الإخلاص وأثره على طالب العلم
بقلم :
الشَّيخ خالد أوصيف
بقلم :
الشَّيخ خالد أوصيف
أفضل ما اكتسبته النُّفوس وحصَّلته القلوب ونال به العبدُ الرِّفعةَ في الدُّنيا والآخرة: العلم والإيمان (1)
ولذلك لا تحصل السَّعادة الدَّائمة إلاَّ بهما، كما قال تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِينَّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ النحل:97]
وطلب العلم عبادة: لذلك اشترط لقبوله ونفعه شرط الإخلاص، فإنْ فقد انتقل من أفضل العبادات إلى أحطِّ المخالفات، فالعلم لا يعدله شيء لمن صحَّت نيَّته وسلمت طويَّته (2) قال الثَّوري: " ما نعلم شيئًا أفضل من طلب العلم بنيَّته " (3)
وقعَّد الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، للإخلاص قاعدةً عظيمةً لَمَّا سُئل عن الرَّجل يُقاتل للمغنم والرَّجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله ؟
فقال : " من قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ في سَبيلِ اللهِ " (4)
فأجابهم بكلمة جامعةٍ مع الزِّيادة عليه، حتَّى شمل جميع صور العمل، فمن خلط نيَّة العمل لله بغيرها لم يقبل منه ، كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام في الحديث الآخر : " إنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ مِنْ العَمَلِ إلاَّ مَا كاَنَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بهِ وَجْهُهُ " (5)
كما ورد الوعيد فيمن طلب العلم لغير وجه الله على الخصوص في قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بهِ وَجْهُ اللهِ عزوجل لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ ليُصِيبَ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، يعني ريحها "
فمن طلب العلم ليجاريَ به العلماء ويماريَ به السُّفهاء ، وليصرف الأعين إليه : كان يوم القيامة من الثَّلاثةَ الَّذين تُسَجَّر بهم النَّار (7)
ولَمَّا كانت النِّيَّة شرودًا : كان واجبًا حينئذ على كلِّ مسلم أن يعالجها ويأطرها أطرًا ، وما أصعب استبقاء النِّيَّة سالمة من المقاصد الدُّنيويَّة ، قال الثَّوري : " ما علجت شيئًا أشدّ عليَّ من نيَّتي، إنَّها تنقلب عليَّ " (
وكيفية هذه التَّنقية بيَّنها الإمام أحمد لَمَّا سُئل كيف النِّيَّة ؟ فقال: " يعالج نفسه إذا أراد عملاً لا يريد به النَّاس " (9)
ولذلك لا تحصل السَّعادة الدَّائمة إلاَّ بهما، كما قال تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِينَّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ النحل:97]
وطلب العلم عبادة: لذلك اشترط لقبوله ونفعه شرط الإخلاص، فإنْ فقد انتقل من أفضل العبادات إلى أحطِّ المخالفات، فالعلم لا يعدله شيء لمن صحَّت نيَّته وسلمت طويَّته (2) قال الثَّوري: " ما نعلم شيئًا أفضل من طلب العلم بنيَّته " (3)
وقعَّد الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، للإخلاص قاعدةً عظيمةً لَمَّا سُئل عن الرَّجل يُقاتل للمغنم والرَّجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله ؟
فقال : " من قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ في سَبيلِ اللهِ " (4)
فأجابهم بكلمة جامعةٍ مع الزِّيادة عليه، حتَّى شمل جميع صور العمل، فمن خلط نيَّة العمل لله بغيرها لم يقبل منه ، كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام في الحديث الآخر : " إنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ مِنْ العَمَلِ إلاَّ مَا كاَنَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بهِ وَجْهُهُ " (5)
كما ورد الوعيد فيمن طلب العلم لغير وجه الله على الخصوص في قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بهِ وَجْهُ اللهِ عزوجل لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ ليُصِيبَ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، يعني ريحها "
فمن طلب العلم ليجاريَ به العلماء ويماريَ به السُّفهاء ، وليصرف الأعين إليه : كان يوم القيامة من الثَّلاثةَ الَّذين تُسَجَّر بهم النَّار (7)
ولَمَّا كانت النِّيَّة شرودًا : كان واجبًا حينئذ على كلِّ مسلم أن يعالجها ويأطرها أطرًا ، وما أصعب استبقاء النِّيَّة سالمة من المقاصد الدُّنيويَّة ، قال الثَّوري : " ما علجت شيئًا أشدّ عليَّ من نيَّتي، إنَّها تنقلب عليَّ " (
وكيفية هذه التَّنقية بيَّنها الإمام أحمد لَمَّا سُئل كيف النِّيَّة ؟ فقال: " يعالج نفسه إذا أراد عملاً لا يريد به النَّاس " (9)
وآثار الإخلاص على طالب العلم كثيرة أذكر منها :
1/ الخشية تورث العمل :
إنَّ أعظم ما يورثه العلم في قلب صاحبه بسبب الإخلاص الخشية من الله ، ومعنى هذا مرويٌّ عن ابن مسعود رضي الله عنه بألفاظ مختلفة منها : "كفى بخشية الله علمًا " (10) ، ويصدقه أن الله عزوجل جعل الخشية صفة يورثها العلم به فقال : ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ ﴾ [ فاطر :28]
فالخشية في قلب طالب العلم تحمله على الطَّاعة والعبادة، وإلاَّ فليتَّهم نيَّته
والَّذي يقلِّب ناظريه في كتاب الله يجد أنَّ العمل قرين العلم، حتَّى كان السَّلف لا يفصلون بينهما.
قال هَرمُ بن حبَّان رحمه الله : " إيَّاكم والعالم الفاسق ، فبلغ عمر ، فكتب إليه وأشفق منها ما العالم الفاسق ؟ فكتب إليه هرم ، والله ! يا أمير المؤمنين ! ما أردت إلاَّ الخير، يكون إمام يتكلَّم بالعلم ويعمل بالفسق ويشبه على النَّاس فيضلُّوا " (12)
قال الذهبيُّ معلقًا: " إنَّما أنكر عليه عمرُ، لأنَّهم لم يكونوا يعدُّون العالم إلاَّ من عمل بعلمه " (13)
وإذا جعل العبد غاية علمه العمل به ، كسره العلم وبلغ مراده إن شاء الله ، قال تعالى : ﴿ والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [ العنكبوت:69]
وقال إبراهيم النَّخعي رحمه الله : " من ابتغى شيئًا من العلم يبتغي به وجه الله أتاه منه ما يكفيه " (14)
وعلامة المخلص في طلب العلم أنَّه كلَّما ازداد عِلْمًا صفت نيَّتُه وسلمت من الكَدَر والزَّغَل ، حتَّى لا يبقى فيها حسيكة .
قال مجاهد رحمه الله: " طلبنا العلم وما لنا فيه كبير نيَّة، ثمَّ رزق الله بعد فيه النِّيَّة " (15)
وقال معمر رحمه الله : " كان يقال إنَّّّّّّّ الرَّجل ليطلب العلم لغير الله ، فيأبى عليه العلم حتَّى يكون لله " (16)
قال الذَّهبي معلِّقًا : " قلت : نَعْم ، يطلبه أوَّلاً ، والحامل له حبُّ العلم وحبُّ إزالة الجهل عنه وحبُّ الوظائف ونحو ذلك ، ولم يكن عَلِمَ وجوب الإخلاص فيه ، ولا صِدْق النِّيَّة، فإذا عَلِمَ حاسب نفسه ، وخاف من وَبَالِ قصده ، فتجيئه النِّيَّة الصَّادقة كلُّها أو بعضُها ، وقد يتوب من نيَّته الفاسدة ويندم " (17)
2/ هجر دعوى الإخلاص والإتقان :
إنَّ المخلص من طلاَّب العلم هو الَّذي يجتهد في طلبه على قدر الطَّاقة والوسع، ومع هذا لا ينظر إلى نفسه بعين الكمال، بل تراه يزدري نفسه ويهضمها ويتَّهمها بالتَّقصير.
قالت عائشة رضي الله عنها : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ﴿ وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَآءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون :60] هم الَّذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال : " لاَ يَا بنْتَ الصِّدِّيق ! وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَلاَّ يُقْبَلَ مِنْهُمْ " (1
فإذا رأى المشتغل بالعلم أنَّه بلغ منتهى الإتقان والإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص .
قال الوليد بن مسلم رحمه الله : " سالت الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وابن جريج : لمن طلبتم العلم ؟ كلُّهم يقول لنفسي غير ابن جريج فإنَّه قال : طلبته للنَّاس " (19)
قال الذَّهبي معلِّقًا: قلت: ما أحسن الصِّدق واليوم تسال الفقيه الغبيَّ: لمن طلبت العلم؟
فيبادر ويقول: طلبته لله، ويكذب، إنَّما طلبه للدُّنيا، ويا قلَّة ما عرف منه " (20)
وقيل لأحمد رحمه الله: هل طلبتم العلم لله ؟
قال: " أمَّا لله فعزيز، ولكن حُبِّب إليَّ شيء فجمعته " (21)
وقال هشام الدّستوائي رحمه الله : " والله ! ما أستطيع أن أقول : إنِّي ذهبت يومًا قطُّ أطلب الحديث أريد به وجه الله عزوجل " (22)
قال الذَّهبي معلِّقًا: " والله ! ولا أنا، فقد كان السَّلف يطلبون العلم لله فنبلوا وصاروا أئمَّة يُقتدى بهم " (23)
ورحم الله الذَّهبي : فإنَّه كان على سجيَّتهم يتَّهم نفسه بالتَّقصير مع الله أنَّه كان رأسًا في الحديث وعلومه حيث قال عن نفسه : " وجمع تواليف يقال مفيدة والجماعة يتفضَّلون ويثنون عليه ، وهو أخبر بنفسه وبنقصه في العلم والعمل ، والله المستعان ن ولا قوَّة إلاَّ بالله ، وإذا سلم لي إيماني فيا فوزي " (24)
3/ كراهية الحظوة والمحمدة :
قال ابن القيِّم رحمه لله: " لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبَّة المدح والثَّناء، والطَّمع فيما عند النَّاس إلاَّ كما يجتمع الماء والنَّار والضَّبّ والحوت " (25)
والإخلاص هو عكوف القلب على الله فلا يخرج بإرادته عن طلب مرضاته .
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: " ما صدق اللهَ عبدٌ أحبَّ الشُّهرة " (26)
وقال أيوب السختياني رحمه الله : " والله ! ما صدق عبد إلاَّ سرَّه أن لا يُشعر بمكانه " (27)
فطلب العلم للشُّهرة والحظوة والمحمدة يعدُّ من الأعواض الدُّنيويَّة والأغراض الدَّنيئة ، ولا شكَّ أنَّها وبال على صاحبها وصفقة خاسرة في الدُّنيا والآخرة ، قال تعالى : ﴿وَمَا لإِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابتِغَاءَ وَجْهَ رَبّهِ الأَعْلَى ﴾ [ سورة الليل ]
وقال حافظ الحكمي :
إنَّ أعظم ما يورثه العلم في قلب صاحبه بسبب الإخلاص الخشية من الله ، ومعنى هذا مرويٌّ عن ابن مسعود رضي الله عنه بألفاظ مختلفة منها : "كفى بخشية الله علمًا " (10) ، ويصدقه أن الله عزوجل جعل الخشية صفة يورثها العلم به فقال : ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ ﴾ [ فاطر :28]
فالخشية في قلب طالب العلم تحمله على الطَّاعة والعبادة، وإلاَّ فليتَّهم نيَّته
والَّذي يقلِّب ناظريه في كتاب الله يجد أنَّ العمل قرين العلم، حتَّى كان السَّلف لا يفصلون بينهما.
قال هَرمُ بن حبَّان رحمه الله : " إيَّاكم والعالم الفاسق ، فبلغ عمر ، فكتب إليه وأشفق منها ما العالم الفاسق ؟ فكتب إليه هرم ، والله ! يا أمير المؤمنين ! ما أردت إلاَّ الخير، يكون إمام يتكلَّم بالعلم ويعمل بالفسق ويشبه على النَّاس فيضلُّوا " (12)
قال الذهبيُّ معلقًا: " إنَّما أنكر عليه عمرُ، لأنَّهم لم يكونوا يعدُّون العالم إلاَّ من عمل بعلمه " (13)
وإذا جعل العبد غاية علمه العمل به ، كسره العلم وبلغ مراده إن شاء الله ، قال تعالى : ﴿ والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [ العنكبوت:69]
وقال إبراهيم النَّخعي رحمه الله : " من ابتغى شيئًا من العلم يبتغي به وجه الله أتاه منه ما يكفيه " (14)
وعلامة المخلص في طلب العلم أنَّه كلَّما ازداد عِلْمًا صفت نيَّتُه وسلمت من الكَدَر والزَّغَل ، حتَّى لا يبقى فيها حسيكة .
قال مجاهد رحمه الله: " طلبنا العلم وما لنا فيه كبير نيَّة، ثمَّ رزق الله بعد فيه النِّيَّة " (15)
وقال معمر رحمه الله : " كان يقال إنَّّّّّّّ الرَّجل ليطلب العلم لغير الله ، فيأبى عليه العلم حتَّى يكون لله " (16)
قال الذَّهبي معلِّقًا : " قلت : نَعْم ، يطلبه أوَّلاً ، والحامل له حبُّ العلم وحبُّ إزالة الجهل عنه وحبُّ الوظائف ونحو ذلك ، ولم يكن عَلِمَ وجوب الإخلاص فيه ، ولا صِدْق النِّيَّة، فإذا عَلِمَ حاسب نفسه ، وخاف من وَبَالِ قصده ، فتجيئه النِّيَّة الصَّادقة كلُّها أو بعضُها ، وقد يتوب من نيَّته الفاسدة ويندم " (17)
2/ هجر دعوى الإخلاص والإتقان :
إنَّ المخلص من طلاَّب العلم هو الَّذي يجتهد في طلبه على قدر الطَّاقة والوسع، ومع هذا لا ينظر إلى نفسه بعين الكمال، بل تراه يزدري نفسه ويهضمها ويتَّهمها بالتَّقصير.
قالت عائشة رضي الله عنها : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ﴿ وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَآءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون :60] هم الَّذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال : " لاَ يَا بنْتَ الصِّدِّيق ! وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَلاَّ يُقْبَلَ مِنْهُمْ " (1
فإذا رأى المشتغل بالعلم أنَّه بلغ منتهى الإتقان والإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص .
قال الوليد بن مسلم رحمه الله : " سالت الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وابن جريج : لمن طلبتم العلم ؟ كلُّهم يقول لنفسي غير ابن جريج فإنَّه قال : طلبته للنَّاس " (19)
قال الذَّهبي معلِّقًا: قلت: ما أحسن الصِّدق واليوم تسال الفقيه الغبيَّ: لمن طلبت العلم؟
فيبادر ويقول: طلبته لله، ويكذب، إنَّما طلبه للدُّنيا، ويا قلَّة ما عرف منه " (20)
وقيل لأحمد رحمه الله: هل طلبتم العلم لله ؟
قال: " أمَّا لله فعزيز، ولكن حُبِّب إليَّ شيء فجمعته " (21)
وقال هشام الدّستوائي رحمه الله : " والله ! ما أستطيع أن أقول : إنِّي ذهبت يومًا قطُّ أطلب الحديث أريد به وجه الله عزوجل " (22)
قال الذَّهبي معلِّقًا: " والله ! ولا أنا، فقد كان السَّلف يطلبون العلم لله فنبلوا وصاروا أئمَّة يُقتدى بهم " (23)
ورحم الله الذَّهبي : فإنَّه كان على سجيَّتهم يتَّهم نفسه بالتَّقصير مع الله أنَّه كان رأسًا في الحديث وعلومه حيث قال عن نفسه : " وجمع تواليف يقال مفيدة والجماعة يتفضَّلون ويثنون عليه ، وهو أخبر بنفسه وبنقصه في العلم والعمل ، والله المستعان ن ولا قوَّة إلاَّ بالله ، وإذا سلم لي إيماني فيا فوزي " (24)
3/ كراهية الحظوة والمحمدة :
قال ابن القيِّم رحمه لله: " لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبَّة المدح والثَّناء، والطَّمع فيما عند النَّاس إلاَّ كما يجتمع الماء والنَّار والضَّبّ والحوت " (25)
والإخلاص هو عكوف القلب على الله فلا يخرج بإرادته عن طلب مرضاته .
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: " ما صدق اللهَ عبدٌ أحبَّ الشُّهرة " (26)
وقال أيوب السختياني رحمه الله : " والله ! ما صدق عبد إلاَّ سرَّه أن لا يُشعر بمكانه " (27)
فطلب العلم للشُّهرة والحظوة والمحمدة يعدُّ من الأعواض الدُّنيويَّة والأغراض الدَّنيئة ، ولا شكَّ أنَّها وبال على صاحبها وصفقة خاسرة في الدُّنيا والآخرة ، قال تعالى : ﴿وَمَا لإِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابتِغَاءَ وَجْهَ رَبّهِ الأَعْلَى ﴾ [ سورة الليل ]
وقال حافظ الحكمي :
ومن يكن ليقول الناس يطلبه /// أخسر بصفقته في موقف الندم (2
وقال بريدة بن الحُصَيب رضي الله عنه : " شهدت خيبر وكنت فيمن صعد التّلمة فقاتلتُ حتَّى رئي مكاني وعليَّ ثوب أحمر ، فما أعلم أنِّي ركبت في الإسلام ذنبًا أعظم منه ، قال للشُّهرة " (29)
قال الذَّهبي معلِّقًا : " قلت : بلى ، جهَّال زماننا يعدُّون اليوم مثل هذا الفعل من أعظم الجهاد " (30)
ومجالس الشُّهرة الَّتي يسعى إليها كثير منَّا كان السَّلف يفرُّون منها فرارهم من الأسد.
قال حمَّاد بن زيدٍ رحمه الله : " كان أيُّوب يأخذني في طريق ، وهي أبعد ، فأقول : إنَّ هذا أقرب ، فيقول : إنِّي اتَّقي هذه المجالس " (31)
وقال أيضًا : " كنت امشي مع أيُّوب فيأخذني في طريق إنِّي لأعجب كيف اهتدى لها فرارًا من النَّاس أن يقال : ايُّوب " (32)
وقال ثابت البناني رحمه الله : قال لي محمَّد ابن سيرين : " يا أبا محمَّد لم يكن يمنعني من مجالستكم إلاَّ مخافة الشُّهرة " (33)
وعن يحي ابن سعد الأنصاري عن خالد ابن معدان أنَّه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشُّهرة (34) ، وعن ليث عن أبي العالية أنَّه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام (35)
فطالب العلم المخلص هو الَّذي يسعى أن يَعرف ولا يُعرف وأن يمشي ولا يُمشي إليه وأن يَسأل ولا يُسأل (36)
بل كانوا قديمًا لشدَّة إخلاصهم يميلون إلى خمول الذِّكر ويحبُّون ألاَّ يُنسب إليهم من العلم شيء، كما قال الشافعي: " وددت لو أنَّ الخلق تعلَّموا هذا العلم على ألاَّ يُنسب إليَّ منه حرف " (37)
وقال: " وددت إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الحقّ على يديه " (3
فالمخلص يحب انتشار الخير بين النَّاس ولو على لسان غيره، فلو ظهر من هو أحسن منه وعظًا وأغرز منه علمًا والنَّاس له أشد قبولاً فرح به ولم يحسده، ولم يعاده، بل رغَّب فيه ودعا له بالتَّوفيق والسَّداد.
4/ الاهتمام بما يعينه:
من حُسن إسلامه وكَمُل إيمانه وتمَّ إخلاصه، اهتمَّ بما يفيد قولاً وفعلاً ونظرًا وفكرًا، كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام: " مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ "
وأوَّل ما يبدأ به طالب العلم الحرص على ما يحتاجه عاجلاً وتقديمه عمَّا لا يحتاجه في الحال ، وإلاَّ فلا يتعنَّ.
قال عبد الرَّحمن بن مهدي: " لا يكون إمامًا في العلم من أخذ بالشَّاذِّ من العلم " (40)
فالإخلاص يقود صاحبه إلى تحصيل فروض الأعيان لا إلى تقفّر المسائل المقفلة ، ولذلك لو ابتدأ الطَّالب الغِّرُّ، قبل أن يتحصرم ويشتدَّ عودُه ، بتتبُّع الطُّبوليات وقراءة المطوَّلات وجرد المبسوطات ومطالعة تفاريق المصنَّفات ، فإنَّه سيكون حتمًا متشبِّعًا بما لم يُعْطَ ، مهتمًّا بما لا يعنيه، مدَّعيًا ما ليس فيه ، وغاية تحصيله شقائق وعبارات ليست من عدة القبر ولا من زاد المعاد ، وهذا من شرِّ غوائل العلم وأوَّل طريق التَّعالم .
ولهذا المعني الخطير ، نهي السَّلف عن المسائل الأغاليط ، وهي شدادها الَّتي يغالط بها العلماء ليزلوا فيها ، فيهيج بذلك شرُّ وفتنة (41) حتَّى قال الحسن : " شرار عباد الله ينتقون شرار المسائل يعمون بها عباد الله " (42)
ومثله تكلُّف المسائل الَّتي يستحيل وقوعها أو يندر كما قال تعالى : ﴿لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [ المائدة : 101] ، وقال أحمد : " شرُّ الحديث الغرائب الَّتي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها " (43)
ومن قلَّة الدِّيانة : التَّوسع في الجدال مع ترك أوَّليات العلم وأولوياته ، قال الأوزاعي : " إذا أراد الله بقوم شرًّا فتح عليهم الجدل ومنعهم العمل " (44)
وما يشتهي المرارة ويطلبها إلاَّ الباحث عن مكاسب دنيويَّة فتورثه قساوة القلب كما قال مالك : " المراء في العلم يقسِّي القلب ويورث الضَّغائن " (45)
والإخلاصُ يمنع طالبَ العلم من التَّصدُّر للتَّصنيف والتَّأليف قبل كمال الأهليَّة، لأن هذا ممَّا لا يعنيه.
قال النَّووي: " وليحذر كلُّ الحذر أن يشرع في تصنيف ما لم يتأهَّل له، فإنَّ ذلك يضرُّه في دينه وعلمه وعرضه " (46)
ومن إخلاص العالم تهيُّبه من الفتوى وعدم تجاسره عليها لعلمه أنَّها بابٌ عظيم وتوقيع عن ربِّ العالمين ، قال تعالى : ﴿قُلْ ءَآاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ﴾ [ سورة:يونس ]، وقال ابن المنكدر: " العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم " (47)
وفي باب تدافع الفتوى عند الصَّحابة رضي الله عنهم يقول ابن أبي ليلي: " لقد أدركت عشرين ومائة من الأنصار، ما منهم من أحد يسأل عن الفتوى إلاَّ ودَّ أنَّ أخاه كفاه الفتيا " (4
5/ المدوامة على طلب العلم :
لابدَّ لصرح العلم أن يُبنى على فسطاط الإخلاص ، فيدوم بقاؤه إلى أن يموت العبد وهو طالبٌ للعلم ، ولذلك أمر الله نبيَّه عليه الصَّلاة والسَّلام باستزادته من العلم ، فقال : ﴿وَقُل رَّبِ زِدّنِى عِلْمًا ﴾ [ سورة طه ] ، مع أنَّه هو القائل له ، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ﴾ [ النساء:113] ، ولم يزل النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام يأخذ العلم والوحي حتَّى توفَّاه الله ، كما قال أنس رضي الله عنه : " إنَّ الله عزوجل تابع الوحي على رسول الله قبل وفاته حتَّى توفِّي ، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم " (49)
فمن طلب العلم ليصل به إلى مرضاة الله لم يجعل لطلبه حدًّا دون حشرجة الرُّوح.
قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ﴾ [ سورة: الحجر ]
وكان الإمام أحمد على كبر سنِّه يحمل المحبرة ! فقيل له : إلى متى ؟!
فقال : " من المحبرة إلى المقبرة " (50)
وقال أيضًا: " أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر " (51)
وقيل لابن المبارك : إلى متَى تكتب الحديث ؟
فقال: " لعلَّ الكلمة الَّتي أَنْتَفِعُ بها لم أكتبها بعد " (52)
وعلُّو الهمَّة وعدم الفتور في طلب العلم سِمَة أسلافنا، ولا يتحقَّق إلاَّ بالإخلاص، فهذا الإمام البخاري رحمه الله قصرت به النَّفقة حتَّى أكل الحشيش (53)
وهذا عمر بن عبد الكريم الرّواسي سقطت أصابيع يده في الرِّحلة من شدَّة البرد (54)
وهذا مالك نقض سقف بيته فباع خشيه من أجل العلم (55)
والمطالع لتراجم القوم وسيرهم يندهش لقوَّة صبرهم على شظف العيش ومرارته ، ولم يطرح أحدهم عصا التّسيار والتِّرحال في طلب العلم واهتمُّوا بتدوينه وهم على فراش الموت .
قيل لَمَّا حضرت أبا جعفر الطبري رحمه الله المنيَّةُ وسمع دعاء جعفر بن محمَّد : " يا سابق الفوت ! ويا سامع الصَّوت ! " استدعى محبرة وصحيفة فكتبه فقيل له: أفي هذه الحال ؟! فقال: " ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتَّى يموت " (56)
والله أعلم ، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال الذَّهبي معلِّقًا : " قلت : بلى ، جهَّال زماننا يعدُّون اليوم مثل هذا الفعل من أعظم الجهاد " (30)
ومجالس الشُّهرة الَّتي يسعى إليها كثير منَّا كان السَّلف يفرُّون منها فرارهم من الأسد.
قال حمَّاد بن زيدٍ رحمه الله : " كان أيُّوب يأخذني في طريق ، وهي أبعد ، فأقول : إنَّ هذا أقرب ، فيقول : إنِّي اتَّقي هذه المجالس " (31)
وقال أيضًا : " كنت امشي مع أيُّوب فيأخذني في طريق إنِّي لأعجب كيف اهتدى لها فرارًا من النَّاس أن يقال : ايُّوب " (32)
وقال ثابت البناني رحمه الله : قال لي محمَّد ابن سيرين : " يا أبا محمَّد لم يكن يمنعني من مجالستكم إلاَّ مخافة الشُّهرة " (33)
وعن يحي ابن سعد الأنصاري عن خالد ابن معدان أنَّه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشُّهرة (34) ، وعن ليث عن أبي العالية أنَّه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام (35)
فطالب العلم المخلص هو الَّذي يسعى أن يَعرف ولا يُعرف وأن يمشي ولا يُمشي إليه وأن يَسأل ولا يُسأل (36)
بل كانوا قديمًا لشدَّة إخلاصهم يميلون إلى خمول الذِّكر ويحبُّون ألاَّ يُنسب إليهم من العلم شيء، كما قال الشافعي: " وددت لو أنَّ الخلق تعلَّموا هذا العلم على ألاَّ يُنسب إليَّ منه حرف " (37)
وقال: " وددت إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الحقّ على يديه " (3
فالمخلص يحب انتشار الخير بين النَّاس ولو على لسان غيره، فلو ظهر من هو أحسن منه وعظًا وأغرز منه علمًا والنَّاس له أشد قبولاً فرح به ولم يحسده، ولم يعاده، بل رغَّب فيه ودعا له بالتَّوفيق والسَّداد.
4/ الاهتمام بما يعينه:
من حُسن إسلامه وكَمُل إيمانه وتمَّ إخلاصه، اهتمَّ بما يفيد قولاً وفعلاً ونظرًا وفكرًا، كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام: " مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ "
وأوَّل ما يبدأ به طالب العلم الحرص على ما يحتاجه عاجلاً وتقديمه عمَّا لا يحتاجه في الحال ، وإلاَّ فلا يتعنَّ.
قال عبد الرَّحمن بن مهدي: " لا يكون إمامًا في العلم من أخذ بالشَّاذِّ من العلم " (40)
فالإخلاص يقود صاحبه إلى تحصيل فروض الأعيان لا إلى تقفّر المسائل المقفلة ، ولذلك لو ابتدأ الطَّالب الغِّرُّ، قبل أن يتحصرم ويشتدَّ عودُه ، بتتبُّع الطُّبوليات وقراءة المطوَّلات وجرد المبسوطات ومطالعة تفاريق المصنَّفات ، فإنَّه سيكون حتمًا متشبِّعًا بما لم يُعْطَ ، مهتمًّا بما لا يعنيه، مدَّعيًا ما ليس فيه ، وغاية تحصيله شقائق وعبارات ليست من عدة القبر ولا من زاد المعاد ، وهذا من شرِّ غوائل العلم وأوَّل طريق التَّعالم .
ولهذا المعني الخطير ، نهي السَّلف عن المسائل الأغاليط ، وهي شدادها الَّتي يغالط بها العلماء ليزلوا فيها ، فيهيج بذلك شرُّ وفتنة (41) حتَّى قال الحسن : " شرار عباد الله ينتقون شرار المسائل يعمون بها عباد الله " (42)
ومثله تكلُّف المسائل الَّتي يستحيل وقوعها أو يندر كما قال تعالى : ﴿لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [ المائدة : 101] ، وقال أحمد : " شرُّ الحديث الغرائب الَّتي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها " (43)
ومن قلَّة الدِّيانة : التَّوسع في الجدال مع ترك أوَّليات العلم وأولوياته ، قال الأوزاعي : " إذا أراد الله بقوم شرًّا فتح عليهم الجدل ومنعهم العمل " (44)
وما يشتهي المرارة ويطلبها إلاَّ الباحث عن مكاسب دنيويَّة فتورثه قساوة القلب كما قال مالك : " المراء في العلم يقسِّي القلب ويورث الضَّغائن " (45)
والإخلاصُ يمنع طالبَ العلم من التَّصدُّر للتَّصنيف والتَّأليف قبل كمال الأهليَّة، لأن هذا ممَّا لا يعنيه.
قال النَّووي: " وليحذر كلُّ الحذر أن يشرع في تصنيف ما لم يتأهَّل له، فإنَّ ذلك يضرُّه في دينه وعلمه وعرضه " (46)
ومن إخلاص العالم تهيُّبه من الفتوى وعدم تجاسره عليها لعلمه أنَّها بابٌ عظيم وتوقيع عن ربِّ العالمين ، قال تعالى : ﴿قُلْ ءَآاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ﴾ [ سورة:يونس ]، وقال ابن المنكدر: " العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم " (47)
وفي باب تدافع الفتوى عند الصَّحابة رضي الله عنهم يقول ابن أبي ليلي: " لقد أدركت عشرين ومائة من الأنصار، ما منهم من أحد يسأل عن الفتوى إلاَّ ودَّ أنَّ أخاه كفاه الفتيا " (4
5/ المدوامة على طلب العلم :
لابدَّ لصرح العلم أن يُبنى على فسطاط الإخلاص ، فيدوم بقاؤه إلى أن يموت العبد وهو طالبٌ للعلم ، ولذلك أمر الله نبيَّه عليه الصَّلاة والسَّلام باستزادته من العلم ، فقال : ﴿وَقُل رَّبِ زِدّنِى عِلْمًا ﴾ [ سورة طه ] ، مع أنَّه هو القائل له ، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ﴾ [ النساء:113] ، ولم يزل النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام يأخذ العلم والوحي حتَّى توفَّاه الله ، كما قال أنس رضي الله عنه : " إنَّ الله عزوجل تابع الوحي على رسول الله قبل وفاته حتَّى توفِّي ، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم " (49)
فمن طلب العلم ليصل به إلى مرضاة الله لم يجعل لطلبه حدًّا دون حشرجة الرُّوح.
قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ﴾ [ سورة: الحجر ]
وكان الإمام أحمد على كبر سنِّه يحمل المحبرة ! فقيل له : إلى متى ؟!
فقال : " من المحبرة إلى المقبرة " (50)
وقال أيضًا: " أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر " (51)
وقيل لابن المبارك : إلى متَى تكتب الحديث ؟
فقال: " لعلَّ الكلمة الَّتي أَنْتَفِعُ بها لم أكتبها بعد " (52)
وعلُّو الهمَّة وعدم الفتور في طلب العلم سِمَة أسلافنا، ولا يتحقَّق إلاَّ بالإخلاص، فهذا الإمام البخاري رحمه الله قصرت به النَّفقة حتَّى أكل الحشيش (53)
وهذا عمر بن عبد الكريم الرّواسي سقطت أصابيع يده في الرِّحلة من شدَّة البرد (54)
وهذا مالك نقض سقف بيته فباع خشيه من أجل العلم (55)
والمطالع لتراجم القوم وسيرهم يندهش لقوَّة صبرهم على شظف العيش ومرارته ، ولم يطرح أحدهم عصا التّسيار والتِّرحال في طلب العلم واهتمُّوا بتدوينه وهم على فراش الموت .
قيل لَمَّا حضرت أبا جعفر الطبري رحمه الله المنيَّةُ وسمع دعاء جعفر بن محمَّد : " يا سابق الفوت ! ويا سامع الصَّوت ! " استدعى محبرة وصحيفة فكتبه فقيل له: أفي هذه الحال ؟! فقال: " ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتَّى يموت " (56)
والله أعلم ، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الحواشي:
(1): الفوائد لابن القيِّم (ص103)
(2): انظر مسائل أحمد لابن هانئ (1932)، وطبقات الحنابلة (1/146)
(3): سير أعلام النُّبلاء (7/244)
(4): رواه البخاري (2655) ومسلم (1904)
(5): رواه النِّسائي (434، والطَّبراني في المعجم الكبير (762، وانظر صحيح الجامع (1856)
(6): رواه أبو داود (3666) وابن ماجه (252)، وانظر صحيح الجامع (6159)
(7): صحَّ بذلك الخبر ، كما في سنن التِّرمذي (2382) وأصله في صحيح مسلم (1905)
(: رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (7/5)، والخطيب في الجامع لأخلاق الرَّاوي (1/317)
(9): جامع العلوم الحكم (ص10)
(10): رواه المبارك في الزُّهد (ص15)، وابن شيبة في مصنَّفه (7/104)، ورواه الدَّارمي في سننه (1/346)
(11): رواه أبو نعيم في الحلية (3/67)، ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/349) عن ابن مسعود رضي الله عنه
(12): رواه أحمد في الزُّهد (ص232) والدَّارمي في سننه (1/10
(13): تاريخ الإسلام (5/534)
(14):رواه ابن أبي شيبة في مصنَّفه (7/20، والدَّارمي في سننه (1/94)
(15): رواه عبد الرَّزَّاق في مصنَّفه (10/239)
(16): رواه عبد الرَّزَّاق في مصنَّفه (11/256)، والخطيب في الجامع لأخلاق الرَّاوي (1/939)
(17): سير أعلام النُّبلاء (7/17)
(1: رواه التِّرمذي (3175)، وانظر صحيح سنن التِّرمذي (2537)
(19): رواه الخطيب في تاريخ بغداد (10/402)
(20): سير أعلام النُّبلاء (6/32
(21): البداية والنِّهاية (10/364)، انظر روضة المحبِّين (ص69)
(22): تاريخ الإسلام للذَّهبي (9/655)
(23): سير أعلام النُّبلاء (7/152)
(24): المعجم المختصّ (ص97)
(25): الفوائد (ص149)
(26): رواه البخاري في التَّاريخ الكبير (4/363)
(27): رواه أبو نعيم في الحلية (3/6) وبنحوه ابن أبي الدُّنيا في كتاب التَّواضع والخمول (ص11
(2: المنظومة الميميَّة في الوصايا والأداب العلميَّة للحافظ الحكمي
(29): رواه ابن عديِّ في الكامل (2/34)، وانظر تاريخ الإسلام (5/77)
(30): سير أعلام النُّبلاء (2/470)
(31): رواه ابن سعد في الطَّبقات الكبرى (7/24
(32): رواه ابن سعد في الطَّبقات الكبرى (7/249)
(33): رواه البخاري في التَّاريخ الكبير (5/123) وابن عساكر في تاريخ دمشق (53/22
(34): رواه ابن أبي الدُّنيا في كتاب التَّواضع والخمول (ص121)، وانظر تهذيب التَّهذيب (3/103)
(35): رواه ابن أبي الدُّنيا في كتاب التَّواضع والخمول (ص122)
(36): من كلام ابن محيريز ، رواه عنه أحمد في كتاب الزُّهد (ص38، وأبو نعيم في الحلية (5/141)
(37): رواه أبو نعيم في الحلية (9/11 وبنحوه ابن حبَّان في صحيحه (5/436)
(3: رواه أبو نعيم في الحلية (9/11، وانظر المدخل للسُّنن الكبرى (ص172)، وتهذيب الأسماء (1/53)
(39): رواه التِّرمذي (2317) وابن ماجه (3976)، وانظر صحيح الجامع (5911)
(40): رواه ابن عبد البرِّ في الجامع بيان العلم وفضله (2/820)، وانظر التَّمهيد (1/64)
(41): انظر معالم السُّنن (4/176)، وغريب الحديث للخطَّابي (1/354)
(42): رواه الخطيب في الفقيه والمتفقِّه (1/50)، والهروي في ذمّ الكلام (3/194)
(43): رواه الخطيب في الكفاية ص(141)، وانظر شرح علل التِّرمذي لابن رجب (1/40
(44): رواه الخطيب في اقتضاء العلم العمل (ص79) والهروي في ذمّ الكلام (5/123)
(45): رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (61/205)، ونسبها البيهقيُّ في الاعتقاد (ص239) للشَّافعي
(46): المجموع (1/30)
(47): رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (33/361)، وبنحوه في الفقيه والمتفقِّه (2/49)
(4: رواه ابن المبارك في الزُّهد (ص19)، والدَّارمي في سننه (1/65)
(49): رواه البخاري (4982)، ومسلم (3016)، واللَّفظ لمسلم
(50): مناقب أحمد لابن الجوزي (ص31)، انظر: تلبيس إبليس (400)
(51): رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص136)
(52): رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الرَّاوي (4/419)
(53): سير أعلام النُّبلاء (12/217)
(54): سير أعلام النُّبلاء (19/31
(55): رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/13)
(56): رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (52/199)، وانظر: الجليس الصَّالح للمعافي بن زكرياء (3/222)
(1): الفوائد لابن القيِّم (ص103)
(2): انظر مسائل أحمد لابن هانئ (1932)، وطبقات الحنابلة (1/146)
(3): سير أعلام النُّبلاء (7/244)
(4): رواه البخاري (2655) ومسلم (1904)
(5): رواه النِّسائي (434، والطَّبراني في المعجم الكبير (762، وانظر صحيح الجامع (1856)
(6): رواه أبو داود (3666) وابن ماجه (252)، وانظر صحيح الجامع (6159)
(7): صحَّ بذلك الخبر ، كما في سنن التِّرمذي (2382) وأصله في صحيح مسلم (1905)
(: رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (7/5)، والخطيب في الجامع لأخلاق الرَّاوي (1/317)
(9): جامع العلوم الحكم (ص10)
(10): رواه المبارك في الزُّهد (ص15)، وابن شيبة في مصنَّفه (7/104)، ورواه الدَّارمي في سننه (1/346)
(11): رواه أبو نعيم في الحلية (3/67)، ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/349) عن ابن مسعود رضي الله عنه
(12): رواه أحمد في الزُّهد (ص232) والدَّارمي في سننه (1/10
(13): تاريخ الإسلام (5/534)
(14):رواه ابن أبي شيبة في مصنَّفه (7/20، والدَّارمي في سننه (1/94)
(15): رواه عبد الرَّزَّاق في مصنَّفه (10/239)
(16): رواه عبد الرَّزَّاق في مصنَّفه (11/256)، والخطيب في الجامع لأخلاق الرَّاوي (1/939)
(17): سير أعلام النُّبلاء (7/17)
(1: رواه التِّرمذي (3175)، وانظر صحيح سنن التِّرمذي (2537)
(19): رواه الخطيب في تاريخ بغداد (10/402)
(20): سير أعلام النُّبلاء (6/32
(21): البداية والنِّهاية (10/364)، انظر روضة المحبِّين (ص69)
(22): تاريخ الإسلام للذَّهبي (9/655)
(23): سير أعلام النُّبلاء (7/152)
(24): المعجم المختصّ (ص97)
(25): الفوائد (ص149)
(26): رواه البخاري في التَّاريخ الكبير (4/363)
(27): رواه أبو نعيم في الحلية (3/6) وبنحوه ابن أبي الدُّنيا في كتاب التَّواضع والخمول (ص11
(2: المنظومة الميميَّة في الوصايا والأداب العلميَّة للحافظ الحكمي
(29): رواه ابن عديِّ في الكامل (2/34)، وانظر تاريخ الإسلام (5/77)
(30): سير أعلام النُّبلاء (2/470)
(31): رواه ابن سعد في الطَّبقات الكبرى (7/24
(32): رواه ابن سعد في الطَّبقات الكبرى (7/249)
(33): رواه البخاري في التَّاريخ الكبير (5/123) وابن عساكر في تاريخ دمشق (53/22
(34): رواه ابن أبي الدُّنيا في كتاب التَّواضع والخمول (ص121)، وانظر تهذيب التَّهذيب (3/103)
(35): رواه ابن أبي الدُّنيا في كتاب التَّواضع والخمول (ص122)
(36): من كلام ابن محيريز ، رواه عنه أحمد في كتاب الزُّهد (ص38، وأبو نعيم في الحلية (5/141)
(37): رواه أبو نعيم في الحلية (9/11 وبنحوه ابن حبَّان في صحيحه (5/436)
(3: رواه أبو نعيم في الحلية (9/11، وانظر المدخل للسُّنن الكبرى (ص172)، وتهذيب الأسماء (1/53)
(39): رواه التِّرمذي (2317) وابن ماجه (3976)، وانظر صحيح الجامع (5911)
(40): رواه ابن عبد البرِّ في الجامع بيان العلم وفضله (2/820)، وانظر التَّمهيد (1/64)
(41): انظر معالم السُّنن (4/176)، وغريب الحديث للخطَّابي (1/354)
(42): رواه الخطيب في الفقيه والمتفقِّه (1/50)، والهروي في ذمّ الكلام (3/194)
(43): رواه الخطيب في الكفاية ص(141)، وانظر شرح علل التِّرمذي لابن رجب (1/40
(44): رواه الخطيب في اقتضاء العلم العمل (ص79) والهروي في ذمّ الكلام (5/123)
(45): رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (61/205)، ونسبها البيهقيُّ في الاعتقاد (ص239) للشَّافعي
(46): المجموع (1/30)
(47): رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (33/361)، وبنحوه في الفقيه والمتفقِّه (2/49)
(4: رواه ابن المبارك في الزُّهد (ص19)، والدَّارمي في سننه (1/65)
(49): رواه البخاري (4982)، ومسلم (3016)، واللَّفظ لمسلم
(50): مناقب أحمد لابن الجوزي (ص31)، انظر: تلبيس إبليس (400)
(51): رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص136)
(52): رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الرَّاوي (4/419)
(53): سير أعلام النُّبلاء (12/217)
(54): سير أعلام النُّبلاء (19/31
(55): رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/13)
(56): رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (52/199)، وانظر: الجليس الصَّالح للمعافي بن زكرياء (3/222)
المصدر: مجلَّة الإصلاح - العدد الرابع العشر (14)
لمطالعة وتحميل المزيد من مقالات مجلة الإصلاح المفرغة
[تابع هنا]
لمطالعة وتحميل المزيد من مقالات مجلة الإصلاح المفرغة
[تابع هنا]