وضعوه عند أهله لسادوا أهلَ زمانهم ، و لكنّهم وضعوه عند أهل الدّنيا لينالوا من دنياهم فهانوا عليهم ". رواه الخلاّل كما في : " الآداب الشرعية " لابن مفلح ( 2/45 ) ، و في رواية عند ابن ماجه و غيره : " و لكنّهم أَتَوا به أهل الدّنيا فاستخفّوا بهم " .
و الأثرُ و إن كان ضعيفًا (1) ، إلاّ أنّ معناه صحيحٌ و عملُ السّلف و أقوالهم تشهدُ له .
فقد عقد الخطيبُ البغداديُّ رحمه الله في كتابه العُجاب : " الجامع لأخلاق الرّاوي و آداب السّامع " بابا لكراهة التّحديث لمن لا يبتغيه و أنّ من ضياعه بذله لغير أهله ، و ساق فيه بأسانيده آثارًا كثيرةً تدلّ على فقه دقيق للسّلف رحمهم الله في هذا الباب (2) ، فهاك أخي القارئ طرفًا منها :
فعن أبي الضّحى عن مسروقٍ قال : " لا تنشر بزّك إلاّ عند من يبغيه " ، قال عبد الله بن الإمام أحمد : قال أبي : يعني الحديث .
و عن عبد الملك بن عمير عن مسروقٍ أيضًا قال : " نكدُ الحديث الكذب ، و آفته النّسيان ، و إضاعته أن تحدّث به غيرَ أهله " .
و عن عكرمةَ قال : " إنّ لهذا الحديث ثمناً . قالوا : و ما ثمنُه ؟ قال : أن يوضع عند من يحسن حفظه ، و لا يضيّعه " .
و عن مطرّفٍ قال : " لا تُطعم طعامك من لا يشتهيه " يريد : لا تحدّث بالحديث من لا يريده .
و عن أبي مسهرٍ قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول في الّذين يضعون الأحاديث عند غير أهلها : " وقع العلمُ عند الحمقى ! " .
و ممّن عرف عنه الشدّة والحزم في هذا سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله ، فعن شعبة قال : رآني الأعمش و أنا أحدّث قوما فقال : " ويحك يا شعبة ! تعلّق اللؤلؤ أعناق الخنازير !! " (3) .
و كان الأعمش يوافق عملُه قولَه ، فقد روى عنه الخطيب في الجامع ( ص 173 ) و أبو نعيم في الحلية ( 5/59 ) أنّه لمّا قدم السّواد ، سألوه أن يحدّثهم فأبى ، فقيل له : لو حدّثتهم ، قال : " و من يعلّق الدُّر على الخنازير !! " .
و لا تستغرب أيّها القارئ هذا الكلامَ عن الأعمش ، فقد جاء مثلُه عن الإمام مالكٍ رحمه الله ، رواه الخطيب أيضًا عن أبي مسهرٍ قال : سمعت مالك بن أنس يقول : " طارحُ العلم عند غير أهله كطارح الزّبَرْجَد للخنازير " .
بل إنّ السّلف كانوا يخشون تغيّرالدّين إذا وقع عند غير أهله ؛ فعن الفريابيّ قال : كان سفيان إذا رأى هؤلاء النّبط يكتبون العلم يتغيّر وجهه ! فقلت له يا أبا عبد الله ! نراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتدُّ عليك ، فقال : " كان العلم في العرب و في سادات النّاس ، فإذا خرج عنهم و صار إلى هؤلاء – يعني النِّبط و السِّفلة – غُيّر الدّين !! " (4) .
و من دقّة فقههم رحمهم الله أنّهم كانوا يحتسبون منعهم الحديث ، كما يحتسب أحدُنا نشره العلم وهذه أحسن أحوالنا إن استحضرنا الإخلاص !
قال جرير : سمعتُ مغيرةَ يقول : " إنّي أحتسب في منعي الحديث ، كما تحتسبون في بذله " . (5)
و عن هارون ابن سوار المقرئ قال سمعتُ الفضيلَ بنَ عياض وقيل له : ألا تحدّثنا تؤجر ؟ قال : " على أيّ شيء أُؤجَر ؟ على شيءِ تتفكّهون به في المجالس !؟ " (6) . فالله أكبر ، ما أفهمَهُم رحمهم الله .
و من هذا الباب امتناعُ كثيرٍ من السّلف عن تحديث الأمراء و السّلاطين صيانةً للعلم و إعزازًا لأهله ، و الآثار في هذا الباب كثيرة ، أكتفي منها باثنين عجبي منهما لا ينقضي ، ثانيهما أعجب إليّ من الأوّل :
فعن الحجّاج بن حمزة قال : أتى ابنَ المبارك ابنُ والي خراسان ، فسأله أن يحدّثه ، فأبى عليه ، ولم يحدّثه . فلمّا خرجَ ؛ خرج معه ابنُ المبارك إلى باب الدّار ، فقال له يا أبا عبد الرّحمن ، سألتُك أن تحدّثني فلم تحدّثني و خرجتَ معي إلى باب الدّار ! فقال : " أمّا عن نفسي فأهَنتُها لك ، و أمّا حديث رسول الله صلى الله عليه و سلّم فإنّي أجلّه عنك ! " (7) .
و لمّا دخل ربيعةُ على الخليفة الوليد بن يزيد قال : يا ربيعةُ حدّثنا ! قال : ما أحدّث شيئا ! فلمّا خرج من عنده قال : " ألا تعجبون من هذا الذي يقترحُ عليّ كما يقترح على المغَنِّية ! : حدّثنا يا ربيعة !! ". (
فتدبّروا يا طلبة العلم !
____________________________
(1) : فيه نهشل بن بن سعيد متروك ، كذّبه إسحاق بن راهويه . أفاده الشيخ يحي الحجوري في تحقيقه لكتاب أخلاق العلماء لأبي بكر الآجري ، ص 64 .
(2) : انظرها فيه ص 172 و 173 . ط دار الكتب العلمية بترقيم صلاح عويضة .
(3) : ابن عبد البرّ في " جامع بيان العلم " ، مختصره لأبي عبد الرحمن محمود الجزائري ، ص 43 .
(4) : المصدر السابق ، ص 70 .
(5) : الجامع للخطيب ، ص 173 .
(6) : المصدر السابق ، ص 179 تحت باب : من كان يمتنع أن يحدّث من لا نيّة صحيحة له في الحديث .
(7) و ( : نفس المصدر ، ص 177 ، تحت باب : من كان لا يحدّث السّلاطين .
(1) : فيه نهشل بن بن سعيد متروك ، كذّبه إسحاق بن راهويه . أفاده الشيخ يحي الحجوري في تحقيقه لكتاب أخلاق العلماء لأبي بكر الآجري ، ص 64 .
(2) : انظرها فيه ص 172 و 173 . ط دار الكتب العلمية بترقيم صلاح عويضة .
(3) : ابن عبد البرّ في " جامع بيان العلم " ، مختصره لأبي عبد الرحمن محمود الجزائري ، ص 43 .
(4) : المصدر السابق ، ص 70 .
(5) : الجامع للخطيب ، ص 173 .
(6) : المصدر السابق ، ص 179 تحت باب : من كان يمتنع أن يحدّث من لا نيّة صحيحة له في الحديث .
(7) و ( : نفس المصدر ، ص 177 ، تحت باب : من كان لا يحدّث السّلاطين .
تعليق