1 - من حرم الأصول حرم الوصول
يورد بعض أهل العلم هذه العبارة، للدلالة على أهمية أن يهتم طالب العلم بمعرفة أصول العلم، في كل باب؛
أصل الدين (العقيدة)
أصول التفسير.
أصول الفقه.
أصول علم الحديث.
أصول البلاغة.
أصول النحو.
أصول الصرف.
وكذا أصول الأبواب .
فإذا تعلم الطالب أصول الأبواب والعلم وصل إلى أن يكون عالماً بها !
ويبدو لي - والله اعلم - أن الأهم من ذلك أن يتعلم طالب العلم ما يحفظ له دينه وعلمه من الخسران والهلاك.
والعبرة بعلماء بني إسرائيل!
فقد تجد من يحسن الكلام في أصول العلوم والأبواب، وهو معدود من أهل الضلال والفسق!
فليس المقصود أن يتعلم طالب العلم أصول الأبواب والعلوم؛ لأن المفترض أن الكلام مع طالب علم يطلب هذه العلوم ويتعلمها.
إنما المقصود : أن يؤصل طالب العلم نفسه بأصول الدين التي تسلمه من الهلاك والضلال، وتحفظ له دينه وعلمه. وهذا المعنى هو الجدير بقولهم : (من حرم الأصول حرم الوصول)!
2 - طالب العلم معرض في طريقه للمكاره والغواية؛
أ. المكاره !
لمّا كان طريق العلم هو الصراط المستقيم المؤدي إلى الجنة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (يونس2:5).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ"( ).
ولما كانت الجنة محفوفة بالمكاره، لما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ"( ).
والمكاره التي حجبت الجنة مقابل الشهوات التي حجبت النار. فالمكاره ما تركه النفس من ترك شهواتها!
فلما كان العلم طريقاً يلتمس به سالكه الجنة.
ولما كانت الجنة محفوفة بالمكاره.
فإن طريق العلم محفوف بالمكاره.
وهذا أول أمر يتعرض له طالب العلم؛
يتعرض لأمور تشق على نفسه ؛
كالاستيقاظ والمتابعة وترك راحة الجسد، فإن العلم لا ينال براحة الجسد.
وتحمل مشقة الرحلة لطلب العلم إذا احتاج إلى ذلك وتمكن منه.
وتحمل مشقة الفهم لما قد يعسر فهمه عليه.
وصرف المال في شراء الكتب، وصنع المكتبة العلمية التي يحتاجها.
والأخذ عن من هو دونه في السيادة، ولذلك في الأثر : "تعلموا قبل أن تسودوا".
إلى غير ذلك من المشاق .
ب. الغواية .
تعهد الشيطان أعوذ بالله منه، بغواية بني آدم عن الصراط المستقيم؛
قال تبارك وتعالى: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الأعراف:16).
﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الحجر:39).
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (سورة ص:82-83).
والعلم الشرعي هو طريق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام:153) .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾"( ).
فبما أن طريق العلم الشرعي اتباع ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الصراط المستقيم.
وبما أن الشيطان تعهد ليقعدن لهم على الصراط المستقيم
فإذا طالب العلم معرض لغواية الشيطان له لقطع طريقه على الصراط المستقيم، فلا يمكنه الوصول إلى الجنة.
وطرق غواية الشيطان لطالب العلم عجيبة!
فإنه يعلم أن طالب العلم لا ينفع معه فتح باب الشهوات، فلا يستطيع بإذن الله إغوائه بالنساء أو بالمأكولات أو بالمال أو بغيرها، فيفتح له أبواباً من الخير ليوقعه في باب من الشر!
قال ابن قيم الجوزية (ت749هـ) رحمه الله: "أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل!"اهـ( ).
فإذا اشغل طالب العلم عمره كله في علوم الآلة دون علم الغاية فقد غوى!
إذا اشغل طالب العلم نفسه بتحصيل المستحبات وترك الواجبات فقد غوى!
إذا اشتغل طالب العلم بتحصيل الأقوال الشاذة والمخالفة وغرائب العلم دون ما عليه العامة وأهل العلم فقد غوى!
إذا اشتغل طالب العلم بالتنقل من علم إلى علم دون أن يتم العلم فقد غوى!
إذا اعتد طالب العلم بنفسه ورأى نفسه على أهل العلم الذين هم فوقه فقد غوى!
إذا صار هم طالب العلم الاشتغال بباب من العلم لا يعود بالنفع عليه في طريق توصله إلى الجنة، فقد غوى!
وهكذا تتعدد أسباب الغواية!
3 - من الذي ينجو من الغواية والمكاره ويصل إلى دار السلام؟
والبشرى هنا؛ أن الذي ينجو من ذلك عباد الله المخلصين؛
قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ* قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الحجر : 39-43).
وقال تعالى: ﴿قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا* وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا* إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾ (الإسراء:63-65).
وقال تعالى: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ* قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ* قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (سورة ص: 77 - 83).
فعباد الله (المخلصين) هم الذين ينجون من غواية الشيطان، ويسلكون طريق العلم فيصلون إلى دار السلام
قال تعالى: ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (يونس:25) .
فهؤلاء نجو من الخسران والهلاك ووصلوا إلى دار السلام!
4 - ما أوصافهم التي نجو بها من الهلاك والخسران؟
بين الله سبحانه وتعالى ذلك فقال تبارك وتعالى:
﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (سورة العصر:1-3) .
هذه السورة بينت أن الإنسان في خسران وهلاك، ولن ينجو من ذلك أحد إلا من كان موصوفاً بهذه الصفات، وهي التالية:
الصفة الأولى : تحقيق الإيمان، ﴿الذين آمنوا﴾ .
الصفة الثانية : القيام بالعمل الصالح، ﴿وعملوا الصالحات﴾.
الصفة الثالثة : الدعوة إلى الحق والتعليم، ﴿وتواصوا بالحق﴾.
الصفة الرابعة : الصبر ، ﴿وتواصوا بالصبر﴾!
فمن حقق هذه الأوصاف فإنه ينجو من الهلاك والخسران ، ويهديه الله إلى الصراط المستقيم، ويصل دار السلام .
5 - الصفة الأولى لتأصيل طالب العلم نفسه .
مذكورة في قوله تعالى: ﴿الذين آمنوا﴾، ومعناها : الذين حققوا الإيمان، وإنما يكون ذلك بأصلين وهما:
الأصل الأول : تحقيق الإخلاص .
الأصل الثاني : تحقيق المتابعة.
وهما في شهادة التوحيد؛
أشهد أن لا إله إلا الله (هذا الإخلاص) .
وأشهد أن محمداً رسول الله (هذا المتابعة).
أمّا الإخلاص فإن طالب العلم لا بد له من أن يتابع نفسه في الإخلاص، حتى لا يقع في براثن سوء النية؛
فهو يحتاجه في أول الطلب .
ويحتاجه في أثنائه.
ويحتاجه في آخر حاله.
والمهم هنا أن تنتبه يا طالب العلم إلى أن الإخلاص شرط تتابعي ، تحتاج أن تتابع نفسك فيه كل وقت.
ولابد أن تنتبه إلى أن لا تترك طلب العلم بحجة أنك لم تحقق الإخلاص فيه؛ لأنك مطالب بأمرين :
- طلب العلم الشرعي .
- وتصحيح النية فيه لتحقق الإخلاص!
وعدم تصحيح النية لا يلزم منه ترك طلب العلم، إنما أطلب العلم، واستمر في محاولة تصحيح النية. وإلا تكون قد وقعت في غواية الشيطان بصرفك عن طلب العلم!
قَالَ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ: لَقَدْ طَلَبْنَا الْعِلْمَ وَمَا لَنَا فِيهِ تِلْكَ النِّيَّةُ ثُمَّ رَزَقَ اللَّهُ فِيهِ بَعْدُ قَالَ مِنْدَلٌ: يَقُولُ: رَزَقَ اللَّهُ بَعْدُ الْبَصَرَ، يَقُولُ: كُنَّا أَحْدَاثًا"( ).
وقَالَ عَوْنُ بنُ عُمَارَةَ: سَمِعْتُ هِشَاماً الدَّسْتُوَائِيَّ يَقُوْلُ: وَاللهِ مَا أَسْتَطِيْعُ أَنْ أَقُوْلَ: إِنِّي ذَهَبتُ يَوْماً قَطُّ أَطْلُبُ الحَدِيْثَ, أُرِيْدُ بِهِ وَجْهَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ"( ).
فاستمر في طلبك للعلم، وتابع تصحيح النية، و لا تترك الطلب!
قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ (البينة: 5).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى". والله الموفق.
وأما المتابعة ، فالمقصود بها اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بما جاء به على الوجه الذي عمله به صلى الله عليه وسلم!
ولا تتحقق متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بثلاثة أمور :
الأمر الأول : اتباع الدليل.
الأمر الثاني : الأخذ عن العلماء المعتبرين.
الأمر الثالث : الحذر من البدع وأهلها .
أما اتباع الدليل ؛ فإن الأدلة الشرعية المتفق عليها هي :
القرآن العظيم .
والسنة النبوية .
والإجماع الصحيح .
والقياس الصحيح.
وجاء عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه : "العلم آية محكمة أو سنة متبعة، أو فريضة عادلة".
وتعبيره بـ (آية محكمة) ينبه به على أنه ليس كل من استدل بآية صح استدلاله حتى تكون الآية محكمة، فقد ذكر الله الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
فالآيات المتشابهات لا دليل فيها عند الراسخين في العلم، لأن العمل إنما يكون بردها على الآيات المحكمات التي هي أم الكتاب!
وتعبيره بـ (سنة متبعة) فيه تنبيه إلى أن الأحاديث التي لم يجر عليها العمل فليست بسنة متبعة! ومن ذلك المنسوخ والعام المخصوص في محل التخصيص، والمطلق المقيد في محل التقييد، فإنه لا ينبغي العمل بالسنة المنسوخة، و لا بالسنة العامة في محل التخصيص، ولا في محل التقييد!
وطالب العلم عليه أن يتحرى العمل بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه ويسلم على الوجه الذي عمل به الرسول عليه الصلاة والسلام.
وبدون ذلك لا يحقق طالب العلم المتابعة ، في اتباع الدليل!
أما الرجوع إلى أهل العلم المعتبرين؛ فالمراد الرجوع إلى الصحابة ومن سار على نهجهم من بعدهم : أئمة السنة.
وهذا يدل عليه ما جاء في حديث الافتراق فان الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الفرقة الناجية والطائفة المنصورة بأنها الجماعة وفي رواية بأنها التي على مثل ما هو عليه وأصحابه.
عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام [خطيبا] فقال: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا [خطيبا] فقال: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة, وإن هذه الملة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين ثنتان وسبعون فِي النار وواحدة فِي الجنة, وهي الجماعة"( ).
وأخرج الترمذي( ) عن عبد الله بن عمر قال صلى الله عليه وسلم : "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم فِي النار إلا واحدة -إلا ملة واحدة- قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي".
وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا علبها بالنواجذ"( ).
وجاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: "اتَّبِعُوا وَلا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ"( ).
قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ وَالتَّبَدُّعَ وَالتَّنَطُّعَ وَعَلَيْكُمْ بِالأَمْرِ الْعَتِيقِ"( ).
ولا يحقق المسلم المتابعة الا بلزوم ما كان عليه السلف الصالح وهذا هو سبيل المؤمنين.قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ (النساء: 115).
أما الحذر من البدع وأهلها؛ فان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"( ).
فلا يحقق طالب العلم المتابعة إلا بترك البدع وأهلها والحذر منهم .
وبهذه الأمور :
- اتباع الدليل.
- الرجوع للعلماء المعتبرين.
- الحذر من البدعة وأهلها؛
يحقق طالب العلم المتابعة .
وبالمتابعة مع الإخلاص يحقق وصف الإيمان، وهي الصفة الأولة من صفات عباد الله المخلصين، وبالله الموفق
6 - الصفة الثانية ليؤصل طالب العلم نفسه ، مذكورة في قوله تعالى: ﴿وعملوا الصالحات﴾، وهي إقامة العمل الصالح!
والعمل الصالح ركن في الإيمان وهو ثمرته.
وطالب العلم لابد أن يعمل بما عمل .
وجاء في الأثر : " هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل".
وفي الأثر: "من علم بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم".
فالعمل الصالح ينجي صاحبه من صفة الخسران والهلاك .
وطالب العلم يعلم أن العلم الذي يتعلمه هو أولى الناس بتطبيقه والقيام به.
أيها الرجل المعلم غيره * هلا لنفسك كان ذا التعليم.
وليس المراد أي عمل وإنما المراد العمل الصالح وهو الذي اخلص فيه صاحبه وتابع فيه رسوله صلى الله عليه وسلم.
7 - الصفة الثالثة التي يؤصل بها طالب العام نفسه ، مذكورة في قوله تعالى: ﴿وتواصوا بالحق﴾.
التواصي بالحق بالدعوة والتعليم ؛
فيعلم الناس ويدعوهم إلى العمل الصالح واتباع السنة ومنهج السلف الصالح .
وتعليم العلم والدعوة إليه من انفع الطرق في تثبيته في النفس مع العمل به.
ومقتضى هذه الصفة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي صفة خيرية هذه الأمة.
قال تبارك وتعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران:110).
ولا يزال الناس بخير ما دام فيهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر!
8 - الصفة الرابعة التي يؤصل بها طالب العلم نفسه، مذكورى في قوله تعالى: ﴿وتواصوا بالصبر﴾.
والصبر حبس النفس على طاعة الله أمام داعي الهوى والشهوة.
والصبر عبادة تكفل الله بالأجر فيها على غير حساب سائر الأعمال؛ فحساب الأجر في الأعمال الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، أما الصبر فالأجر فيه بغير هذا الحساب، قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (الزمر:10) .
ومن قام بالنصيحة والعمل الصالح فانه سيتعرض لأذى الناس.
وفي وصايا لقمان لابنه، لما أوصاه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أوصاه بالصبر، لأن من يتصدى لذلك سيتعرض لأذى الناس، وعلاج ذلك بالصبر؛ قال تبارك وتعالى: ﴿ يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ (لقمان:17) .
وفي الحديث قال أحمد ابن حنبل "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَحَجَّاجٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشَ وَقَالَ حَجَّاجٌ: عَنِ الْأَعْمَشِ يُحَدِّثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَأُرَاهُ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: حَجَّاجٌ قَالَ شُعْبَةُ: قَالَ سُلَيْمَانُ: وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ " قَالَ: حَجَّاجٌ: "خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ"( ).
9 – الختام :
بهذه الصفات الأربع يؤصل طالب العلم نفسه بإذن الله.
وإنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه.
جعلنا الله واياكم هداة مهتدين .
ولا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
منقول من صفحة الشيخ
يورد بعض أهل العلم هذه العبارة، للدلالة على أهمية أن يهتم طالب العلم بمعرفة أصول العلم، في كل باب؛
أصل الدين (العقيدة)
أصول التفسير.
أصول الفقه.
أصول علم الحديث.
أصول البلاغة.
أصول النحو.
أصول الصرف.
وكذا أصول الأبواب .
فإذا تعلم الطالب أصول الأبواب والعلم وصل إلى أن يكون عالماً بها !
ويبدو لي - والله اعلم - أن الأهم من ذلك أن يتعلم طالب العلم ما يحفظ له دينه وعلمه من الخسران والهلاك.
والعبرة بعلماء بني إسرائيل!
فقد تجد من يحسن الكلام في أصول العلوم والأبواب، وهو معدود من أهل الضلال والفسق!
فليس المقصود أن يتعلم طالب العلم أصول الأبواب والعلوم؛ لأن المفترض أن الكلام مع طالب علم يطلب هذه العلوم ويتعلمها.
إنما المقصود : أن يؤصل طالب العلم نفسه بأصول الدين التي تسلمه من الهلاك والضلال، وتحفظ له دينه وعلمه. وهذا المعنى هو الجدير بقولهم : (من حرم الأصول حرم الوصول)!
2 - طالب العلم معرض في طريقه للمكاره والغواية؛
أ. المكاره !
لمّا كان طريق العلم هو الصراط المستقيم المؤدي إلى الجنة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (يونس2:5).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ"( ).
ولما كانت الجنة محفوفة بالمكاره، لما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ"( ).
والمكاره التي حجبت الجنة مقابل الشهوات التي حجبت النار. فالمكاره ما تركه النفس من ترك شهواتها!
فلما كان العلم طريقاً يلتمس به سالكه الجنة.
ولما كانت الجنة محفوفة بالمكاره.
فإن طريق العلم محفوف بالمكاره.
وهذا أول أمر يتعرض له طالب العلم؛
يتعرض لأمور تشق على نفسه ؛
كالاستيقاظ والمتابعة وترك راحة الجسد، فإن العلم لا ينال براحة الجسد.
وتحمل مشقة الرحلة لطلب العلم إذا احتاج إلى ذلك وتمكن منه.
وتحمل مشقة الفهم لما قد يعسر فهمه عليه.
وصرف المال في شراء الكتب، وصنع المكتبة العلمية التي يحتاجها.
والأخذ عن من هو دونه في السيادة، ولذلك في الأثر : "تعلموا قبل أن تسودوا".
إلى غير ذلك من المشاق .
ب. الغواية .
تعهد الشيطان أعوذ بالله منه، بغواية بني آدم عن الصراط المستقيم؛
قال تبارك وتعالى: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الأعراف:16).
﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الحجر:39).
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (سورة ص:82-83).
والعلم الشرعي هو طريق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام:153) .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾"( ).
فبما أن طريق العلم الشرعي اتباع ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الصراط المستقيم.
وبما أن الشيطان تعهد ليقعدن لهم على الصراط المستقيم
فإذا طالب العلم معرض لغواية الشيطان له لقطع طريقه على الصراط المستقيم، فلا يمكنه الوصول إلى الجنة.
وطرق غواية الشيطان لطالب العلم عجيبة!
فإنه يعلم أن طالب العلم لا ينفع معه فتح باب الشهوات، فلا يستطيع بإذن الله إغوائه بالنساء أو بالمأكولات أو بالمال أو بغيرها، فيفتح له أبواباً من الخير ليوقعه في باب من الشر!
قال ابن قيم الجوزية (ت749هـ) رحمه الله: "أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل!"اهـ( ).
فإذا اشغل طالب العلم عمره كله في علوم الآلة دون علم الغاية فقد غوى!
إذا اشغل طالب العلم نفسه بتحصيل المستحبات وترك الواجبات فقد غوى!
إذا اشتغل طالب العلم بتحصيل الأقوال الشاذة والمخالفة وغرائب العلم دون ما عليه العامة وأهل العلم فقد غوى!
إذا اشتغل طالب العلم بالتنقل من علم إلى علم دون أن يتم العلم فقد غوى!
إذا اعتد طالب العلم بنفسه ورأى نفسه على أهل العلم الذين هم فوقه فقد غوى!
إذا صار هم طالب العلم الاشتغال بباب من العلم لا يعود بالنفع عليه في طريق توصله إلى الجنة، فقد غوى!
وهكذا تتعدد أسباب الغواية!
3 - من الذي ينجو من الغواية والمكاره ويصل إلى دار السلام؟
والبشرى هنا؛ أن الذي ينجو من ذلك عباد الله المخلصين؛
قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ* قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الحجر : 39-43).
وقال تعالى: ﴿قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا* وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا* إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾ (الإسراء:63-65).
وقال تعالى: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ* قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ* قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (سورة ص: 77 - 83).
فعباد الله (المخلصين) هم الذين ينجون من غواية الشيطان، ويسلكون طريق العلم فيصلون إلى دار السلام
قال تعالى: ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (يونس:25) .
فهؤلاء نجو من الخسران والهلاك ووصلوا إلى دار السلام!
4 - ما أوصافهم التي نجو بها من الهلاك والخسران؟
بين الله سبحانه وتعالى ذلك فقال تبارك وتعالى:
﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (سورة العصر:1-3) .
هذه السورة بينت أن الإنسان في خسران وهلاك، ولن ينجو من ذلك أحد إلا من كان موصوفاً بهذه الصفات، وهي التالية:
الصفة الأولى : تحقيق الإيمان، ﴿الذين آمنوا﴾ .
الصفة الثانية : القيام بالعمل الصالح، ﴿وعملوا الصالحات﴾.
الصفة الثالثة : الدعوة إلى الحق والتعليم، ﴿وتواصوا بالحق﴾.
الصفة الرابعة : الصبر ، ﴿وتواصوا بالصبر﴾!
فمن حقق هذه الأوصاف فإنه ينجو من الهلاك والخسران ، ويهديه الله إلى الصراط المستقيم، ويصل دار السلام .
5 - الصفة الأولى لتأصيل طالب العلم نفسه .
مذكورة في قوله تعالى: ﴿الذين آمنوا﴾، ومعناها : الذين حققوا الإيمان، وإنما يكون ذلك بأصلين وهما:
الأصل الأول : تحقيق الإخلاص .
الأصل الثاني : تحقيق المتابعة.
وهما في شهادة التوحيد؛
أشهد أن لا إله إلا الله (هذا الإخلاص) .
وأشهد أن محمداً رسول الله (هذا المتابعة).
أمّا الإخلاص فإن طالب العلم لا بد له من أن يتابع نفسه في الإخلاص، حتى لا يقع في براثن سوء النية؛
فهو يحتاجه في أول الطلب .
ويحتاجه في أثنائه.
ويحتاجه في آخر حاله.
والمهم هنا أن تنتبه يا طالب العلم إلى أن الإخلاص شرط تتابعي ، تحتاج أن تتابع نفسك فيه كل وقت.
ولابد أن تنتبه إلى أن لا تترك طلب العلم بحجة أنك لم تحقق الإخلاص فيه؛ لأنك مطالب بأمرين :
- طلب العلم الشرعي .
- وتصحيح النية فيه لتحقق الإخلاص!
وعدم تصحيح النية لا يلزم منه ترك طلب العلم، إنما أطلب العلم، واستمر في محاولة تصحيح النية. وإلا تكون قد وقعت في غواية الشيطان بصرفك عن طلب العلم!
قَالَ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ: لَقَدْ طَلَبْنَا الْعِلْمَ وَمَا لَنَا فِيهِ تِلْكَ النِّيَّةُ ثُمَّ رَزَقَ اللَّهُ فِيهِ بَعْدُ قَالَ مِنْدَلٌ: يَقُولُ: رَزَقَ اللَّهُ بَعْدُ الْبَصَرَ، يَقُولُ: كُنَّا أَحْدَاثًا"( ).
وقَالَ عَوْنُ بنُ عُمَارَةَ: سَمِعْتُ هِشَاماً الدَّسْتُوَائِيَّ يَقُوْلُ: وَاللهِ مَا أَسْتَطِيْعُ أَنْ أَقُوْلَ: إِنِّي ذَهَبتُ يَوْماً قَطُّ أَطْلُبُ الحَدِيْثَ, أُرِيْدُ بِهِ وَجْهَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ"( ).
فاستمر في طلبك للعلم، وتابع تصحيح النية، و لا تترك الطلب!
قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ (البينة: 5).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى". والله الموفق.
وأما المتابعة ، فالمقصود بها اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بما جاء به على الوجه الذي عمله به صلى الله عليه وسلم!
ولا تتحقق متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بثلاثة أمور :
الأمر الأول : اتباع الدليل.
الأمر الثاني : الأخذ عن العلماء المعتبرين.
الأمر الثالث : الحذر من البدع وأهلها .
أما اتباع الدليل ؛ فإن الأدلة الشرعية المتفق عليها هي :
القرآن العظيم .
والسنة النبوية .
والإجماع الصحيح .
والقياس الصحيح.
وجاء عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه : "العلم آية محكمة أو سنة متبعة، أو فريضة عادلة".
وتعبيره بـ (آية محكمة) ينبه به على أنه ليس كل من استدل بآية صح استدلاله حتى تكون الآية محكمة، فقد ذكر الله الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
فالآيات المتشابهات لا دليل فيها عند الراسخين في العلم، لأن العمل إنما يكون بردها على الآيات المحكمات التي هي أم الكتاب!
وتعبيره بـ (سنة متبعة) فيه تنبيه إلى أن الأحاديث التي لم يجر عليها العمل فليست بسنة متبعة! ومن ذلك المنسوخ والعام المخصوص في محل التخصيص، والمطلق المقيد في محل التقييد، فإنه لا ينبغي العمل بالسنة المنسوخة، و لا بالسنة العامة في محل التخصيص، ولا في محل التقييد!
وطالب العلم عليه أن يتحرى العمل بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه ويسلم على الوجه الذي عمل به الرسول عليه الصلاة والسلام.
وبدون ذلك لا يحقق طالب العلم المتابعة ، في اتباع الدليل!
أما الرجوع إلى أهل العلم المعتبرين؛ فالمراد الرجوع إلى الصحابة ومن سار على نهجهم من بعدهم : أئمة السنة.
وهذا يدل عليه ما جاء في حديث الافتراق فان الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الفرقة الناجية والطائفة المنصورة بأنها الجماعة وفي رواية بأنها التي على مثل ما هو عليه وأصحابه.
عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام [خطيبا] فقال: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا [خطيبا] فقال: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة, وإن هذه الملة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين ثنتان وسبعون فِي النار وواحدة فِي الجنة, وهي الجماعة"( ).
وأخرج الترمذي( ) عن عبد الله بن عمر قال صلى الله عليه وسلم : "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم فِي النار إلا واحدة -إلا ملة واحدة- قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي".
وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا علبها بالنواجذ"( ).
وجاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: "اتَّبِعُوا وَلا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ"( ).
قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ وَالتَّبَدُّعَ وَالتَّنَطُّعَ وَعَلَيْكُمْ بِالأَمْرِ الْعَتِيقِ"( ).
ولا يحقق المسلم المتابعة الا بلزوم ما كان عليه السلف الصالح وهذا هو سبيل المؤمنين.قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ (النساء: 115).
أما الحذر من البدع وأهلها؛ فان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"( ).
فلا يحقق طالب العلم المتابعة إلا بترك البدع وأهلها والحذر منهم .
وبهذه الأمور :
- اتباع الدليل.
- الرجوع للعلماء المعتبرين.
- الحذر من البدعة وأهلها؛
يحقق طالب العلم المتابعة .
وبالمتابعة مع الإخلاص يحقق وصف الإيمان، وهي الصفة الأولة من صفات عباد الله المخلصين، وبالله الموفق
6 - الصفة الثانية ليؤصل طالب العلم نفسه ، مذكورة في قوله تعالى: ﴿وعملوا الصالحات﴾، وهي إقامة العمل الصالح!
والعمل الصالح ركن في الإيمان وهو ثمرته.
وطالب العلم لابد أن يعمل بما عمل .
وجاء في الأثر : " هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل".
وفي الأثر: "من علم بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم".
فالعمل الصالح ينجي صاحبه من صفة الخسران والهلاك .
وطالب العلم يعلم أن العلم الذي يتعلمه هو أولى الناس بتطبيقه والقيام به.
أيها الرجل المعلم غيره * هلا لنفسك كان ذا التعليم.
وليس المراد أي عمل وإنما المراد العمل الصالح وهو الذي اخلص فيه صاحبه وتابع فيه رسوله صلى الله عليه وسلم.
7 - الصفة الثالثة التي يؤصل بها طالب العام نفسه ، مذكورة في قوله تعالى: ﴿وتواصوا بالحق﴾.
التواصي بالحق بالدعوة والتعليم ؛
فيعلم الناس ويدعوهم إلى العمل الصالح واتباع السنة ومنهج السلف الصالح .
وتعليم العلم والدعوة إليه من انفع الطرق في تثبيته في النفس مع العمل به.
ومقتضى هذه الصفة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي صفة خيرية هذه الأمة.
قال تبارك وتعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران:110).
ولا يزال الناس بخير ما دام فيهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر!
8 - الصفة الرابعة التي يؤصل بها طالب العلم نفسه، مذكورى في قوله تعالى: ﴿وتواصوا بالصبر﴾.
والصبر حبس النفس على طاعة الله أمام داعي الهوى والشهوة.
والصبر عبادة تكفل الله بالأجر فيها على غير حساب سائر الأعمال؛ فحساب الأجر في الأعمال الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، أما الصبر فالأجر فيه بغير هذا الحساب، قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (الزمر:10) .
ومن قام بالنصيحة والعمل الصالح فانه سيتعرض لأذى الناس.
وفي وصايا لقمان لابنه، لما أوصاه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أوصاه بالصبر، لأن من يتصدى لذلك سيتعرض لأذى الناس، وعلاج ذلك بالصبر؛ قال تبارك وتعالى: ﴿ يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ (لقمان:17) .
وفي الحديث قال أحمد ابن حنبل "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَحَجَّاجٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشَ وَقَالَ حَجَّاجٌ: عَنِ الْأَعْمَشِ يُحَدِّثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَأُرَاهُ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: حَجَّاجٌ قَالَ شُعْبَةُ: قَالَ سُلَيْمَانُ: وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ " قَالَ: حَجَّاجٌ: "خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ"( ).
9 – الختام :
بهذه الصفات الأربع يؤصل طالب العلم نفسه بإذن الله.
وإنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه.
جعلنا الله واياكم هداة مهتدين .
ولا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
منقول من صفحة الشيخ
تعليق