الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أمّا بعد، فإنّي أحب لكم ما أحبّه لنفسي و (الدّين النّصيحة) كما قال رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم-، ومن النّصيحة لكم أيّها الأحبّة الكرام فيما يتعلّق بما نحن فيه، ألا وهو العلم، أن أذكر لكم الأسباب المعينة لطالب العلم المعينة على تحصيله والنّبوغ فيه، وإلّا فالأسباب كثيرة لكن أذكر لكم أهمّ ما أرى في هذا.
وإنّ أهمّ ما رأيتُه في سير العلماء الذّين نبغوا بعد إخلاصهم لله –جلّ وعلا- في طلب هذا العلم –رحهم الله- زهدهم في الدّنيا وإعراضهم عنها وعدم إقبالهم عليها وتعلّقهم بها واكتفاؤهم منها بما يصون ماء وجوههم، وذلك لأنّ الاشتغال بالدّنيا يشغل طالب العلم عن الاشتغال بالعلم.
فمن أعظم الأسباب المعينة لنا معاشر طلبة العلم على التّحصيل ويجب علينا أن نتحلّى بها وأن نجاهد أنفسنا عليها والصّبر في ذلك: باب التقلّل من الدّنيا والاكتفاء بما يقوم بحاجتك أيها الطّالب للعلم. فحينئذ يرتاح بالك وتطمئن نفسك ويجتمع لبّك ولا يتشتّت الذّهن فتقوى الحافظة.
ويحرص الإنسان على الصّغير والكبير في هذا الباب ويحرص على الوقت ويحرص على الملازمة لمن يستفيد منه، فيستفيد في أسرع الأوقات.
الدّليل؟ عوّدتُكم هذا وأُكرره حتّى تملّوا منه وأنا لا أملّ لأنّي قطعته لكم على نفسي.
مَن أحفظ أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-؟ أبو هريرة فهو حافظ الأمة على الإطلاق صحابةً فما بعدهم.
أبو هريرة كَم صحب النّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-؟ صح وإلّا لا، وفد سنة خيبر أليس كذلك؟ وخيبر سنة كم؟ ستّ. والنّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- على تمام عشر من هجرته –صلوات الله وسلامه عليه- لحق بالرّفيق الأعلى. فملازمة أبي هريرة كم؟ أربع سنوات، يعني مثل الكليّة اليوم لكنّه حافظ الأمّة، أليس كذلك؟ طيّب.
كثر حديثه وفتاواه –رحمه الله- مع هذا قليلة لكن رواياته كثيرة. وهل العلم، كما قال أحمد، إلّا الحديث؟ هل الفقه إلّا الحديث ؟ هذا لفظ أحمد. قال: [ يقولون: أكثر أبو هريرة] أكثر من التّحديث عن رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- أليس كذلك، استغربوا كثرة المحفوظ، كثرة العلم، كثرة الرّواية عنده مع أنّه مدّة الملازمة قصيرة في حقّه.
الصّحابة الأوّلون، أقدم الصّحابة إسلامًا كثير منهم مقلّ في الرّواية وأبو هريرة مكثر في الرّواية.
قال: [يقولون: أكثر أبو هريرة] أليس كذلك؟ فهذا شهادة له في الإكثار من العلم والرّواية وإلّا لا؟ شهادة. في مدّة وجيزة وإلّا لا؟ إذًا فهو نبوغ في فترة فصيرة وإلّا لا؟ نبوغ في فترة قصيرة اسمعوا سببه. قال: [ وإنّي والله كنتُ امرءًا مسكينًا، صحبتُ رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- على ملئ بطني].
اليوم أكثر طلبة العلم على هذا؟ عندنا ملئ بطن وبطن وبطن وبطن وبطن وبطن وبطن وبطون ونحن القناعة قليلة.
قال [ أمّا إخواننا الأنصار فشغلهم الصفّ بالأسواق] لهم تجارة اشتغلوا. [ وأمّا المهاجرين] العكس [أمّا إخواننا الأنصار فكانت لهم أرواح يروحون إليها]ٍ يعني مزارع [ وأمّا إخواننا المهاجرين فشغلهم الصفّ بالأسواق] إيش؟ هذا يشتغل في السّوق ليحصّل لعائلته وأولاده وذاك يشتغل بمزارعه وفلاحته وأرضه وغنمه وأنعامه والقيام بشؤونها التّي تُصلحها. فاشتغل هذا بالأرواح والزّراعة ونحو ذلك، واشتغل هذا وهو المهاجري بالصّفّ بالأسواق، كما في حديث عبد الرّحمان بن عوف –رضي الله تعالى عنه- دلّوه على السّوق فتجر في فترة وجيزة.
فذكر سببًا واحدًا على فرعين: الاشتغال بالدّنيا زراعةً وتجارةً. صح وإلّا لا؟ هو لازم رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- فغابوا وحضر، وشهد ولم يشهدوا.
وأضف إلى ذلك مع الملازمة الحرص حيث ثبت ذلك أيضا له بشهادة رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- حينما قال لرسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- ( من أسعد النّاس بشفاعتك يوم القيامة؟) فقال له النّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- ( لقد علمتُ أنّه لا يسألني عن ذلك أحدٌ أوّل منك لما رأيتُ من حرصك على العلم. أسعد النّاس بشفاعتي...) الحديث. فشهد له النّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- بمَ؟ بالحرص في ملازمته لرسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- كان حريصًا.
وهذا العلم إنّما يحصل عليه بالسّؤال وبالقلب العقول بعد توفيق الله –جلّ وعلا- ، قيل لابن عبّاس في ذلك قال (إنّما حصّلته بلسان سؤول و وقلب عقول).
الشّاهد أنّ النّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- أثبت وشهد لأبي هريرة -رضي الله عنه- هنا بالحرص، كان حريصًا في مجالسته مجالس رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- لا يفوته شيئًا ومن حرصه قصّته التّي تعرفونها، شكواه إلى رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- في الحفظ حينما قال له ( إنّي أسمع منك حديثًا كثيرًا فأنساه) فطلب من النّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- أن يدعو له فأمره النّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- أن يبسط رداءه والقصّة مشهورة.
إذًا الاشتغال بالدّنيا من أعظم الأسباب التّي تُضعف الطّلب عندكَ أيّها الطّالب، تُزاحم العلم. كذلك بإشغالها لذّهن وإذا اشتغل الذّهن والفكر بها أضعف الاشتغال بالآخر ألا وهو العلم ، ولهذا كم هم تجّار في العلماء، علماء الإسلام؟ قلّة قلّة قلّة قليلة جدّا وأمّا الغالب على أئمّة الإسلام فهو الفقر والإملاق من الدّنيا، قدوتهم رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم-. الهلال والهلال والهلال ثلاث أهلّة في شهرين وما يوقد في داره ، في أبياته –صلّى الله عليه وسلّم- نار كما قالت عائشة –رضي الله عنها- فلمّا سُئلت، سألها ابن أختها : ما كان طعامكم يا أمّه؟ قالت: (الأسودان) التّمر والماء. فالاجتزاء من الدّنيا بالقليل الذّي يحفظه به الإنسان حرّ وجهه ويصون ماء وجهه ويستعين بذلك على التّحصيل فيجمع لبّه وفكره هذا من أعظم الأسباب التّي يحصّل بسببها الإنسان العلم وذلك لأنّ العلم لا يشتغل بغير هذا العلم فيحصل له الخير الكثير في الوقت اليسير.
ونحن نرى هذه الأيّام وقد ذكرت عدّة مرّات طول المدّة التّي يمكثها الطّلبة في الدّراسة ولو حذفت فقط منها الإبتدائيّة، لأنّها مرحلة الكتب والتّاسيس حتّى يتأهّل، من المتوسّطة فما بعد، الثّانية عشر والثّالثة عشر فما بعد، لعددتَ ثلاث متوسّط ، ثلاث ثانوي، ستّ وأربع مع الجامعة عشر، عشر سنوات ويتخرّج وبعضهم تعيدهم إلى مسألة في أوّل الكتاب في الفنّ يقول لك هذه ما قرأتها، او في وسطه يقول ما قرأتها أو في آخره يقول ما قرأتها أو ما مرّت علينا، تسأل كانت محذوفة، طيّب حذفت من عندهم في أثناء الدّراسة أنتَ ما جاءك هاجس في نفسك أنّك تُكملها وتسدّ هذه اللّبنة وهذا الفراغ حتّى يكمل البناء ويحسن؟ سؤال آخر.
إذًا انظر إلى هذه المدّة التّي يقضيها التّي يقضيها المتعلّم وانظر إلى المدد عند السّابقين وقد أُدرك هذا السّبب وعُلم في هذه الآونة الأخيرة: الأوّلون كان يشتغل الواحد بالكتاب حتّى يُتمّه في الفنّ. فإذا أراد أن ينتقل في فنّه إلى كتاب آخر أو أوسع منه فعل أو انتقل إلى فنّ آخر وأخذ فيه كتابًا من أوّله إلى آخره. تمرّ عليه مسائل الكتاب كاملة، مسائل الفنّ كاملة. فهذا الذّي حصّلوا بسببه.
الشّيء الثّاني من الأسباب هو هجر الرّاحة فإنّ من عرف قدر المطلوب يحقر ما بذل كما قال ابن الوردي وقال أيضا:
واهجر الرّاحة في تحصيله*** لا يستطاع العلم براحة الجسد
أخذها من أين؟
نبغى نام خمس وعشرين ساعة ونتعلّم؟ ما يمكن ( واهجر الرّاحة في تحصيله) ويقول في الميميّة :
وادأب بعزم قويّ لا انثناء له*** لو يعلم المرء قدر العلم لم ينَمِ
فهذان السّباب من أعظم الأسباب: التّقلّل من الدّنيا حتّى لا تشتغل وتُشغلك والثّاني بذل ما تستطيع وتجتهد في التّحصيل.
الجَدُّ في الجِدِّ والحرمان في الكسل**** فانصبْ تُصِبْ عنْ قريبٍ غايةَ الأملِ
الجَدُّ: الحظّ (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) فالجدّ هنا الحظّ. فيقول لك هنا الحظّ في الجِدِّ، ما تحصّل حظّك الذّي تطلبه وتنشده إلّا بالجدّ بعد توفيق الله فالجَدُّ في الجِدِّ والاجتهاد والحرمان في الكسل. فانصب: اتعب، تُصب عن قريب غاية الأمل.
فإذا حصل هذا في وقت قريب تنبغ. وأسباب النّبوغ في أهل العلم الكبار مردّها إلى هذا. انظر ماذا في سيرهم يتفرّغ للطّلب ويجتهد اللّيل والنّهار في تحصيله فينبغ في وقت مبكّر وفي وقت قصير. ودليل وحديث أبي هريرة أعظم شاهد في هذا.
ولعلّنا نكتفي بهذا القدر وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيّنا محمد.
ووالله ثمّ والله ثمّ والله قعدتُ على هذا الكرسي وأنا لا أدري فيما أتحدّث معكم فأحمد الله على ما فتح عليا وأسأل الله أن يفتح عليكم بخير وأن يوفّقنا وإيّاكم لما يحبّه ويرضاه وأن يُعيننا وإيّاكم على هذا الأمر الذّي نحن فيه الذّي هو أشرف الأمور على الإطلاق، لا شيء يماثله.
لكلمة بعنوان أهمّ أسباب التّحصيل العلمي ألقاها فضيلة الشّيخ الدّكتورمحمد بن هادي بن علي المدخلي -حفظه الله تعالى- يوم الأحد 14 ربيع الثاني عام 1437 للهجرة النّبويّة بمسجد بدري العتيبي بالمدينة .