الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وأشهد أنْ لا إلـٰه إلَّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله ؛ صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علمًا وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها . أمَّا بعد ؛ معاشر الكرام : بين أيدينا صيحة عظيمة وموعظة بليغة للإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى . كتبها وأملاها لطلاب العلم ناصحًا لهم نصيحة عالمٍ مربٍ مشفق رحمة الله عليه ، وقد كتبها أو أملاها وقت أن كان نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ، وجديرٌ بكل طالب علم أن يتأمل في هذه النصيحة تأمل المستفيد المنتفع المعتبر . قال رحمة الله عليه : الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وآله وصحبه ، أما بعد: فلا ريب أنَّ طلب العلم من أفضل القربات ومن أسباب الفوز بالجنة والكرامة لمن عمل به ، ومن أهم المهمات الإخلاص في طلبه؛ وذلك بأن يكون طلبه لله لا لغرضٍ آخر ، لأن ذلك هو سبيل الانتفاع به وسبب التوفيق لبلوغ المراتب العالية في الدنيا والآخرة ، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((من تعلَّم علماً مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة)) يعني ريحها ، أخرجه أبو داود بإسناد حسن . وأخرج الترمذي بإسنادٍ فيه ضعف عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من طلب العلم ليباهي به العلماء ، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار)) . فأوصي كل طالب علم وكل مسلم يطَّلع على هذه الكلمة بالإخلاص لله في جميع الأعمال عملًا بقول الله تعالى : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110]، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يقول الله عز وجل : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) . بدأ الشيخ رحمة الله عليه هذه الوصية ببيان مكانة العلم ومنزلته العلية ، وأن العلم أفضل القرب ، أفضل ما تقرب به متقرِّب إلى الله سبحانه وتعالى ، حتى إن بعض السلف قال : ما تقرب متقرب إلى الله بأفضل من طلب العلم؛ وما ذاك إلا لأن طلب العلم هو الذي تُعرف به القرب فرضها ونفلها ، لا يمكن أن يعرف المرء الفرائض ولا أن يعرف النوافل ولا يميز بين الحلال والحرام والسنَّة والبدعة والهدى والضلال إلا بالعلم ، فالعلم هو أساس القرب ولا يمكن أن تُعرف القرب إلا بالعلم ؛ ولهذا كان للعلم المكانة العلية في دين الله سبحانه وتعالى ، ولهذا أيضا كان العلم ضياءً لصاحبه ونورًا في الظلمات . فطلب العلم من أفضل القرب ، ومن أسباب الفوز بالجنة والكرامة لمن عمل به ؛ العلم سبب الفوز بالجنة لأن الجنة إنما تُنال بعد رحمة الله سبحانه وتعالى بالعمل الصالح {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:32] ، والعمل الصالح لابد فيه من العلم ، والعلم لا يُنتفع به بمجرد طلبه لابد أن يُطلب ليُعمل به ، ولا يمكن أن يكون المرء من أهل العلم إلا إذا عمل بالعلم ، أما بدون العمل به فإن علمه حجة عليه لا له ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في القرآن : ((وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)) ، فالقرآن حجة لك أو عليك ؛ حجة لك إن عملت به ، وحجة عليك إن لم تعمل به ، من حفظ القرآن مجرد حفظه للقرآن لا يكون من أهل القرآن ما لم يعمل بالقرآن ، ومن عمل بالقرآن وإن لم يتيسر له حفظ القرآن كاملًا هو من أهل القرآن لعمله بالقرآن ، فالعمدة على العمل ، والقرآن إنما أنزل ليُعمل به ، والعلم إنما جاء الحث عليه والترغيب فيه من أجل العمل ، فمقصود العلم العمل ؛ ولهذا ينبغي أن تكون همة طالب العلم في طلبه للعلم أن يعمل بهذا الذي يتعلمه ، ولهذا لما جاء وفد عبد القيس إلى النبي عليه الصلاة والسلام قالوا : «مُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ» أرادوا رضي الله عنهم أي : نعمل به فنفوز بجنات النعيم ، ومفتاح العمل الصالح العلم النافع ولهذا يُبدأ به {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ }[محمد:19] بدأ بالعلم قبل القول والعمل ، لأن العلم هو أساس الذي يُبنى عليه القول ويُبنى عليه العمل . الحاصل أن الشيخ رحمة الله عليه بدأ هذه الوصية ببيان مكانة العلم وفضله ومنزلته العلية ، ثم حث على الإخلاص في طلب العلم ، وأن الواجب على كل من وفَّقه الله سبحانه وتعالى لطلب العلم أن ينوي بطلبه وجه الله وأن يريد به وجه الله سبحانه وتعالى . والعلم شأنه شأن سائر الأعمال ؛ نية المرء فيها قد يدخلها ما يدخلها، قد يطلب العلم رياءً ، قد يطلبه سمعةً ، قد يطلبه من أجل الشهرة ، قد يطلبه لأغراض كثيرة جدا ، ولا يكون من عمله الصالح إلا إذا قصد به وجه الله ، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من المرء أعماله وقرباته ومنها طلبه للعلم إلا إذا قصد به وجه الله ؛ فالإخلاص في العمل أساس لقبول العمل . لو أن شخصًا اعتنى بطلب العلم عناية كبيرة حفظ متونًا كثيرة ولازم دروسًا كثيرة وجالس علماء كثيرون وحصَّل علمًا كثيرًا ولكن نيته في ذلك ليست صالحة ، إذا وقف أمام الله لا يجد هذه الجهود كلها في صالح عمله ، لأن الله لا يقبل إلا الخالص ، لا يقبل إلا الصافي النقي الذي أريد دبه وجه الله سبحانه وتعالى الذي قُصد به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى . ولهذا من أهم المهمات التي ينبغي على طالب العلم أن يُعنى بها عناية مستمرة أن يخلص النية في طلب العلم ، وليعْلم أنه سيهاجمه الرياء والسمعة والأغراض الأخرى ، ستهاجمه بين وقت أو آخر ، ولهذا المعالجة للنية ليست في يوم واحد ولا في يومين ، المعالجة للنية مسألة مستمرة في حياتك كلها ، مثل ما قال سفيان الثوري رحمة الله عليه: «ما عالجتُ شيئًا أشد علي من نيتي»، ولما ذُكرت الني عند الإمام أحمد قال «هذا الخناق»؛ هذا الأمر الصعب الذي يحتاج إلى علاج دائم ومستمر حتى تسْلم نية المرء له . ولهذا من أهم ما ينبغي أن يعتني به طالب العلم إصلاح نيته وليحذر أن يكون طلبه للعلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه من أجل أن يشار إليه بأن يقال فلان العالم الفلاني الداعية الفلاني الخطيب الفلاني ؛ هذه كلها ما ينفعه عند الله إذا كان غرضه في طلبه للعلم وفي دعوته مثل هذه الأشياء لا تدخل في صالح عمله إلا إذا أخلص ذلك لله عز وجل . وأورد رحمه الله هذا الحديث القدسي العظيم الذي يقول الله عز وجل فيه : ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)) أي ردَّ عليه عمله ولم يقبله منه . ثم بعد ذلك انتقل رحمه الله إلى وصية أخرى ، بعد أن أوصى بالإخلاص وحث عليه وبيَّن مكانته العظيمة من دين الله انتقل إلى وصية أخرى قال : كما أوصى كل طالب علم وكل مسلم بخشية الله سبحانه ومراقبته في جميع الأمور عملاً بقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}[الملك:12] ، وقوله سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46] ، قال بعض السلف: «رأس العلم خشية الله»، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كفى بخشية الله علمًا ، وكفى بالاغترار به جهلاً»، وقال بعض السلف رضي الله عنهم : «من كان بالله أعرف كان منه أخوف» ، ويدل على صحة هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له)) ، لأنه عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بالله ؛ فكلما قوي علم العبد بالله كان ذلك سببًا لكمال تقواه وإخلاصه ووقوفه عند الحدود وحذره من المعاصي ، ولهذا قال الله سبحانه : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}[فاطر:28] ، فالعلماء بالله وبدينه هم أخشى الناس لله وأتقاهم له وأقومهم بدينه وعلى رأسهم الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين ثم أتباعهم بإحسان. هذه وصية عظيمة من الشيخ رحمة الله عليه بخشية الله ومراقبته في السر والعلانية ، وهذه الخشية مثل ما نبَّه رحمة الله عليه هي فرعٌ عن العلم بالله والمعرفة بأسمائه وصفاته ، وأن العبد كلما ازداد علمًا بالله وعظمته وجلاله وكماله واطلاعه وأنه السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية ، المطلع على العباد ، المطَّلع على ما في الصدور ، العليم بالعباد وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم لا تخفى عليه منهم خافية ؛ هذا العلم وهذه المعرفة كلما ازدادت عند العبد زاد خشية لله ؛ إذ إن هذا العلم بالله هو الذي يولِّد الخشية ، ولهذا قال الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ، جاء عن ابن عباس قال : «العلماء بأن الله على كل شيء قدير»؛ العلم بأن الله على كل شيء قدير عند كل مسلم هذا العلم أن الله على كل شيء قدير ، لكن العلم التفصيلي بأن الله على كل شيء قدير واستحضار قدرة الله وأن الله لا يعجزه شيء وقوة الإيمان بذلك هذا يتفاوت فيه الناس تفاوتًا عظيما ، ولأهل العلم من ذلك النصيب الأوفر ؛ فكلما ازداد العبد علمًا بالله وبأسمائه وعظمته وجلاله وكمال صفاته سبحانه وتعالى ازداد خشيةً لله ، ورأس العلم خشية الله سبحانه وتعالى ، وإذا كان المرء -والعياذ بالله- مستكثرًا من العلم وليس عنده خشية لله هذا من علامات عدم انتفاعه بالعلم وأنه لا حظ له من هذا العلم الذي حصَّله ، لأن رأس العلم خشية الله سبحانه وتعالى . ونقل رحمة الله عليه عن بعض السلف أنه قال : من كان بالله أعرف كان منه أخوف؛ قال : [وقال بعض السلف رضي الله عنهم : «من كان بالله أعرف كان منه أخوف»] . وهذه الكلمة رواها المروَزي في كتابه تعظيم الصلاة ، وأذكر قديمًا بحثتُ عنها كثيرًا في كتب السلف المسندة فلم أعثر عليها في شيء منها إلا في كتاب «تعظيم قدر الصلاة» للإمام المروزي رحمه الله عن عبد الله بن أحمد الأنطاكي وهي كلمة عظيمة جدًا . «من كان بالله أعرف كان منه أخوف» بمعنى أن المعرفة بالله وبأسمائه وبصفاته كلما زادت في العبد زاد خوفه من الله ، والإمام ابن القيم له في بعض كتبه كلمة شبيهة بهذه وهي أوسع منها يقول : «من كان بالله أعرف كان منه أخوف ولعبادته أطلب وعن معصيته أبعد» أو كلامًا نحو هذا ، ومن كان بالله أعرف أثمرت فيه هذه المعرفة وأثَّرت فيه خوفًا من الله ومراقبة لله وإقبالًا على طاعة الله ومجانبةً للمعاصي والذنوب ، كم من مواقف ومواقف حصلت لأناس لم يحجزه عن المعصية إلا خوف الله ، لا يطلع عليه أحد من الناس لكن لم يحجزه عن المعصية إلا خوفه من الله سبحانه وتعالى ، ولهذا الشيخ الشنقيطي رحمة الله عليه في كتابه التفسير قال : «أجمع العلماء أن أعظم واعظ وأكبر وزاجر أن تعلم أن الله يراك» ، وإذا انعدم والعياذ بالله هذا الزاجر من القلب ما يبالي ، تجد كثير من الناس يستخفي بذنوبه من الناس ولا يستخفي من الله ، ويستحيي من الناس ولا يستحي من الله { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ }[النساء:108] . ولهذا ينبغي على طالب العلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى وأن يعمل على أن يكون من أهل الخشية في الغيب والشهادة ، وزماننا هذا زمن فتن وجاءت أمور أثَّرت حتى على طلبة العلم وأثرت حتى على خشيتهم لله سبحانه وتعالى ، زماننا هذا زمن فيه فتن كثيرة جدًا والأجهزة هذه جرَّت شرور على كثير من الناس بما فيها من مواقع وما فيها من شبهات وما فيها من شهوات ، وتجد ما يُعرف الآن بالخلوة العصرية ؛ ما كان لها وجود في زمن سابق ، الخلوة مع المعاصي يجلس في الغرفة ويغلق الباب ويفتح على مواقع موبوءة قذرة ، مادام أنه اطمأن أن الباب مغلق وأنه لا أحد من الناس يراه يدخل وينظر ولا يبالي . أحد الأشخاص يحدِّث عن نفسه انه كان على هذه الحال وينظر إلى فسمع حركة عند الباب ففزع وخاف وأغلق الجهاز وراح وفتح الباب وإذا بقطة عند الباب تحركت فارتبك ! ورب العالمين يراه .
إذا خلوت الده يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه .
تحميل التفريغ
تحميل الصوتية
تحميل التفريغ
تحميل الصوتية
تعليق