الجَامِعْ لِلْأَسْبَابِ المَانِعَةِ مِنَ الفَهْمِ
قال العلامة الماوردي في كتابه : ( أدب الدُّنيا والدِّين ) وقد جمع فيه أسباب سوء الفهم فأحسن، ورتَّب فأجاد، وعبَّر فجمَّل، ومهما أطريته فلن أوفيه حقَّه، أترك لكم الحكم النِّهائي ومع التَّمتع والفائدة ( الموضوع طويل نوعًا ما، لكن الفائدة عظيمةٌ فلا تستثقل إكماله! أو اهماله!! ) :
قال -رحمه الله- " ...وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعَانِيَ مَا سَمِعَ كَشَفَ عَنْ السَّبَبِ الْمَانِعِ مِنْهَا لِيَعْلَمَ الْعِلَّةَ فِي تَعَذُّرِ فَهْمِهَا فَإِنَّهُ بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِ الْأَشْيَاءِ وَعِلَلِهَا يَصِلُ إلَى تَلَافِي مَا شَذَّ وَصَلَاحِ مَا فَسَدَ. وَلَيْسَ يَخْلُو السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: 1- إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي الْكَلَامِ الْمُتَرْجَمِ عَنْهَا. 2- وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي الْمَعْنَى الْمُسْتَوْدَعِ فِيهَا. 3- وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي السَّامِعِ الْمُسْتَخْرِجِ.
1- فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ فَهْمِهَا لِعِلَّةٍ فِي الْكَلَامِ الْمُتَرْجَمِ عَنْهَا لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِتَقْصِيرِ اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى فَيَصِيرُ تَقْصِيرُ اللَّفْظِ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى سَبَبًا مَانِعًا مِنْ فَهْمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا مِنْ حَصْرِ الْمُتَكَلِّمِ وَعِيِّهِ، وَإِمَّا مِنْ بَلَادَتِهِ وَقِلَّةِ فَهْمِهِ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِزِيَادَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ عِلَّةً مَانِعَةً مِنْ فَهْمِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ.
هَذَا قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
أ- إمَّا مِنْ هَذْرِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِكْثَارِهِ، ب- وَإِمَّا لِسُوءِ ظَنِّهِ بِفَهْمِ سَامِعِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِمُوَاضَعَةٍ يَقْصِدُهَا الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهَا السَّامِعُ لَمْ يَفْهَمْ مَعَانِيَهَا.
وَأَمَّا تَقْصِيرُ اللَّفْظِ وَزِيَادَتُهُ فَمِنْ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّك لَسْت تَجِدُ ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا تَجِدُهُ فِي بَعْضِهِ.
فَإِنْ عَدَلْت عَنْ الْكَلَامِ الْمُقَصِّرِ إلَى الْكَلَامِ الْمُسْتَوْفِي، وَعَنْ الزَّائِدِ إلَى الْكَافِي أَرَحْت نَفْسَك مِنْ تَكَلُّفِ مَا يَكِدُّ خَاطِرَك.
وَإِنْ أَقَمْت عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ إمَّا لِضَرُورَةٍ دَعَتْك إلَيْهِ عِنْدَ إعْوَازِ غَيْرِهِ، أَوْ لِحَمِيَّةٍ دَاخَلَتْك عِنْدَ تَعَذُّرِ فَهْمِهِ، فَانْظُرْ فِي سَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالتَّقْصِيرِ.
فَإِنْ كَانَ التَّقْصِيرُ لِحَصْرٍ وَالزِّيَادَةُ لِهَذْرٍ سَهُلَ عَلَيْك اسْتِخْرَاجُ الْمَعْنَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ الْكَلَامِ مَحْصُولٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلُّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ الصَّحِيحِ وَفِي الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ دَلِيلٌ.
وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى دَلِيلًا لِسُوءِ ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ بِفَهْمِ السَّامِعِ كَانَ اسْتِخْرَاجُهُ أَسْهَلَ.
وَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُ اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى لِسُوءِ فَهْمِ الْمُتَكَلِّمِ فَهُوَ أَصْعَبُ الْأُمُورِ حَالًا، وَأَبْعَدُهَا اسْتِخْرَاجًا؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ مُكَلِّمُك فَأَنْتَ مِنْ فَهْمِهِ أَبْعَدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِفَرْطِ ذَكَائِك وَجَوْدَةِ خَاطِرِك تَتَنَبَّهُ بِإِشَارَتِهِ عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَا عَجَزَ عَنْهُ وَاسْتِخْرَاجِ مَا قَصَّرَ فِيهِ فَتَكُونُ فَضِيلَةُ الِاسْتِيفَاءِ لَك وَحَقُّ التَّقَدُّمِ لَهُ.
وَأَمَّا الْمُوَاضَعَةُ فَضَرْبَانِ: أ- عَامَّةٌ ، ب- وَخَاصَّةٌ.
أ- أَمَّا الْعَامَّةُ: فَهِيَ مُوَاضَعَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا جَعَلُوهُ أَلْقَابًا لِمَعَانٍ لَا يَسْتَغْنِي الْمُتَعَلِّمُ عَنْهَا وَلَا يَقِفُ عَلَى مَعْنَى كَلَامِهِمْ إلَّا بِهَا، كَمَا جَعَلَ الْمُتَكَلِّمُونَ الْجَوَاهِرَ، وَالْأَعْرَاضَ وَالْأَجْسَامَ أَلْقَابًا تَوَاضَعُوهَا لِمَعَانٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهَا. وَلَسْت تَجِدُ مِنْ الْعُلُومِ عِلْمًا يَخْلُو مِنْ هَذَا. وَهَذِهِ الْمُوَاضَعَةُ الْعَامَّةُ تُسَمَّى عُرْفًا.
ب- وَأَمَّا الْخَاصَّةُ: فَمُوَاضَعَةُ الْوَاحِدِ يَقْصِدُ بِبَاطِنِ كَلَامِهِ غَيْرَ ظَاهِرِهِ. فَإِذَا كَانَتْ فِي الْكَلَامِ كَانَتْ رَمْزًا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الشِّعْرِ كَانَتْ لُغْزًا.
فَأَمَّا الرَّمْزُ: فَلَسْت تَجِدُهُ فِي عِلْمٍ مَعْنَوِيٍّ، وَلَا فِي كَلَامٍ لُغَوِيٍّ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ غَالِبًا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ:
إمَّا بِمَذْهَبٍ شَنِيعٍ يُخْفِيهِ مُعْتَقِدُهُ وَيَجْعَلُ الرَّمْزَ سَبَبًا لِتَطَلُّعِ النُّفُوسِ إلَيْهِ وَاحْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِيهِ سَبَبًا لِدَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْهُ.
وَإِمَّا لِمَا يَدَّعِي أَرْبَابُهُ أَنَّهُ عِلْمٌ مُعْوِزٌ، وَأَنَّ إدْرَاكَهُ بَدِيعٌ مُعْجِزٌ، كَالصَّنْعَةِ الَّتِي وَضَعَهَا أَرْبَابُهَا اسْمًا لِعِلْمِ الْكِيمْيَاءِ فَرَمَزُوا بِأَوْصَافِهِ، وَأَخْفَوْا مَعَانِيَهُ؛ لِيُوهِمُوا الشُّحَّ بِهِ وَالْأَسَفَ عَلَيْهِ خَدِيعَةً لِلْعُقُولِ الْوَاهِيَةِ وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
مُنِعْتُ شَيْئًا فَأَكْثَرْت الْوَلُوعَ بِهِ ... أَحَبُّ شَيْءٍ إلَى الْإِنْسَانِ مَا مُنِعَا
ثُمَّ لِيَكُونُوا بُرَاءً مِنْ عُهْدَةِ مَا قَالُوهُ إذَا جُرِّبَ.وَلَوْ كَانَ مَا تَضَمَّنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وَأَشْبَاهِهِمَا مِنْ الرُّمُوزِ مَعْنًى صَحِيحًا وَعِلْمًا مُسْتَفَادًا لَخَرَجَ مِنْ الرَّمْزِ الْخَفِيِّ إلَى الْعِلْمِ الْجَلِيِّ، فَإِنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ مَعَ اخْتِلَافِ أَهْوَائِهِمْ لَا تَتَّفِقُ عَلَى سَتْرِ سَلِيمٍ وَإِخْفَاءِ مُفِيدٍ. وَقَدْ قَالَ زُهَيْرٌ:
السَّتْرُ دُونَ الْفَاحِشَاتِ وَلَا ... يَلْقَاك دُونَ الْخَيْرِ مِنْ سَتْرِ
وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَ الرَّمْزُ مِنْ الْكَلَامِ فِيمَا يُرَادُ تَفْخِيمُهُ مِنْ الْمَعَانِي، وَتَعْظِيمُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ؛ لِيَكُونَ أَحْلَى فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعًا، وَأَجَلَّ فِي النُّفُوسِ مَوْضِعًا، فَيَصِيرُ بِالرَّمْزِ سَائِرًا وَفِي الصُّحُفِ مُخَلَّدًا.كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ فِيثَاغُورْسَ فِي وَصَايَاهُ الْمَرْمُوزَةِ أَنَّهُ قَالَ: (احْفَظْ مِيزَانَك مِنْ الْبَذِيءِ، وَأَوْزَانَك مِنْ الصَّدِيءِ). يُرِيدُ بِحِفْظِ الْمِيزَانِ مِنْ الْبَذِيءِ حِفْظَ اللِّسَانِ مِنْ الْخَنَا، وَحِفْظِ الْأَوْزَانِ مِنْ الصَّدَى حِفْظَ الْعَقْلِ مِنْ الْهَوَى. فَصَارَ بِهَذَا الرَّمْزِ مُسْتَحْسَنًا وَمُدَوَّنًا وَلَوْ قَالَهُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَالْمَعْنَى الصَّحِيحِ، لَمَا سَارَ عَنْهُ، وَلَا اُسْتُحْسِنَ مِنْهُ.
وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَحْجُوبَ عَنْ الْأَفْهَامِ كَالْمَحْجُوبِ عَنْ الْأَبْصَارِ فِيمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي النُّفُوسِ مِنْ التَّعْظِيمِ، وَفِي الْقُلُوبِ مِنْ التَّفْخِيمِ. وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلَمْ يَحْتَجِبْ هَانَ وَاسْتُرْذِلَ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ اسْتِحْلَاؤُهُ فِيمَا قَلَّ وَهُوَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ مُسْتَقَلٌّ.
فَأَمَّا الْعُلُومُ الْمُنْتَشِرَةُ الَّتِي تَتَطَلَّعُ النُّفُوسُ إلَيْهَا فَقَدْ اسْتَغْنَتْ بِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا وَشِدَّةِ الدَّاعِي إلَيْهَا عَنْ الِاسْتِدْعَاءِ إلَيْهَا بِرَمْزٍ مُسْتَحْلٍ وَلَفْظٍ مُسْتَغْرَبٍ. بَلْ ذَلِكَ مُنَفِّرٌ عَنْهَا؛ لِمَا فِي التَّشَاغُلِ بِاسْتِخْرَاجِ رُمُوزِهَا مِنْ الْإِبْطَاءِ عَنْ إدْرَاكِهَا، فَهَذَا حَالُ الرَّمْزِ.
وَأَمَّا اللُّغْزُ: فَهُوَ تَحَرِّي أَهْلِ الْفَرَاغِ وَشُغْلُ ذَوِي الْبَطَالَةِ؛ لِيَتَنَافَسُوا فِي تَبَايُنِ قَرَائِحِهِمْ، وَيَتَفَاخَرُوا فِي سُرْعَةِ خَوَاطِرِهِمْ، فَيَسْتَكِدُّوا خَوَاطِرَ قَدْ مُنِحُوا صِحَّتَهَا فِيمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا وَلَا يُفِيدُ عِلْمًا، كَأَهْلِ الصِّرَاعِ الَّذِينَ قَدْ صَرَفُوا مَا مُنِحُوهُ مِنْ صِحَّةِ أَجْسَامِهِمْ إلَى صِرَاعٍ كَدُودٍ يَصْرَعُ عُقُولَهُمْ وَيَهِدُّ أَجْسَامَهُمْ وَلَا يُكْسِبُهُمْ حَمْدًا وَلَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ نَفْعًا. اُنْظُرْ إلَى قَوْلِ الشَّاعِر:
رَجُلٌ مَاتَ وَخَلَّفَ رَجُلًا ... ابْنَ أُمِّ ابْنَ أَبِي أُخْتِ أَبِيهِ
مَعَهُ أُمُّ بَنِي أَوْلَادِهِ ... وَأَبَا أُخْتِ بَنِي عَمِّ أَخِيهِ
أَخْبَرَنِي عَنْ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَقَدْ رَوَّعَك صُعُوبَةُ مَا تَضَمَّنَهُمَا مِنْ السُّؤَالِ.مَعَهُ أُمُّ بَنِي أَوْلَادِهِ ... وَأَبَا أُخْتِ بَنِي عَمِّ أَخِيهِ
إذَا اسْتَكْدَيْتَ الْفِكْرَ فِي اسْتِخْرَاجِهِ فَعَلِمْت أَنَّهُ أَرَادَ مَيْتًا خَلَّفَ أَبًا وَزَوْجَةً وَعَمًّا، مَا الَّذِي أَفَادَك مِنْ الْعِلْمِ وَنَفَى عَنْك مِنْ الْجَهْلِ؟ أَلَسْت بَعْدَ عِلْمِهِ تَجْهَلُ مَا كُنْت جَاهِلًا مِنْ قَبْلِهِ؟ وَلَوْ أَنَّ السَّائِلَ قَلَبَ لَك السُّؤَالَ فَأَخَّرَ مَا قُدِّمَ وَقَدَّمَ مَا أُخِّرَ لَكُنْت فِي الْجَهْلِ بِهِ قَبْلَ اسْتِدْرَاجِهِ كَمَا كُنْت فِي الْجَهْلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ كَدَدْت نَفْسَك، وَأَتْعَبْت خَاطِرَك ثُمَّ لَا تَعْدَمُ أَنْ يَرِدَ عَلَيْك مِثْلُ هَذَا مِمَّا تَجْهَلُهُ فَتَكُونُ فِيهِ كَمَا كُنْت قَبْلَهُ. فَاصْرِفْ نَفْسَك - تَوَلَّى اللَّهُ رُشْدَك - عَنْ عُلُومِ النَّوْكَى وَتَكَلُّفِ الْبَطَّالِينَ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» .
ثُمَّ اجْعَلْ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْك مِنْ صِحَّةِ الْقَرِيحَةِ وَسُرْعَةِ الْخَاطِرِ مَصْرُوفًا إلَى عِلْمِ مَا يَكُونُ إنْفَاقُ خَاطِرِك فِيهِ مَذْخُورًا، وَكَدُّ فِكْرِك فِيهِ مَشْكُورًا. وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» . وَنَحْنُ نَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ نُغْبَنَ بِفَضْلِ نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا، وَنَجْهَلَ نَفْعَ إحْسَانِهِ إلَيْنَا. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: (مِنْ الْفَرَاغِ تَكُونُ الصَّبْوَةُ). وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: (مَنْ أَمْضَى يَوْمَهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ قَضَاهُ، أَوْ فَرْضٍ أَدَّاهُ، أَوْ مَجْدٍ أَثَّلَهُ أَوْ حَمْدٍ حَصَّلَهُ، أَوْ خَيْرٍ أَسَّسَهُ أَوْ عِلْمٍ اقْتَبَسَهُ، فَقَدْ عَقَّ يَوْمَهُ وَظَلَمَ نَفْسَهُ). وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
لَقَدْ أَهَاجَ الْفَرَاغُ عَلَيْك شُغْلًا ... وَأَسْبَابُ الْبَلَاءِ مِنْ الْفَرَاغِ
فَهَذَا تَعْلِيلُ مَا فِي الْكَلَامِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِ مَعَانِيهِ حَتَّى خَرَجَ بِنَا الِاسْتِيفَاءُ وَالْكَشْفُ إلَى الْإِغْمَاضِ.2- وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ فَهْمِ السَّامِعِ لِعِلَّةٍ فِي الْمَعْنَى الْمُسْتَوْدَعِ: فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَعْنَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أ- إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، ب- أَوْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لِغَيْرِهِ، ج- أَوْ يَكُونَ نَتِيجَةً مِنْ غَيْرِهِ.
أ- فَأَمَّا الْمُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَضَرْبَانِ: >جَلِيٌّ ، > وَخَفِيٌّ.
> فَأَمَّا الْجَلِيُّ: فَهُوَ يَسْبِقُ إلَى فَهْمِ مُتَصَوِّرِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَقْسَامِ مَا يُشْكِلُ عَلَى مَنْ تَصَوَّرَهُ.
> وَأَمَّا الْخَفِيُّ: فَيَحْتَاجُ فِي إدْرَاكِهِ إلَى زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ وَفَضْلِ مُعَانَاةٍ لِيَنْجَلِيَ عَمَّا أَخْفَى وَيَنْكَشِفَ عَمَّا أُغْمِضَ، وَبِاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِيهِ يَكُونُ الِارْتِيَاضُ بِهِ وَبِالِارْتِيَاضِ بِهِ يَسْهُلُ مِنْهُ مَا اُسْتُصْعِبَ وَيَقْرَبُ مِنْهُ مَا بَعُدَ، فَإِنَّ لِلرِّيَاضَةِ جَرَاءَةً وَلِلدِّرَايَةِ تَأْثِيرًا،
ب- وَأَمَّا مَا كَانَ مُقَدِّمَةً لِغَيْرِهِ فَضَرْبَانِ:
> أَحَدُهُمَا: أَنْ تَقُومَ الْمُقَدِّمَةُ بِنَفْسِهَا وَإِنْ تَعَدَّتْ إلَى غَيْرِهَا، فَتَكُونُ كَالْمُسْتَقِلِّ بِنَفْسِهِ فِي تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ مُسْتَدْعِيًا لِنَتِيجَتِهِ.
> وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَى نَتِيجَتِهِ فَيَتَعَذَّرُ فَهْمُ الْمُقَدِّمَةِ إلَّا بِمَا يَتْبَعُهَا مِنْ النَّتِيجَةِ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ بَعْضًا وَتَبْعِيضُ الْمَعْنَى أَشْكَلُ لَهُ وَبَعْضُهُ لَا يُغْنِي عَنْ كُلِّهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ نَتِيجَةً لِغَيْرِهِ فَهُوَ لَا يُدْرَكُ إلَّا بِأَوَّلِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ إلَّا بِمُقَدِّمَتِهِ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ قَبْلَ الْمُقَدِّمَةِ عَنَاءٌ، وَإِتْعَابُ الْفِكْرِ فِي اسْتِنْبَاطِهِ قَبْلَ قَاعِدَتِهِ إيذَاءٌ. فَهَذَا يُوَضِّحُ تَعْلِيلَ مَا فِي الْمَعَانِي مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِهَا.
3- وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمَانِعُ لِعِلَّةٍ فِي الْمُسْتَمِعِ: فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: > أَحَدُهُمَا: مِنْ ذَاتِهِ. وَالثَّانِي: مِنْ طَارِئٍ عَلَيْهِ
> فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَاتِهِ فَيَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: - أَحَدَهُمَا: مَا كَانَ مَانِعًا مِنْ تَصَوُّرِ الْمَعْنَى، - وَالثَّانِيَ: مَا كَانَ مَانِعًا مِنْ حِفْظِهِ بَعْدَ تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ.
- فَأَمَّا مَا كَانَ مَانِعًا مِنْ تَصَوُّرِ الْمَعْنَى وَفَهْمِهِ: فَهُوَ الْبَلَادَةُ وَقِلَّةُ الْفِطْنَةِ وَهُوَ الدَّاءُ الْعَيَاءُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: (إذَا فَقَدَ الْعَالِمُ الذِّهْنَ قَلَّ عَلَى الْأَضْدَادِ احْتِجَاجُهُ، وَكَثُرَ إلَى الْكُتُبِ احْتِيَاجُهُ). وَلَيْسَ لِمَنْ بُلِيَ بِهِ إلَّا الصَّبْرُ وَالْإِقْلَالُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الْقَلِيلِ أَقْدَرُ، وَبِالصَّبْرِ أَحْرَى أَنْ يَنَالَ وَيَظْفَرَ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: (قَدِّمْ لِحَاجَتِك بَعْضَ لَجَاجَتِك). وَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ مَنْ هَذَا حَالُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَالِبَ الشَّهْوَةِ، بَعِيدَ الْهِمَّةِ، فَيُشْعِرُ قَلْبَهُ الصَّبْرَ؛ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِ، وَجَسَدَهُ احْتِمَالَ التَّعَبِ؛ لِبُعْدِ هِمَّتِهِ.
فَإِذَا تَلَوَّحَ لَهُ الْمَعْنَى بِمُسَاعَدَةِ الشَّهْوَةِ أَعْقَبَهُ ذَلِكَ إلْحَاحُ الْآمِلِينَ وَنَشَاطُ الْمُدْرِكِينَ فَقَلَّ عِنْدَهُ كُلُّ كَثِيرٍ، وَسَهُلَ عَلَيْهِ كُلُّ عَسِيرٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَنَالُونَ مَا تُحِبُّونَ إلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ، وَلَا تَبْلُغُونَ مَا تَهْوُونَ إلَّا بِتَرْكِ مَا تَشْتَهُونَ» . وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: (أَتْعِبْ قَدَمَك، فَإِنْ تَعِبَ قَدَّمَك). وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: (إذَا اشْتَدَّ الْكَلَفُ، هَانَتْ الْكُلَفُ)، وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -:
لَا تَعْجِزَنَّ وَلَا يَدْخُلْك مُضْجِرَةٌ ... فَالنُّجْحُ يَهْلِكُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالضَّجَرِ
- وَأَمَّا الْمَانِعُ مِنْ حِفْظِهِ بَعْدَ تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ: فَهُوَ النِّسْيَانُ الْحَادِثُ عَنْ غَفْلَةِ التَّقْصِيرِ وَإِهْمَالِ التَّوَانِي. فَيَنْبَغِي لِمَنْ بُلِيَ بِهِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ تَقْصِيرَهُ بِكَثْرَةِ الدَّرْسِ وَيُوقِظَ غَفْلَتَهُ بِإِدَامَةِ النَّظَرِ. فَقَدْ قِيلَ لَا يُدْرِكُ الْعِلْمَ مَنْ لَا يُطِيلُ دَرْسَهُ، وَيَكُدُّ نَفْسَهُ. وَكَثْرَةُ الدَّرْسِ كَدُودٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ يَرَى الْعِلْمَ مَغْنَمًا، وَالْجَهَالَةَ مَغْرَمًا. فَيَحْتَمِلُ تَعَبَ الدَّرْسِ لِيُدْرِكَ رَاحَةَ الْعِلْمِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَعَرَّةَ الْجَهْلِ.
فَإِنَّ نَيْلَ الْعَظِيمِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَعَلَى قَدْرِ الرَّغْبَةِ تَكُونُ الْمَطَالِبُ، وَبِحَسَبِ الرَّاحَةِ يَكُونُ التَّعَبُ.
وَقَدْ قِيلَ: (طَلَبُ الرَّاحَةِ قِلَّةُ الِاسْتِرَاحَةِ). وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: (أَكْمَلُ الرَّاحَةِ مَا كَانَتْ عَنْ كَدِّ التَّعَبِ، وَأَعَزُّ الْعِلْمِ مَا كَانَ عَنْ ذُلِّ الطَّلَبِ).
وَرُبَّمَا اسْتَثْقَلَ الْمُتَعَلِّمُ الدَّرْسَ وَالْحِفْظَ وَاتَّكَلَ بَعْدَ فَهْمِ الْمَعَانِي عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْكُتُبِ وَالْمُطَالَعَةِ فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلَا يَكُونُ إلَّا كَمَنْ أَطْلَقَ مَا صَادَهُ ثِقَةً بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ فَلَا تُعْقِبُهُ الثِّقَةُ إلَّا خَجَلًا وَالتَّفْرِيطُ إلَّا نَدَمًا.وَهَذِهِ حَالٌ قَدْ يَدْعُو إلَيْهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءِ:
- إمَّا الضَّجَرُ مِنْ مُعَانَاةِ الْحِفْظِ وَمُرَاعَاتِهِ وَطُولِ الْأَمَلِ فِي التَّوَفُّرِ عَلَيْهِ عِنْدَ نَشَاطِهِ وَفَسَادِ الرَّأْيِ فِي عَزِيمَتِهِ. وَلَيْسَ يَعْلَمُ أَنَّ الضَّجُورَ خَائِبٌ، وَأَنَّ الطَّوِيلَ الْأَمَلِ مَغْرُورٌ، وَأَنَّ الْفَاسِدَ الرَّأْيِ مُصَابٌ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي أَمْثَالِهَا: (حَرْفٌ فِي قَلْبِك، خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ فِي كُتُبِك). وَقَالُوا: (لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَعْبُرُ مَعَك الْوَادِيَ، وَلَا يُعَمِّرُ بِك النَّادِيَ)، وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
عِلْمِي مَعِي حَيْثُ مَا يَمَّمْتُ يَنْفَعُنِي ... قَلْبِي وِعَاءٌ لَهُ لَا بَطْنُ صُنْدُوقِي
إنْ كُنْت فِي الْبَيْتِ كَانَ الْعِلْمُ فِيهِ مَعِي ... أَوْ كُنْت فِي السُّوقِ كَانَ الْعِلْمُ فِي السُّوقِ
إنْ كُنْت فِي الْبَيْتِ كَانَ الْعِلْمُ فِيهِ مَعِي ... أَوْ كُنْت فِي السُّوقِ كَانَ الْعِلْمُ فِي السُّوقِ
- وَرُبَّمَا اعْتَنَى الْمُتَعَلِّمُ بِالْحِفْظِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرٍ وَلَا فَهْمٍ حَتَّى يَصِيرَ حَافِظًا لِأَلْفَاظِ الْمَعَانِي قَيِّمًا بِتِلَاوَتِهَا. وَهُوَ لَا يَتَصَوَّرُهَا وَلَا يَفْهَمُ مَا تَضَمَّنَهَا يَرْوِي بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَيُخْبِرُ عَنْ غَيْرِ خِبْرَةٍ.
فَهُوَ كَالْكِتَابِ الَّذِي لَا يَدْفَعُ شُبْهَةً، وَلَا يُؤَيِّدُ حُجَّةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «هِمَّةُ السُّفَهَاءِ الرِّوَايَةُ وَهِمَّةُ الْعُلَمَاءِ الرِّعَايَةُ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (كُونُوا لِلْعِلْمِ رُعَاةً، وَلَا تَكُونُوا لَهُ رُوَاةً، فَقَدْ يَرْعَوِي مَنْ لَا يَرْوِي، وَيَرْوِي مَنْ لَا يَرْعَوِي). وَحَدَّثَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِحَدِيثٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، عَمَّنْ؟ قَالَ: (مَا تَصْنَعُ بِعَمَّنْ، أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ نَالَتْك عِظَتُهُ، وَقَامَتْ عَلَيْك حُجَّتُهُ).
- وَرُبَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى حِفْظِهِ وَتَصَوُّرِهِ، وَأَغْفَلَ تَقْيِيدَ الْعِلْمِ فِي كُتُبِهِ ثِقَةً بِمَا اسْتَقَرَّ فِي ذِهْنِهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الشَّكْلَ مُعْتَرِضٌ وَالنِّسْيَانَ طَارِقٌ. وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» . وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا شَكَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسْيَانَ فَقَالَ لَهُ: اسْتَعْمِلْ يَدَك»، أَيْ: اُكْتُبْ حَتَّى تَرْجِعَ إذَا نَسِيتَ إلَى مَا كَتَبْتَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: (اجْعَلْ مَا فِي الْكُتُبِ رَأْسَ الْمَالِ، وَمَا فِي الْقَلْبِ النَّفَقَةَ). وَقَالَ مَهْبُودٌ: (لَوْلَا مَا عَقَدَتْهُ الْكُتُبُ مِنْ تَجَارِبِ الْأَوَّلِينَ، لَانْحَلَّ مَعَ النِّسْيَانِ عُقُودُ الْآخِرِينَ). وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: (إنَّ هَذِهِ الْآدَابَ نَوَافِرُ تَنِدُّ عَنْ عَقْلِ الْأَذْهَانِ فَاجْعَلُوا الْكُتُبَ عَنْهَا حُمَاةً، وَالْأَقْلَامَ لَهَا رُعَاةً).
> وَأَمَّا الطَّوَارِئُ فَنَوْعَانِ:
- أَحَدُهُمَا شُبْهَةٌ تَعْتَرِضُ الْمَعْنَى فَتَمْنَعُ عَنْ نَفَسِ تَصَوُّرِهِ وَتَدْفَعُ عَنْ إدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُزِيلَ تِلْكَ الشُّبْهَةَ عَنْ نَفْسِهِ بِالسُّؤَالِ وَالنَّظَرِ؛ لِيَصِلَ إلَى تَصَوُّرِ الْمَعْنَى وَإِدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: (لَا تُخْلِ قَلْبَك مِنْ الْمُذَاكَرَةِ فَتَعُدْ عَقِيمًا، وَلَا تُعْفِ طَبْعَك مِنْ الْمُنَاظَرَةِ فَيَعُدْ سَقِيمًا). وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ:
شِفَاءُ الْعَمَى طُولُ السُّؤَالِ وَإِنَّمَا ... دَوَامُ الْعَمَى طُولُ السُّكُوتِ عَلَى الْجَهْلِ
فَكُنْ سَائِلًا عَمَّا عَنَاك فَإِنَّمَا ... دُعِيتَ أَخَا عَقْلٍ لِتَبْحَثَ بِالْعَقْلِ
فَكُنْ سَائِلًا عَمَّا عَنَاك فَإِنَّمَا ... دُعِيتَ أَخَا عَقْلٍ لِتَبْحَثَ بِالْعَقْلِ
- وَالثَّانِي: أَفْكَارٌ تُعَارِضُ الْخَاطِرِ فَيَذْهَلُ عَنْ تَصَوُّرِ الْمَعْنَى: وَهَذَا سَبَبٌ قَلَّمَا يَعْرَى مِنْهُ أَحَدٌ لَا سِيَّمَا فِيمَنْ انْبَسَطَتْ آمَالُهُ وَاتَّسَعَتْ أَمَانِيهِ. وَقَدْ يَقِلُّ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي غَيْرِ الْعِلْمِ أَرَبٌ، وَلَا فِيمَا سِوَاهُ هِمَّةٌ، فَإِنْ طَرَأَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُكَابَرَةِ نَفْسِهِ عَلَى الْفَهْمِ وَغَلَبَةِ قَلْبِهِ عَلَى التَّصَوُّرِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَشَدُّ نُفُورًا، وَأَبْعَدُ قَبُولًا. وَقَدْ جَاءَ الْأَثَرُ (بِأَنَّ الْقَلْبَ إذَا أُكْرِهَ عَمِيَ)، وَلَكِنْ يَعْمَلُ فِي دَفْعِ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ هَمٍّ مُذْهِلٍ أَوْ فِكْرٍ قَاطِعٍ لِيَسْتَجِيبَ لَهُ الْقَلْبُ مُطِيعًا. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَيْسَ بِمُغْنٍ فِي الْمَوَدَّةِ شَافِعٌ ... إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الضُّلُوعِ شَفِيعُ
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: (إنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ تَنَافُرَ كَتَنَافُرِ الْوَحْشِ فَتَأَلَّفُوهَا بِالِاقْتِصَادِ فِي التَّعْلِيمِ، وَالتَّوَسُّطِ فِي التَّقْدِيمِ؛ لِتَحْسُنَ طَاعَتُهَا، وَيَدُومَ نَشَاطُهَا). فَهَذَا تَعْلِيلُ مَا فِي الْمُسْتَمِعِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِ الْمَعَانِي.
4- وَهَا هُنَا قِسْمٌ رَابِعٌ: يَمْنَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ. وَلَكِنَّهُ قَدْ يُعَرَّى مِنْ بَعْضِ الْكَلَامِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ أَقْسَامِهِ، وَلَمْ نَسْتَجِزْ الْإِخْلَالَ بِذِكْرِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْكَلَامِ مَا كَانَ مَسْمُوعًا لَا يَحْتَاجُ فِي فَهْمِهِ إلَى تَأَمُّلِ الْخَطِّ بِهِ.
وَالْمَانِعُ مِنْ فَهْمِهِ هُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْسَامِهِ وَمِنْهُ مَا كَانَ مُسْتَوْدَعًا بِالْخَطِّ، مَحْفُوظًا بِالْكِتَابَةِ، مَأْخُوذًا بِالِاسْتِخْرَاجِ، فَكَانَ الْخَطُّ حَافِظًا لَهُ وَمُعَبِّرًا عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4] قَالَ: (يَعْنِي الْخَطَّ). وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] (يَعْنِي الْخَطَّ) [وفي قوله تعالى] {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] (يَعْنِي الْخَطَّ). وَالْعَرَبُ تَقُولُ: (الْخَطُّ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ، وَحُسْنُهُ أَحَدُ الْفَصَاحَتَيْنِ). وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى: (الْخَطُّ سَمْطُ الْحِكْمَةِ بِهِ يُفْصَلُ شُذُورُهَا، وَيُنَظَّمُ مَنْثُورُهَا). وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: (اللِّسَانُ مَقْصُورٌ عَلَى الْقَرِيبِ الْحَاضِرِ وَالْقَلَمُ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ وَهُوَ لِلْغَابِرِ الْكَائِنِ مِثْلُهُ لِلْقَائِمِ الدَّائِمِ). وَقَالَ حَكِيمُ الرُّومِ: (الْخَطُّ هَنْدَسَةٌ رُوحَانِيَّةٌ، وَإِنْ ظَهَرَتْ بِآلَةٍ جُسْمَانِيَّةٍ). وَقَالَ حَكِيمُ الْعَرَبِ: (الْخَطُّ أَصْلٌ فِي الرُّوحِ وَإِنْ ظَهَرَ بِحَوَاسِّ الْجَسَدِ)... ".
انتهى هذا الفصل الرَّائع الماتع وأترك لكم التَّعليق بما يناسب.