منهج شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في التأليف
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالَمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، فإنَّ الكتابةَ والتأليف عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ جوانبها كثيرة متعدِّدة، وهذه المحاضرة عن جانب منها، وهو منهجه ـ رحمه الله ـ في التأليف1، وقبل الدخول في الموضوع أذكر بين يديه لَمحات قصيرة عن الشيخ ـ رحمه الله ـ ودعوته.
- الأولى: الشيخ الإمام هو محمد بن عبد الوهاب ابن سليمان بن علي التميمي، وُلد في (1115هـ)،
وتوفي سنة (1206)، من قبيلة بني تميم الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّهم أشدُّ الناس على الدَّجَّال، أخرجه البخاري (2543)، وهو دالٌّ على استمرار بقاء هذه القبيلة حتى زمن الدجَّال، وأنَّهم أشدُّ الناس عليه، وكما كانت هذه القبيلة في آخر الزمان أشدَّ الناس على الدجَّال الأعظم، فإنَّ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأبناءه وأحفاده وتلاميذه وتلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم من أشدِّ الناس على الدجَّالين الذين ظهروا في أزمانهم من أهل الزيغ والضلال.
- الثانية: أنَّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ من الأئمَّة المجدِّدين الذين أظهر الله بهم الدِّين ونصر بهم الحقَّ في القرن الثاني عشر من الهجرة وما بعده، وهو نعمة من الله عزَّ وجلَّ، أنعم بها على الجزيرة العربية وغيرها، حيث قُضي في بلاد اليمامة وما تبعها من البلاد على مظاهر الشرك والبدع، وظهر فيها التوحيد، وقد كانت تلك البلاد قبل زمن الشيخ ـ رحمه الله ـ لا تختلف عن البلاد الأخرى، التي لا تزال مفتونة بأصحاب القبور ودعائهم وطلب الحاجات منهم، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين في هذه البلاد وغيرها أحسن جزاءٍ، وأثابه أتمَّ مثوبة.
- الثالثة: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ مبنيَّةٌ على اتِّباع الكتاب والسنَّة والسير على ما كان عليه سلف الأمَّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، ولَم يأت بشيء جديد يخالف ذلك، ولهذا فلا توصَف دعوته ومَن استفاد منها بالوهابية؛ لأنَّ النِّسَب إلى الأشخاص إنَّما تكون لِمَن أتى بشيء جديد، وهو لَم يأت بشيء جديد، وإنَّما يلمزهم بالوهابية بعض الذين لَم يُوفَّقوا لسلوك المسلك القويم والصراط المستقيم؛ تنفيراً من الاستفادة بهذه الدعوة المباركة، المبنيَّة على الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمَّة.
- الرابعة: ومن أعظم الآثار الحميدة لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ المبنيَّة على الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمَّة، قيام دولة على هذا الأساس، أول إمام فيها الإمام محمد بن سعود ـ رحمه الله ـ الذي ناصر الشيخ الإمام، وحكَّم شرعَ الله في ولايته، واستمرَّت الولاية في هذه الأسرة إلى عصرنا هذا، وقد مضى عليها ما يقرب من ثلاثة قرون، ومن المعلوم أنَّ استمرار هذا البقاء لهذه الدولة في تلك القرون سببُه القوي بتوفيق الله الاستفادة من هذه الدعوة المباركة المبنيَّة على تحكيم الشرع واتِّباع الكتاب والسنَّة، وهو السبب الأقوى لاستمرارها في المستقبل، ثبَّتها الله على هذا الحقِّ، وأعانها على القيام به على الوجه الذي يرضيه سبحانه وتعالى.
ومن محاسن الدولة السعودية الحاضرة اهتمامها بالمشتغلين بالعلم من أحفاد الشيخ الإمام وإسناد ولايات الإفتاء والقضاء والدعوة والإرشاد إليهم.
وقد نشأت دعوات حديثة لم تقم على منهج صحيح وطريقة سليمة، اشتدَّ حرصُ أصحابها على الظفر بولاية ولم يفرحوا بها، بخلاف هذه الدولة التي مكَّنها الله في الأرض لِمَا قامت عليه من الحقِّ والهدى، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}.
- الخامسة: أنَّ من الحاقدين على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ مَن يحمل بعض الأحاديث الواردة في الفتن التي فيها أنَّ نجداً فيها الزلازل والفتن، وأنَّ منها يطلع قرنُ الشيطان، من الحاقدين مَن يحملها على اليمامة، التي اشتهرت في الأزمان المتأخرة باسم نجد؛ لصدِّ الناس عن الاستفادة من هذه الدعوة المباركة، وما يزعمونه من ذلك الحمل باطل؛ لأنَّه قد جاء في بعض الأحاديث وفي كلام أهل العلم ما يبين أنَّ المراد بها العراق، وقد ذكر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ في تخريجه أحاديث فضائل الشام ودمشق للرَّبَعي (ص:9 ـ 10) وفي السلسلة الصحيحة (2246) طرقاً لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في ذلك، وفي بعضها ما يبيِّن المراد، وهو العراق، وقال في السلسلة الصحيحة:
"وإنَّما أفضتُ في تخريج هذا الحديث الصحيح وذكر طرُقه وبعض ألفاظه؛ لأنَّ بعض المبتدعة المحاربين للسنَّة والمنحرفين عن التوحيد يطعنون في الإمام محمد بن عبد الوهاب مجدد دعوة التوحيد في الجزيرة العربية، ويحملون الحديث عليه باعتباره من بلاد نجد المعروفة اليوم بهذا الاسم، وجهلوا أو تجاهلوا أنَّها ليست هي المقصودة بهذا الحديث، وإنَّما هي العراق كما دلَّ عليه أكثرُ طرق الحديث، وبذلك قال العلماء قديماً، كالإمام الخطابي وابن حجر العسقلاني وغيرهم، وجهلوا أيضاً أنَّ كون الرجل من بعض البلاد المذمومة لا يستلزم أنَّه هو مذموم أيضاً إذا كان صالحاً في نفسه، والعكس بالعكس، فكم في مكة والمدينة والشام من فاسق وفاجر، وفي العراق من عالِم وصالح، وما أحكمَ قول سلمان الفارسي لأبي الدرداء حينما دعاه أن يُهاجر من العراق إلى الشام: (أما بعد، فإنَّ الأرض المقدَّسة لا تُقدِّس احداً، وإنَّما يُقدِّسُ الإنسانَ عملُه").
وقال ابن حجر في الفتح (13/47) بعد أن نقل كلاماً للخطابي: "وقال غيرُه: كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر، فأخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الفتنة تكون من تلك الناحية، فكان كما أخبر ... وأوَّل الفتن كان من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وذلك مِمَّا يُحبُّه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة، وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجْدُه باديةَ العراق ونواحيها، وهي مشرق أهل المدينة، وأصل النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنَّه ما انخفض منها، وتهامة كلها من الغور، ومكة من تهامة".
وقال قبل ذلك في الفتح (6/352) عند شرح حديث: "رأس الكفر نحو المشرق": "وفي ذلك إشارة إلى شدَّة كفر المجوس؛ لأنَّ مملكة الفرس ومن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة، وكانوا في غاية القسوة والتجبر، حتى مزَّق مَلِكُهم كتاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه، واستمرَّت الفتن من قِبَل المشرق كما سيأتي بيانه واضحاً في الفتن".
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (2/34): "والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر، كما قال في الحديث الآخر: (رأسُ الكفر نحو المشرق)، وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين قال ذلك، ويكون حين يخرج الدجَّال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة ومثار الكفرَة الترك الغاشمة العاتية الشديدة البأس".
وقد مرَّ في كلام ابن حجر قريباً أنَّ ظهور البدع كان من تلك الجهة، أي جهة المشرق، ومن أمثلة ذلك أنَّ الخوارج والشيعة والقدرية والجهمية كان خروجهم من تلك الجهة، ومجيء التتار للقضاء على الخلافة العباسية وسقوط بغداد كان من المشرق، وفي آخر الزمان خروج الدجال من تلك الجهة، فإنَّه كما جاء في صحيح مسلم (2137) يخرج من خلة بين الشام والعراق، وفي صحيحه أيضاً (2944): "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة".
وكما أنَّ تلك الجهة منشأ كثير من البدع، ومنها ظهور كثير من الشرور، فإنَّ فيها كثيرين من أهل العلم الذين ردُّوا على المبتدعة، ومنها محدِّثون وفقهاء كبار، ومن هؤلاء أصحاب الكتب الستة: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، وأبو داود السجستاني، وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي، وابن ماجه القزويني، وقد ألَّف الشيخ محمد أشرف سندهو المتوفى سنة (1373هـ) رسالة أوضح فيها ما يتعلق بهذا الموضوع، سمَّاها: "أكمل البيان في شرح حديث نجد قرن الشيطان".
الأولويات في التأليف عند الشيخ الإمام
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ مبنيَّةٌ على كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان العقيدة السليمة المستمدَّة من هذين الينبوعَين الصافيين، ولهذا كانت الأولويات في التأليف عنده في بيان العقيدة، والعناية بمعاني كلام الله عزَّ وجلَّ، ومعرفة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان الأحكام الفقهية المستندة إلى النصوص الشرعية، وكان أولى اهتمامه وجلُّ عنايته في إيضاح توحيد العبادة الذي أُرسلَت الرسل وأُنزلت الكتبُ من أجله، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}، فألَّف في التوحيد كتباً عديدة، أهمها كتاب التوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد، وكتاب الأصول الثلاثة وأدلتها، وكتاب كشف الشبهات.
________________
1- محاضرة ألقيت ليلة الجمعة 21 ـ 1 ـ 1425هـ في جامع إمام الدعوة بالرياض التابع لوقف السلام الخيري.
تعليق