أين العِلْم؟!
بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبِه ومَن اتَّبع هداه
أمَّا بعد
جاء في ترجمة أبي وَهْبٍ زَاهدِ الأَنْدَلُسِ -رَحِمَهُ اللهُ- أنّ رَجُلًا قال له:
قُمْ بِنَا لزيَارَةِ فُلَان.
فقَالَ:
"وَأَيْنَ العِلْمُ؟! وَلِيُّ الأَمْرِ لَهُ طَاعَة، وَقَدْ مَنَعَ مِنَ المَشْيِ لَيلًا". اﻫ "سير أعلام النبلاء" (15/ 507، ط1، 1403ﻫ، مؤسسة الرسالة)، وذكره بأطول منه في "تاريخ الإسلام" فقال:
"قَالَ القاضي يونس: وأخبرني ثقة مِن إخواني، عَنْ رجلٍ كَانَ يَصْحبُه أنّه قَالَ: بِتُّ عنده فِي مسجدٍ كَانَ كثيرًا ما يأوي إِلَيْهِ بقرب حوانيتِ ابن نُصَيْر بقُرْطُبة. فلمّا كَانَ فِي الليل تذكَّر صديقًا لَهُ مِن الصالحين فقال: ودِدْتُ أن نكون معه اللّيلة. فقلت: وما يمنعنا مِن ذَٰلِك؟ ليست علينا كسْوةٌ نخاف عليها، إنما هي هٰذه الجُبيبات! فاخرُجْ بنا نحوَه. فقال لي:
وأين العلم؟! وهل لنا أن نمشي ليلًا ونحن نعلم أنّ الْإمَامَ الَّذِي ملَّكه اللهُ أمْرَ المسلمين فِي هٰذه البلدةِ قد مَنَع مِن المشي ليلًا، وطاعتُه لنا لازمةٌ؟! ففي هٰذا نَقْضٌ لِلطاعةِ وخروجٌ عمّا يَلزم جماعةَ المسلمين.
فعجْبتُ مِن فِقهه فِي ذَٰلِكَ" اﻫ مِن "تاريخ الإسلام" (7/ 812، ط دار الغرب الإسلامي، بواسطة الشاملة).
حقًّا هٰذا الذي ينبغي أن يُتعهَّد، بل يُتفَقَّد!
(أين العلم؟!)
وي كأنه مقصورٌ في الكتب، في الرفوف، في الحواسب الآليَّة، والجوالات، أجل إنها (ذكيَّة)!
أمّا الألسنة، والأسماع، والأبصار، والأفئدة...
(أين العلم؟!)
طالبةُ علم، لٰكنَّ جوَّالها تَجُول فيه صور ذوات الأرواح!
أين العلم؟! وأين ذيّاك الباب من أبواب كتاب التوحيد (ما جاء في المصوِّرين)؟!
طالبةُ علم، لٰكنها تؤيِّد الثورات وتشجِّع المظاهَرات!
أين العلم؟! وأين كتاب الفتن من "صحيح البخاري" وكتاب الإمارة من "صحيح مسلم"؟!
طالبةُ علم، لٰكنها تأخذ العلمَ عمّن هَبَّ ودَبَّ!
أين العلم؟! وأين الأصل الرابع من "الأصول الستة"؟!
"لا عُذْرَ لِلشَّجَرِ الذي طابتْ له * أعْــــــراقُهُ ألَّا يَطِيبَ جَنَــــــــــــاهُ"[1]
وليست نفْسُ مَن تَرْقُم بِخِلْوٍ مِن صدىٰ: (أين العلم؟!)؛ فهي أَولىٰ بالملامة، هداها اللهُ وجَعلها بقصد الخير لوَّامة، وإلىٰ (المطمئنة) ساعيةً مِقدامة.
(أين العلم)؟! سؤالٌ مهِمّ؛ فمِن أعظم أسبابِ نجاةِ العبدِ دعاؤه اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بصدقٍ أن ينفعه بما علَّمه، وأن يرزقه علمًا ينفعه، وبهٰذا وصَّانا إمامُنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللّٰهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ»[2].
وهو مِن دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ: «اللّٰهمَّ!انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَارْزُقْنِي عِلْمًا تَنْفَعُنِي بِهِ»[3].
بل هو دعاءٌ جديرٌ بنا أن نسابق به شمسَ نهارِنا، كما روت أمُّ سلمة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ كان يقول بعد صلاة الفجر: «اللّٰهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا»[4].
وكلما كان العبد أحرص على هٰذا؛ اصطبغت حياتُه -حقًّا- بالعلم الذي يتعلّمه، إلىٰ أن يحلَّ به الحالُ التي يكون فيها أشدَّ حاجةً إلى الانتفاع بما تَعَلَّم إذا هو أشدُّ ما يكون ضعفًا، وذاك آنُ سكرات الموت!
فبهٰذا المقصد تسمو الهممُ لِلِانتفاع بـِ "تفسير الطبري" و"صحيح البخاري" و"كتاب التوحيد" و"ثلاثة الأصول" و"الواسطية"، وأخواتها مِن الكتب وشروحاتها التي جعلها الله عَزَّ وَجَلَّ أوتادًا لِأرضِ معايشِ أرواحِنا؛ أن تميد بنا الأهواءُ شبهاتٍ وشهواتٍ!
وسَخَّر -سبحانه- لهٰذه الراسياتِ حُرّاسًا ومَراقي؛ تحرس تيك العلومَ الأساطينَ مِن أن تمرُشَها -بله أن تَدكَّها- أيدي الشياطين، جِنًّا كانوا أو إنسًا، فهي أسبابٌ بها نرقىٰ أنياق الجبال، بل منّا -وهم ورَثةُ الأنبياء- مَن يعتلي الذُّرىٰ! وبهٰذا يَنتفع العبدُ بأصولِ الفقهِ، ومصطلحِ الحديثِ، والجرحِ والتعديل -وإن جرَّحه مَن لجَّ بالتعذيل!-، بل والتجويدِ -وإن أَباه أُناس وولَّوه آذانَ حديد!- والنحوِ والصرفِ، وغيرِها مما يُسمَّىٰ بعلومِ (الآلة)، وهو الذي أعنيه بالحُرَّاس والْمَراقي.
ثم أحوج أحوج ما يكون العبد إلى الانتفاع بما تعلَّم إذا صار في البرزخ، حينما «يأتيه مَلَكان فيُجلِسانه فيقولان له: مَن ربُّك؟ ما دينُك؟ مَن نبيُّك؟»[5]، إذ هٰذي ركائز: (أين العلم؟)، ولِأجْلها يتيقَّظ الفطِنُ حتىٰ في شأن زيارةٍ أو نزهةٍ، فيألَفَ تذكيرَ نفسِه ومَن يعاملهم: (أين العلم؟!)، ولا هَدْأَةَ له حتىٰ يَقِيلَ في عُقبىٰ مُوَفَّقِي الجواب! فاللّٰهمَّ! هبْ لنا مِن لدنك رحمة؛ إنكَ أنتَ الوهَّاب!
بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبِه ومَن اتَّبع هداه
أمَّا بعد
جاء في ترجمة أبي وَهْبٍ زَاهدِ الأَنْدَلُسِ -رَحِمَهُ اللهُ- أنّ رَجُلًا قال له:
قُمْ بِنَا لزيَارَةِ فُلَان.
فقَالَ:
"وَأَيْنَ العِلْمُ؟! وَلِيُّ الأَمْرِ لَهُ طَاعَة، وَقَدْ مَنَعَ مِنَ المَشْيِ لَيلًا". اﻫ "سير أعلام النبلاء" (15/ 507، ط1، 1403ﻫ، مؤسسة الرسالة)، وذكره بأطول منه في "تاريخ الإسلام" فقال:
"قَالَ القاضي يونس: وأخبرني ثقة مِن إخواني، عَنْ رجلٍ كَانَ يَصْحبُه أنّه قَالَ: بِتُّ عنده فِي مسجدٍ كَانَ كثيرًا ما يأوي إِلَيْهِ بقرب حوانيتِ ابن نُصَيْر بقُرْطُبة. فلمّا كَانَ فِي الليل تذكَّر صديقًا لَهُ مِن الصالحين فقال: ودِدْتُ أن نكون معه اللّيلة. فقلت: وما يمنعنا مِن ذَٰلِك؟ ليست علينا كسْوةٌ نخاف عليها، إنما هي هٰذه الجُبيبات! فاخرُجْ بنا نحوَه. فقال لي:
وأين العلم؟! وهل لنا أن نمشي ليلًا ونحن نعلم أنّ الْإمَامَ الَّذِي ملَّكه اللهُ أمْرَ المسلمين فِي هٰذه البلدةِ قد مَنَع مِن المشي ليلًا، وطاعتُه لنا لازمةٌ؟! ففي هٰذا نَقْضٌ لِلطاعةِ وخروجٌ عمّا يَلزم جماعةَ المسلمين.
فعجْبتُ مِن فِقهه فِي ذَٰلِكَ" اﻫ مِن "تاريخ الإسلام" (7/ 812، ط دار الغرب الإسلامي، بواسطة الشاملة).
حقًّا هٰذا الذي ينبغي أن يُتعهَّد، بل يُتفَقَّد!
(أين العلم؟!)
وي كأنه مقصورٌ في الكتب، في الرفوف، في الحواسب الآليَّة، والجوالات، أجل إنها (ذكيَّة)!
أمّا الألسنة، والأسماع، والأبصار، والأفئدة...
(أين العلم؟!)
طالبةُ علم، لٰكنَّ جوَّالها تَجُول فيه صور ذوات الأرواح!
أين العلم؟! وأين ذيّاك الباب من أبواب كتاب التوحيد (ما جاء في المصوِّرين)؟!
طالبةُ علم، لٰكنها تؤيِّد الثورات وتشجِّع المظاهَرات!
أين العلم؟! وأين كتاب الفتن من "صحيح البخاري" وكتاب الإمارة من "صحيح مسلم"؟!
طالبةُ علم، لٰكنها تأخذ العلمَ عمّن هَبَّ ودَبَّ!
أين العلم؟! وأين الأصل الرابع من "الأصول الستة"؟!
"لا عُذْرَ لِلشَّجَرِ الذي طابتْ له * أعْــــــراقُهُ ألَّا يَطِيبَ جَنَــــــــــــاهُ"[1]
وليست نفْسُ مَن تَرْقُم بِخِلْوٍ مِن صدىٰ: (أين العلم؟!)؛ فهي أَولىٰ بالملامة، هداها اللهُ وجَعلها بقصد الخير لوَّامة، وإلىٰ (المطمئنة) ساعيةً مِقدامة.
(أين العلم)؟! سؤالٌ مهِمّ؛ فمِن أعظم أسبابِ نجاةِ العبدِ دعاؤه اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بصدقٍ أن ينفعه بما علَّمه، وأن يرزقه علمًا ينفعه، وبهٰذا وصَّانا إمامُنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللّٰهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ»[2].
وهو مِن دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ: «اللّٰهمَّ!انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَارْزُقْنِي عِلْمًا تَنْفَعُنِي بِهِ»[3].
بل هو دعاءٌ جديرٌ بنا أن نسابق به شمسَ نهارِنا، كما روت أمُّ سلمة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ كان يقول بعد صلاة الفجر: «اللّٰهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا»[4].
وكلما كان العبد أحرص على هٰذا؛ اصطبغت حياتُه -حقًّا- بالعلم الذي يتعلّمه، إلىٰ أن يحلَّ به الحالُ التي يكون فيها أشدَّ حاجةً إلى الانتفاع بما تَعَلَّم إذا هو أشدُّ ما يكون ضعفًا، وذاك آنُ سكرات الموت!
فبهٰذا المقصد تسمو الهممُ لِلِانتفاع بـِ "تفسير الطبري" و"صحيح البخاري" و"كتاب التوحيد" و"ثلاثة الأصول" و"الواسطية"، وأخواتها مِن الكتب وشروحاتها التي جعلها الله عَزَّ وَجَلَّ أوتادًا لِأرضِ معايشِ أرواحِنا؛ أن تميد بنا الأهواءُ شبهاتٍ وشهواتٍ!
وسَخَّر -سبحانه- لهٰذه الراسياتِ حُرّاسًا ومَراقي؛ تحرس تيك العلومَ الأساطينَ مِن أن تمرُشَها -بله أن تَدكَّها- أيدي الشياطين، جِنًّا كانوا أو إنسًا، فهي أسبابٌ بها نرقىٰ أنياق الجبال، بل منّا -وهم ورَثةُ الأنبياء- مَن يعتلي الذُّرىٰ! وبهٰذا يَنتفع العبدُ بأصولِ الفقهِ، ومصطلحِ الحديثِ، والجرحِ والتعديل -وإن جرَّحه مَن لجَّ بالتعذيل!-، بل والتجويدِ -وإن أَباه أُناس وولَّوه آذانَ حديد!- والنحوِ والصرفِ، وغيرِها مما يُسمَّىٰ بعلومِ (الآلة)، وهو الذي أعنيه بالحُرَّاس والْمَراقي.
ثم أحوج أحوج ما يكون العبد إلى الانتفاع بما تعلَّم إذا صار في البرزخ، حينما «يأتيه مَلَكان فيُجلِسانه فيقولان له: مَن ربُّك؟ ما دينُك؟ مَن نبيُّك؟»[5]، إذ هٰذي ركائز: (أين العلم؟)، ولِأجْلها يتيقَّظ الفطِنُ حتىٰ في شأن زيارةٍ أو نزهةٍ، فيألَفَ تذكيرَ نفسِه ومَن يعاملهم: (أين العلم؟!)، ولا هَدْأَةَ له حتىٰ يَقِيلَ في عُقبىٰ مُوَفَّقِي الجواب! فاللّٰهمَّ! هبْ لنا مِن لدنك رحمة؛ إنكَ أنتَ الوهَّاب!
سكينة الألبانية
[1] - "ديوان البحتري" ص 2405.
[2] - رواه ابن ماجه وغيره، وحسّنه أبي رَحِمَهُ اللهُ؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1511).
[3] - رواه الحاكم في "المستدرك" وحسّنه أبي لغيره؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (3151).
[4] - رواه الطبراني في "الصغير" وصحَّح إسنادَه أبي، رَحِمَهُما اللهُ؛ "هداية الرواة" (3/ 35).
[5] - ينظر الحديث في "سنن أبي داود" (4753 )
[2] - رواه ابن ماجه وغيره، وحسّنه أبي رَحِمَهُ اللهُ؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1511).
[3] - رواه الحاكم في "المستدرك" وحسّنه أبي لغيره؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (3151).
[4] - رواه الطبراني في "الصغير" وصحَّح إسنادَه أبي، رَحِمَهُما اللهُ؛ "هداية الرواة" (3/ 35).
[5] - ينظر الحديث في "سنن أبي داود" (4753 )