..وَقد اخْتلف فِي تَفْضِيل مداد الْعلمَاء على دم الشُّهَدَاء وَعَكسه وَذكر لكل قَول وُجُوه من التراجيح والأدلة وَنَفس هَذَا النزاع دَلِيل على تَفْضِيل الْعلم ومرتبته فَإِن الْحَاكِم فِي هَذِه المسألة هُوَ الْعلم فِيهِ وإليه وَعِنْده يَقع التحاكم والتخاصم والمفضل مِنْهُمَا من حكم لَهُ بِالْفَضْلِ
فَإِن قيل فَكيف يقبل حكمه لنَفسِهِ قيل وَهَذَا أيضا دَلِيل على تفضيله وعلو مرتبته وشرفه فَإِن الْحَاكِم إِنَّمَا لم يسغْ أن يحكم لنَفسِهِ لأجل مَظَنَّة التُّهْمَة وَالْعلم تلْحقهُ تُهْمَة فِي حكمه لنَفسِهِ فَإِنَّهُ إِذا حكم حكم بِمَا تشهد الْعُقُول وَالنَّظَر بِصِحَّتِهِ وتتلقاه بِالْقبُولِ ويستحيل حكمه لتهمة فَإِنَّهُ إِذا حكم بهَا انْعَزل عَن مرتبته وانحط عَن دَرَجَته فَهُوَ الشَّاهِد الْمُزَكي الْعدْل وَالْحَاكِم الَّذِي لَا يجور وَلَا يعْزل
فَإِن قيل فَمَاذَا حكمه فِي هَذِه المسألة الَّتِي ذكرتموها قيل هَذِه المسألة كثر فِيهَا الْجِدَال واتسع المجال وأدلى كل مِنْهُمَا بحجته واستعلى بمرتبته وَالَّذِي يفصل النزاع وَيُعِيد المسألة إِلَى مواقع الاجماع الْكَلَام فِي أَنْوَاع مَرَاتِب الْكَمَال وَذكر الأفضل مِنْهُمَا وَالنَّظَر فِي أَي هذَيْن الأمرين أولى بِهِ وأقرب إليه فَهَذِهِ الأصول الثَّلَاثَة تبين الصَّوَاب وَيَقَع بهَا فصل الْخطاب فأما مَرَاتِب الْكَمَال فأربع النُّبُوَّة والصديقية وَالشَّهَادَة وَالْولَايَة وَقد ذكرهَا الله سُبْحَانَهُ فِي قَوْله وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنْعمْ الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أولئك رَفِيقًا ذَلِك الْفضل من الله وَكفى بِاللَّه عليما وَذكر تَعَالَى هَؤُلَاءِ الأربع فِي سُورَة الْحَدِيد فَذكر تَعَالَى الإيمان بِهِ وبرسوله ثمَّ ندب الْمُؤمنِينَ إلى أن تخشع قُلُوبهم لكتابه ووحيه ثمَّ ذكر مَرَاتِب الْخَلَائق شقيهم وسعيدهم فَقَالَ: ((إِن المصدقين والمصدقات واقرضوا الله قرضا حسنا يُضَاعف لَهُم وَلَهُم أجْرِ كريم وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله أولئك هم الصديقون والشهداء عند رَبهم لَهُم اجرهم ونورهم وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا اولئك اصحاب الْجَحِيم))
وَذكر الْمُنَافِقين قبل ذَلِك فاستوعبت هَذِه الآية أقسام الْعباد شقيهم وسعيدهم وَالْمَقْصُود أنه ذكر فِيهَا الْمَرَاتِب الأربعة الرسَالَة والصديقية وَالشَّهَادَة وَالْولَايَة فأعلى هَذِه الْمَرَاتِب النُّبُوَّة والرسالة ويليها الصديقية.
فالصديقون هم أَئِمَّة اتِّبَاع الرُّسُل ودرجتهم أعلى الدَّرَجَات بعد النُّبُوَّة فَإِن جرى قلم الْعَالم بالصديقية وسال مداده بهَا كَانَ أفضل من دم الشَّهِيد الَّذِي لم يحلقه فِي رُتْبَة الصديقية وإن سَالَ دم الشَّهِيد بالصديقية وقطر عَلَيْهَا كَانَ أفضل من مداد الْعَالم الَّذِي قصر عَنْهَا فأفضلهما صديقهما فإن اسْتَويَا فِي الصديقية اسْتَويَا فِي الْمرتبَة وَالله اعْلَم
والصديقية هِيَ كَمَال الإيمان بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول علما وَتَصْدِيقًا وقياما فَهِيَ رَاجِعَة إِلَى نفس الْعلم فَكل من كَانَ أعْلَم بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وأكمل تَصْدِيقًا لَهُ كَانَ أتم صديقية فالصديقية شَجَرَة أصولها الْعلم وفروعها التَّصْدِيق وثمرتها الْعَمَل فَهَذِهِ كَلِمَات جَامِعَة فِي مسألة الْعَالم والشهيد وأيهما أفضل..
تعليق