بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً : أنه – رحمه الله تعالى – كان يوجز الكلام في مسألة في موضع ، ويبسطها في موضع آخر ، فتجده في بعض المواضع يقول : وقد بسطنا هذه المسألة في موضع آخر . ويَكْثُر ذلك منه . فإذن كلامه فيه اختصار في موضع وفيه بسط في موضع آخر ، وما اختصره يكون هو زبدة كلامه ، وما طَوَّل فيه يكون تفصيلا لكلامه واستدلالا له وتنظيرًا له .
ثانيًا : تَمَيَّز شيخ الإسلام بأنه ألف التآليف فيما يريد ، خاصة في مسائل الاعتقاد ، فجعل منها تآليف مختصرة ، وجعل منها تآليف مطولة ، والمختصرة – كما سيأتي – هي ذريعة المطولة والوسيلة إليها ، فمن لم يفهم المختصرات التي ألفها شيخ الإسلام فإنه لن يعي معاني المطولات ، فله في المختصرات الواسطية والحموية والتدمرية ، وله في السلوك التحفة العراقية ، وله في الكرامات قاعدة في المعجزات والكرامات . . . إلخ .هذه المختصرات يُؤَصِّل فيها الكلام ويضع فيها خلاصة ما عنده من العلم في ذلك ، وأما المطولات فيبسط فيها القول ، ويذكر أقوال المخالفين ، ويذكر ما يحتاج إلى ذكره من الرد عليهم .
ثالثًا : يتميز شيخ الإسلام – رحمه الله – بأنه يُؤَصِّل ويستطرد ، فالتأصيل هو ما يذكر فيه أصل المسألة ويذكر فيه صُورتَها ، ويذكر فيه الحكم عليها ، ثم يستطرد إما بذكر النقول للأقوال التي تؤيد كلامه ، وإما بذكر النظائر التي تدل على أن قوله الذي ذكره صواب ، وأنه هو الراجح ، وأنه هو الذي لا يسوغ القول بغيره في بعض المسائل ، وقد يكون استطراده في بيان أقوال المخالفين في مسألة بعينها والرد عليها . إذن على طالب العلم أن ينظر إلى تأصيله فيقف عنده ، وعليه أن ينظر في بداية الاستطراد ويضع عليه علامة يتضح بها بداية استطراده حتى يفرق بين كلامه في التأصيل وكلامه في الاستطراد ، وكلامه – رحمه الله – في الاستطراد إنما هو لأسباب ، فقد يراد منه التدليل على صحة الأصل ، إما بتقعيد أو تنظير أو استدلال أو نُقولٍ أو بِرَدٍّ على مخالف أو بيانِ ضعف حُجَّة من خالف ذلك التأصيل ، لهذا ينتبه طالب العلم في أنه لا يأخذ كلامه دائمًا من المستطردات ، بل يأخذها من التأصيلات ؛ لأن الاستطراد قد يكون – كما ذكرت – عَنَى به شيئًا يعرض فيه بعض ما يريد من المسألة التي استطرد فيها كتنظيره لمسألة بمسألة .مثلا في كتابه ” اقتضاء الصراط المستقيم ” تجد أنه يمكن أن يلخص في صفحات قد تصل إلى أربعين أو خمسين صفحة ، لكنه يذكر المسألة ثم يستطرد كثيرًا ، كذلك في أول كتابه ” درء تعارض العقل والنقل ” تجد أنه يرد بردود مختصرة ، ثم بعد ذلك يستطرد في أحد الأوجه على إبطال قانون الرازي وأتباعه باستطرادات مختلفة تُبَيِّن بطلانه ، إما من جهة التنظير أو النقول والرد عليها كما ذكرت .فعلى طالب العلم أن ينتبه إذا نظر في كلام شيخ الإسلام ، وعليه أن يفرق بين التأصيل والاستطراد ، ولا يأخذ المسألة دائمًا من الاستطراد .أيضًا من مميزات كلامه – رحمه الله – أن كلامه يكثر فيه المحكم والمتشابه ، فكلامه عندما يقرر يكون أحيانا من المحكم ، وتارة يكون من المتشابه إما في الاستطراد أو أحيانًا في بعض التأصيل ، ونعني بالمحكم ما يتضح معناه ، وبالمتشابه ما يحتمل المعنى أو لا يتضح أو يكون مشكلاً على أصول السلف ؛ لأن شيخ الإسلام – رحمه الله – كان مُتابِعًا للسلف الصالح ، لا يخرج عن أقوالهم ، وخاصة أقوال أئمة أهل الحديث ، كأحمد وباقي الأئمة ، فهو قد يُورِد كلامًا ينظر إليه العالم أو طالب العلم ويجده مشكلاً ، وهذا يسمى متشابهًا ؛ لأن المتشابه موجود في كلام أهل العلم ، ويُحَلُّ هذا المتشابه بالنظر في المواضع الأُخَر التي تكلم فيها عن هذه المسألة ، فيكون في الموضع الآخر جلاءٌ وإيضاح لهذا الموضع الذي اشتبه على الناظر . إذن هذا مما ينبغي التنبه له ، وهو أن في كلامه – رحمه الله – مُحْكَمًا ومتشابهًا ، وهذا إنما يعرفه أهل العلم ، فهم الذين يعرفون المحكم المؤصل من كلامه الذي يوافق كلام السلف ويوافق كلامه هو في المختصرات – كما سيأتي في التطبيق – وأن كلامه الذي يشتبه يحتمل أنه يريد به كذا ، ويحتمل أنه يريد به كذا ، فنحمل كلامه على ما نعلمه من طريقته ، ومن تقريره ومن عقيدته ، رحمه الله . كذلك من مميزات كلامه أنه يُكْثِر من النقول ويسهب في النقل عن أهل العلم ، وهذا الإسهاب في النقل للتدليل على أن ما ذهب إليه ليس متفردا به ، أو ليس غريبًا ، كما أكثر من النقول في الحموية ، وكما أكثر من النقول في مواضع من درء تعارض العقل والنقل ، وفي رده على الرازي إلى آخر كتبه رحمه الله .وكذلك من مميزاته – رحمه الله – أنه يكثر الاستدلال ، وهذا من أهم مزايا شيخ الإسلام – رحمه الله – وهي أن أدلته التي يوردها كثيرة ومتنوعة ، فتجد أنه يستدل بآيات القرآن استدلالاً مستفيضًا ، ويستدل بالسُّنن ، ويميز – رحمه الله – بين المقبول منها وغير المقبول ، وما أدرجه أئمة السنة قبله في مؤلفاتهم وما لم يوردوه ، كذلك يستدل بالإجماع إذا وجد ، وكذلك يستدل بالقياس ، ويستدل بالتقعيد الفقهي ، ويستدل بأقوال الصحابة فيما يريد تَقْريرَه ، ويستدل بالتنظير ، وهذه أنواع من الأدلة معلومة في أصول الفقه .وكذلك من مميزاته – رحمه الله – كثرة استعماله لعلوم الآلة ، فيكثر من استعمال أصول الفقه ، ويكثر من استخدام النحو في الموارد التي يحتاجها ، ويكثر من استخدام ما يحتاجه من كلام المناطقة وكلام المتكلمين فيما يريد تقريره ، أو ما يريد الرد به على المخالفين .وكذلك من مميزاته – رحمه الله – أنه يستعمل مصطلحات أهل الفنون ، فلكل فن مصطلح ، وهذه هي التي يسميها العلماء اللغة العرفية ، فشيخ الإسلام إذا تكلم في مسألة فقهية استخدم كلام أهل الفقه ولغة الفقهاء ، وإذا تكلم في مسائل عقدية استخدم لغة أهل ذلك العلم ، وإذا تكلم في مسائل أصولية استخدم لغة الأصوليين ، وإذا تكلم في مسائل لغوية أو نحوية استخدم لغة أهل ذلك الفن ، وإذا تكلم مع أهل السلوك والصوفية استخدم لغة أولئك ، فالناظر في كلامه إذا لم يكن عنده علم بعلوم الآلة وبمصطلحات أهل الفنون ربما خلط في الاصطلاحات ، وربما جعل كلمة بمعنى كلمةٍ أخرى ، وكل كلمة لها معنًى لا تشركها فيه الكلمة الأخرى ، فهناك فرق في الأوضاع العرفية اللغوية للكلمات على حسب استعمال أصحاب كل فن وبين الاستخدام اللغوي ؛ لأن العرف تخصيص ، والاصطلاح لا مشاحة فيه ، فإذا نظر الناظر في كلام شيخ الإسلام وقرأ كلامه وهو على غير معرفة بمراده من تلك الكلمات والاصطلاحات انتقل إلى ذهنه أنه يريد من تلك المسألة أو من تلك الكلمات ما في ذهنه من معنَى تلك الكلمة ، فيقع الخلط ، كما وقع في كلام عدد ممن ينقلون عن شيخ الإسلام ولا يفهمون مرامي كلامه ، فهو يستخدم كلمات ينبغي بل يجب أن تفهم على مصطلحات أهل الفنون ، لا أن تفهم على حسب ما يتبادر إلى الذهن ؛ لأن لغة العلم محكمة ، ويتميز أهل العلم فيما بينهم ويتفاضلون بمقدار استعمالهم للغة العلم ، فكلما كان العالم أكثر استعمالاً للغة العلم كلما كان قدره وتأصيله أرفع ؛ لأن لغة العلم مُحْكَمة ، ولأنها تنفي التداخل ، وشيخ الإسلام – رحمه الله – تعالى طَبَّق ذلك كثيرًا ، فتجده يستخدم المصطلحات التي يستخدمها أهل العلوم .فإذا كان ثَمَّ كلمةٌ تحتمل أكثر من وجه أو ليس ثَمَّ فيها اصطلاح متفق عليه بين الفئات تجد أنه يذكر أن هذه الكلمة مُجْملة ، فهي إن فُسِّرت بكذا فتحتمل كذا ، وإن فُسِّرت بكذا تحتمل كذا ، وينبغي حَمْلُها على المعنى الصحيح ، وخاصة في الكلمات التي يستخدمها المتكلمون ويستخدمها أتباع السلف الصالح ، فيكون ثَمَّ فرق بين استعمال هؤلاء واستعمال هؤلاء ، أو بين الكلمات التي في مصطلح الفقهاء فربما يكون لها معنى خاص عند الحنفية مثلا ويكون لها معنى آخر عند غيرهم ، وكذلك في الكلمات التي يكون المصطلح الحادث فيها عند أهل الفن مخالفًا لِمَا كان في العرف الشرعي الذي جاء في الكتاب والسنة ، وهذا متنوع ويحتاج في بسطه والتمثيل له إلى وقت أطول من هذا . المقصود أن هذا الذي ذكرتُ من النقاط هو من مميزات كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، فإذا نظر الناظر في كلامه فينبغي له أن يستحضر هذه المسائل ، وأن يُفَرِّق بين الواحدة والأخرى ، وأن يتنبه إلى ما أورده من ذلك ، فيفهم كلامه على نحو ما أراده ، لا أن يفهم كلامه على ما في عقله وتصوره هو ؛ لأنك إذا فَهِمتَ كلامه على ما في ذهنك كنت مُحَكِّمًا لنفسك على شيخ الإسلام ، وإنما يقبل الحُكم منه – رحمه الله – على نفسه ؛ لأنه هو الذي استعمل الكلام ، وكلامه يفهم عن طريقه ، لا عن طريق غيره ، وإذا أشكل شيء من ذلك من كلام شيخ الإسلام وأشكل بعض ما تميز به كلامه مما ذكرت في مسألة أو في اصطلاح أو في استعمال أو في استدلال أو في مذهب وأردتَ أن تعلم طريقتَه ومذهبه فارجع إلى كلام ابن القيم رحمه الله ؛ لأن ابن القيم يفصل في كتبه كلام شيخ الإسلام ، ويبين ما فيه ، ويكثر الاستدلال له ، ويوضحه إيضاحًا مُفَصَّلاً ، ومن الكلمات المأثورة عن الشيخ عبد الرازق عفيفي – رحمه الله رحمة واسعة – أنه كان يقول : شيخ الإسلام ابن تيمية يأتي إلى جدار الباطل فيلطمه حتى يتهدم ، وأما ابن القيم فيأخذ هذا الجدار حَجَرًا حَجَرًا فيكسره إلى أشلاء . وهذا صحيح ، فإن شيخ الإسلام يرد بالأصول ويرد بالفروع وبالتنظير مرة واحدة ، حتى ترى وصف من وصفه بأنه كالموج المتلاطم ، أما ابن القيم فهو مرتب ، يأتي بالوجه الأول ثم بالوجه الثاني ثم بالوجه الثالث ، فيأخذ كل مسألة على حِدَة ، ويورد الكلام عليها مُفَصَّلا واضحًا ، أما شيخ الإسلام فهو يموج ، ولهذا يقع الالتباس في فهم كلام شيخ الإسلام أكثر مما يقع الالتباس في فهم ابن القيم رحمه الله تعالى ، ولكل درجات .
كيف تُقْرَأُ كُتُبُ شيخ الإسلام في العقيدة ؟
إن شيخ الإسلام – رحمه الله – كما ذكرت لكم جعل كلامه في الاعتقاد مُتنوعًا ، فمن كتبه ما هو مختصر ، وهي على درجات في الاختصار ، ومن كتبه ما هو مطول ، ومنها فتاوى مختصرة ، ومنها فتاوى مطولة ، فطريق فهم كلامه أن تضبط المختصرات ، فمن المختصرات الواسطية والحموية والتدمرية ، وهذه المؤلفات الثلاث مهمة في فهم كلام شيخ الإسلام وفهم مذهبه وطريقته وتقريره للمسائل ، فلا بد لطالب العلم حتى يفهم كلام شيخ الإسلام في المطولات وفي الفتاوى وفي الأجوبة المطولة أن يستوعب هذه المؤلفات الثلاث استيعابًا تَامًّا ، ولهذا كان أهل العلم يُقْرِئُون الطلاب هذه المختصرات الثلاث قبل أن يقرءوا عليهم في المطولات ؛ لأن هذه المختصرات فيها تأصيل العلم العقدي الذي نصره شيخ الإسلام رحمه الله ، ففيها تأصيل أقواله التي نصر فيها مذهب السلف الصالح وعقيدة السلف الصالح ومنهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى ، فلا بد من استيعاب الواسطية وفهمها لفظةً لفظةً ، ولا بد من استيعاب الحموية ، ولا بد من استيعاب التدمرية ، فإذا استوعبت هذه على قدر ما أتاك الله – جل وعلا – من الفهم ويسره لك ، فإنك إذا قرأت بعد ذلك المطولات كرَدِّه على الرازي أو دَرْء تعارض العقل والنقل أو الأجوبة المطولة في الفتاوى كشرح حديث النزول وغير ذلك ، فإنك تفهم الكلام ؛ لأنه مبني على تأصيل سابق ، أما أن تقرأ المطول من كلامه قبل المختصر فهذا يحدث في النفس التباسًا ؛ لأنه لا يمكن أن تُقِيم أعلى البناء إلا بإقامة أسفله ، فإذا أقمت الأعلى دون الأسفل ، أوشك البناء أن ينهدم ، أو كان بناءً غير مستقيمٍ .لهذا رتب شيخ الإسلام لك ، فأعطاك الواسطية ، ولَمَّا سُئِل عن الاعتقاد في الصفات كتب الحموية وهي أطول منها ، ثم كتب التدمرية . فابدأ بضبط الواسطية ، فهي تشمل معتقد السلف الصالح عامَّة ، لكن ليس فيها ردود ، وليس فيها أقوال للمخالفين ، وإنما فيها الآيات والأحاديث التي في مسائل الصفات ، وكذلك فيها مسائل الإيمان ، وفيها مسائل القدر ، وفيها الكلام على منهج أهل السنة والجماعة في أنكار المنكر ، وفيها ذكر مسائل الإمامة والصحابة وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، والكلام على بقية مسائل الاعتقاد العام .ثم عليك بعد ذلك بالحموية ففيها تفصيل أكثر ، وذَكَر فيها نقولاً كثيرة عن أهل العلم من السلف في تأييد طريقة السلف ، وفيها ما ذهب إليه من تأصيلٍ لمذاهب المخالفين ، كتأصيله لمذهب الفلاسفة من قولهم بالتجهيل وأهل الوهم والتخييل إلى آخره مما فيه تأصيل لكلامه في مصنفات أُخَر . وكذلك التدمرية فيها تقعيد للردود وبيان لمسألة الشرع والقدر ومسائل الصفات وتأصيل القواعد التي بها يرد على المخالفين ونقض شبه أولئك من أصولها وجذورها ، فإذا أردت أن تفهم المطولات فلا يمكن ذلك مُطْلقًا إلا بفهم المختصرات ، يمكن أن تفهم بعض كلامه لكن يُشْكِل عليك البعض الآخر ، حتى تكثر المشكلات ، والعلم إنما ينبني على تصور سليم من أول لحظة . واحرص على ألا تدخل في ذهنك إلا الصورة الصحيحة للمسائل ، سواء كان في العقيدة أو في الفقه ، فلا تدخل في ذهنك صورة مشوهة ، ولا تدخل في ذهنك صورة غير واضحة للمسألة ، فإذا أدخلت صورة فهمتها من بعض الأوجه ولم تفهمها من بعض ربما أتت الحاجة إليها فلم تستفد منها ، وربما أتت الحاجة إليها فقررتها على غير طريقة أهل العلم وعلى غير طريقة شيخ الإسلام فيما ذكر . إذن لا بد أن تتصور المسائل تصورًا صحيحًا أول ما ترد عليك ، واحرص على ألا تدخلها في ذهنك إلا بوضوح ، ثم بعد ذلك تنتقل منها إلى غيرها ، أما إذا جمعت شتاتًا من المعلومات وشتاتًا من المقروءات دون تأصيل لهذه المسائل ، فإنها تلتبس عليك ، فقد يحصل – كما نرى ونسمع – التباس ، فبعضهم يجعل مسألة من مذهب السلف الصالح ، وليست من مذهبهم ، نعم هو قرأها لكن ما قرأها بتأصيل ، كأن يَذْكُر مسألةً ويقول فيها : إن شيخ الإسلام يرى فيها كذا . ولكنه يفهمها على غير وجهها ، ويأخذها من المستطردات ، ولا يأخذها من التأصيلات ، ويأخذها من الكلام المحتمل دون الكلام الواضح . إن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الاعتقاد تارةً يكون محتملاً ، فلا يؤخذ منه ، كما يكون في الاستطرادات ، وتارة يكون واضحًا جَلِيًّا ، وهذا الواضح والمحتمل إنما تفهمه إذا كنت قد أحكمت المختصرات التي ذكرتُ لك ، وهي الواسطية والحموية والتدمرية ، فحينها تتضح لك مراداته بكلامه بعد فهم مصطلحات العلوم ولغة أهل العلم كما ذكرتُ ذلك سالفًا ، هذا بالنسبة للاعتقاد ، وثَمَّ قسم آخر في الفقه والمسائل الفقهية ، أعرض له عَرْضًا مُوجَزًا .إن كلام شيخ الإسلام في الفقهيات ليس سهلاً ، وتقريره في مسائل الفروع والفقه ليس سهلاً ؛ وذلك لأنه جمع في ذهنه أقوال أهل العلم المختلفة ، وجمع في ذهنه أقوال السلف وأقوال الأئمة المتبوعين – رحم الله الجميع – وجمع في ذهنه الأدلة لهؤلاء وهؤلاء ، ولهذا نقول : تَمَيَّز كلام شيخ الإسلام في الفقهيات خصوصًا بتصوير المسائل وبكثرة الاستدلال عليها وبتنظيرها فِقْهيًّا ، وبكثرة التعليل بالقواعد الفقهية ، وبذكر الجمع والفرق ، وهو فن من فنون القواعد الفقهية ، وبالتعليل بمقاصد الشريعة ، وبالرجوع إلى الأصول من جهة المقاصد التي كانت في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – ومقصد الشارع من الأحكام ، كما هو قاعدته في المعاملات ونظريته في البيع . . . إلى آخر ذلك ، كذلك يُكْثِر من الترجيح فيما يذكر ، وهو في كل ذلك مُتَّبِع لمذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى ، فإن شيخ الإسلام في أصوله وفي تصوره وتصويره للمسائل حنبلي المذهب – رحمه الله – فتفهم كلامه بعد فهم كلام أهل المذهب ، ولهذا إذا أردت أن تتصور مسألة فقهية تَحَدَّث عنها شيخ الإسلام في العبادات أو في المعاملات أو في الأمور الاجتماعية أو الحدود والجنايات أو في السياسة الشرعية . . . إلخ ، فاقرأ قبل ذلك كلام الحنابلة في مختصراتهم أو اقرأ كلام أبي محمد المُوفَّق – رحمه الله – في المغني ، فإنك ترى في كلامه ما يؤصل لك المسألة ويصورها لك ، ثم بعد ذلك إذا قرأت كلام شيخ الإسلام يكون التصور قد سبق كلامه ؛ لأنه يعرض للخلاف مباشرة ويعرض للأقوال مباشرة ويذكر الأدلة ، وهذا لا بد له من مقدمة ، والمقدمة أن تنظر في كتب الحنابلة من جهة التصوير ومن جهة التقعيد والأقوال المختلفة والردود عليها من كتبهم ، ثم بعد ذلك تنظر في كلام شيخ الإسلام ، فترى أنه يذكر الروايات ويذكر الأقوال عن الإمام أحمد ، وهذه مستفادة من كتب الحنابلة . لقد تكلمنا حول خصائص كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على وجه العموم وفي العقيدة على وجه الخصوص ، وقد ذكرنا أن شيخ الإسلام – رحمه الله – تَمَيَّز كلامه بمزايا تنطبق على كلامه في العقيدة وعلى كلامه في مسائل الفقه وعلى كلامه في مسائل التفسير وغير ذلك ، وبقي لنا أن نفصل القول في كيفية قراءة مباحث شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهية . إن كلام شيخ الإسلام في الفقه ليس موجودًا في مُصَنَّف معروف له ، يعني أنه لم يؤلف مُؤلَّفًا في الفقه استوعب فيه مسائل الفقه حتى يكون هذا الكلام دِراسةً لِمَا كتبه في ذلك المُصَنَّف ، وإنما كان كلامه في الفقهيات مُبَعْثَرًا إما على شكل بحوث في بعض مؤلفاته ، وإما على صورة فتاوى أجاب بها المستفتين ، وإما على شكل قواعد أوردها ، أو نقول نُقِلت عنه عن طريق تلامذته ونحو ذلك ، ولهذا نقول : إن الناظر في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الفقه ينبغي له أن يكون مستحضرًا مزايا كلام شيخ الإسلام التي أسلفنا ذكرها ، وأن يتنبه أيضًا لِمَا سيأتي من خصائص كلامه في الفقهيات رحمه الله تعالى .إن شيخ الإسلام كما هو معلوم أحد المجتهدين الكبار ، وأطلق عليه أنه صاحب الاجتهاد المطلق ، وهو في الحقيقة جَمَع بين أنواع الاجتهاد ، فهو مجتهد مطلق ، أي غير مقيد بمذهب من المذاهب ، وكذلك هو مجتهد في المذهب الحنبلي الذي دَرَسَه وتتلمذ له أول حياته ، وهو مجتهد أيضًا في التخريج في المذهب ، وهو مجتهد أيضًا في الفتوى ، وهذه أنواع من طبقات المجتهدين ، فالمجتهد تارةً يكون مجتهدًا مطلقًا وهو أعلاها ، وتارةً يكون مجتهدًا في المذهب ، وتارة يكون مجتهدًا في التخريج ، وتارةً يكون مجتهدًا في الفتوى ، وفوق ذلك كله أن يكون مجتهدًا مستقلاً ، كالأئمة الأربعة – رحمهم الله – ونحوهم من أمثال ابن حزم ، الذين اجتهدوا في الأصول وفي الفروع ، ونعني بالأصول أصول الفقه ، يعني لا يقلدون غيرهم في الحكم على أي وسيلة من وسائل إثبات الحكم الشرعي ، لهذا كان شيخ الإسلام مجتهدًا في هذه جميعًا ، وهذه لها أثر إذا استحضرتها في رعاية كلامه ومواقع حججه ومزايا كلامه – رحمه الله تعالى – في الفقه .كان شيخ الإسلام – رحمه الله – إذا صَوَّر المسائل فإنه يصورها في الغالب على مبنى تصوير الحنابلة – رحمهم الله – لتلك المسائل ، فإنه درس المذهب الحنبلي وتتلمذ له وقرأه وحفظ منه ما حفظ ، وتصويره للمسائل إذا عرضها مبني على تصوير الحنابلة رحمهم الله ، وهذا يعني أن فهم كلامه في الفقهيات لا بد أن يُقَدِّم الناظر فيه لنفسه بالنظر في كتب الحنابلة حتى يكون تصوير المسألة واضحًا ، وحتى تكون صورة المسألة في ذهنه مطابقةً لِمَا سيصفه شيخ الإسلام ابن تيمية . ومن الأخطاء أن من الناس من يأخذ صورةَ المسألة وطريقةَ عرضها من بعض كتب شروح الأحاديث أو من بعض كتب الشافعية كالمجموع أو بعض كتب المذاهب الأخرى كالمُحَلَّى أو نحو ذلك ، ثم ينظر في كلام عالم كشيخ الإسلام ابن تيمية ، فيحصل له خلل يَقِلُّ أو يَكْثُر في تصور المسألة في ذهنه ، وإذا اخْتَلَّت صورة المسألة في الذهن فلا شك أن ما سيكون بعد ذلك من الاستدلال والتعليل ناقصًا .كذلك تَمَيَّز شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه الفقهي بسعة اطلاعه على مذاهب الناس ، فهو واسع الاطلاع في المذهب الحنبلي ، وهو يُورِد الروايات عن الإمام أحمد ، فقد يورد روايتين أو ثلاثًا وربما أكثر في بعض المسائل ، ويورد الأقوال في المذهب أيضًا بأسماء أصحابها ، ويورد أحيانًا أقوال الأئمة الآخرين ، واختلاف الأقوال عنهم ، وهو واسع الاطلاع في معرفة مذاهب السلف في المسائل ، ولهذا تَمَيَّز – رحمه الله تعالى – باستحضار الأقوال في المسألة ، حتى إنه يستوعب ما قيل فيها ، فلا يتكلم في المسألة إلا بعد أن يعرف المذاهب فيها ، وهذا يورده بكثرة ، فطالب العلم إذا انتبه لهذه الخصلة عند شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى – فإنه لا يشتت ذهنه ؛ لأن كثرة إيراد أصحاب الأقوال لتلك المسائل قد يشتت الذهن ، وطالب العلم يهتم أولا حين قراءة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بصورة المسألة قبل معرفة الخلاف ، ثم معرفة الخلاف العالي فيها في المذهب ، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الخلاف بين الإمام أحمد والأئمة الآخرين ، ثم إلى خلاف السلف في ذلك أو خلاف الأئمة المتبوعين الذين اندثرت مذاهبهم ، كالليث والأوزاعي وابن جرير . . . إلى آخر ذلك . فإذن شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى – لسعة علومه يخلط هذه جميعًا ، وخلطها لا شك أنه من أسباب كونه مجتهدًا مطلقًا اطلع على كلام الناس وتوسع فيه ، لكن كثرة نقل الخلاف والأقوال ينبغي لطالب العلم أن يلحظها حتى لا يتشتت ذهنه حين قراءة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الفقه .كذلك من مزايا كلامه في الفقهيات كثرة الاستدلال بالنصوص ، أعني القرآن والسنة ، واستدلاله بالقرآن يعني بالقراءات المتعددة ، واستدلاله بالسنة يعني بمختلف الروايات ، وهذا ظاهر بَيِّن ، فهو يورد الحجج من الكتاب والسنة ، وإذا عرض للأدلة من السنة فإنه يُدْخِل فيها الكلام على صحة الأحاديث وعلى الرجال ، وهذا قد ينفرد به ، يعني يكون نظرُه فيه نَظَرَ مجتهدٍ ، فقد يستقل بالحكم على الحديث أو يستقل بالاجتهاد في الحكم على الرجل في بعض الأحيان ، وإذا نَقَل كلام الأئمة في التصحيح والتضعيف اختار منه ، وإذا نقل كلام علماء الجرح والتعديل أيضًا رَجَّح ما يظهر له ، وهذا يعني أن كلامه في ذلك قد يكون مُوافَقًا عليه عند غيره من الأئمة ، وقد لا يكون مُوافَقًا عليه ، فطالب العلم إذا نظر في دليل مسألة أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ينبغي له أن ينظر في كلام الأئمة الآخرين في هذه المسألة ، حتى يظهر له كيف اجتهد شيخ الإسلام – رحمه الله – في هذا الحديث حتى وصفه بهذا الوصف من الحسن أو الصحة أو الضعف . . . إلى غير ذلك . وشيخ الإسلام يُضَعِّف كثيرًا بالنظر إلى المتن فهو ينظر إلى المتون لقوة ما أدركه من العلم نَظَرَ مجتهدٍ ، فيُضَعِّف ويصحح بالنظر إلى المتن ، ولو كان الإسناد ضعيفًا ولو كان الإسناد صحيحًا ، فربما كان من الأسانيد ما هو ضعيف وحَسَّنَ الحديث لمتنه ، وربما كان من الأسانيد ما هو صحيح وضعف الحديث أيضًا لمتنه ، وربما كان من الأسانيد ما هو ضعيف وصحَّح الحديث لمتنه ، وهذا قوة نظر مجتهد مطلق ، وهكذا كان الأئمة أحمدُ والشافعيُّ ومالك وأبو حنيفة وغيرهم يفعلون من قوة إدراكهم لقواعد الشرع ومعرفتهم بمقاصد الشارع .كذلك من مزايا كلامه في الفقهيات أنه – رحمه الله تعالى – ظهر في كلامه تطبيق أصول الفقه ، فهو حين يتكلم عن المسألة ويورد أدلتها يستنبط ، وهذا الاستنباط يوافق القواعد المعروفة في علم أصول الفقه ، ومن المعلوم أن علم أصول الفقه مبني على أربعة أركان : الحكم ، والدليل ، والاستدلال ، والمستدل .وشيخ الإسلام يخلط هذه جميعًا ويستحضرها استحضارًا واحدًا ، فتارة تجد أنه في المسألة الواحدة يأتيها من جهة النظر في الحكم ، ومن جهة النظر في الاستدلال ، ومن جهة النظر في الركن الأخير وما فيه من قواعد الترجيح إلى غير ذلك .فمن لم يدرك أصول الفقه فإن نظره في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية يكون ضعيفًا ، وهذا ظاهر ، فكثير من الناس ممن لم يتصور أدلة شيخ الإسلام ابن تيمية ربما استدل بدليل أورده شيخ الإسلام ابن تيمية ولم يدرك موقع الاستدلال ، فقد يورد الدليل لكن لا يدري ما وجه الاستدلال ؛ وذلك لأن معرفة الاستدلال مبني على وسيلة ، وهي علم أصول الفقه . إذن الاستدلال هو الركن الثالث من أركان أصول الفقه ، وهذا يحتاج إلى دقة نظر في المطالع لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في أصول الفقه . إن شيخ الإسلام ابن تيمية في أصول الفقه ليس مُقلِّدًا تَمامًا ، وإنما له اجتهادات في مسائل من أصول الفقه ، فهو لم يجتهد في كل المسائل كاجتهاد الأئمة المستقلين أحمد والشافعي ومالك . . . إلى آخر أولئك ، ولكنْ له اجتهاد في بعض المسائل ، واجتهاده مدون في المسودة في أصول الفقه ، فمن المسائل ما يوافق فيها مذهب الحنفية ، ومن المسائل ما يوافق فيها مذهب الشافعي ، يعني في أصول الفقه ، وإن كان أكثر اتباعه في مسائل أصول الفقه لكلام أئمة الحنابلة ، رحمهم الله تعالى .كذلك من مزايا كلامه – رحمه الله – كثرة إيراده للنظائر ، وهذا علم مهم ، أعني به علم النظائر في الفقه ؛ لأن المسائل الفقهية إذا تواردت وصارت نظائرها كثيرة قويت المسألة ، وقوي تأصيلُها ، وشيخ الإسلام – رحمه الله تعالى – يورد النظائر ويكثر منها فيما أسميناه فيما سبق بالاستطراد ، فإنه إذا أصل لمسألة يبدأ فيها بذكر النظائر التي يريد منها أن يبين أن هذه المسألة موافقةٌ لنظائر كثيرة جاء الشرع بالتوافق في الحكم فيها مع المسألة الأصلية التي عرض لها ، وهذا بلا شك من علوم المجتهدين ، لكن ليس كلٌّ يدرك معنى هذه النظائر التي يوردها شيح الإسلام ابن تيمية في كلامه .كذلك من مزايا كلامه – رحمه الله – التعليل بمقاصد الشريعة ، وهذا مما انفرد به شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى ، فإنه أكثر جِدًّا من التعليل بمقاصد الشريعة .لقد كان العز بن عبد السلام الصوفي الأشعري كثير الإيراد لذلك ، أعني إيراد الفتاوى بناء على المقاصد ، وله فيها مؤلفات من القواعد الكبرى والقواعد الصغرى وغير ذلك ، لكن شيخ الإسلام – رحمه الله – تميز بعرض مقاصد الشريعة على أصول السلف ، وهذه لم يُسْبَق إليها على نحو ما أورد في فتاويه وفي بحوثه ، واعتنى في مقاصد الشريعة بتصنيف الفروع على المقاصد . ومقاصد الشريعة لها أقسام :منها مقاصد راجعة إلى المكلف ، ومنها مقاصد راجعة إلى أحكام العبادات ، ومنها مقاصد راجعة إلى أحكام المعاملات ، ومنها مقاصد راجعة إلى الأحكام العامة في السياسة ، والسياسة الشرعية وغير ذلك .وشيخ الإسلام صَنَّف الفروع بناء على المقاصد ، وهذه بلا شك تحتاج إلى نَظَرِ مَن هضم أدلة الشرع والمسائل والتحقيق فيها حتى يستطيع أن يُلْحِق كل مسألة بمقاصدها في الشرع ، وهذه ينبغي لطلاب العلم أن يهتموا بها ؛ لأن حكم المسائل الفقهية ينبني على مقاصد الشريعة .إن شيخ الإسلام كثيرًا ما يذكر أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها ، وهذا ينبني عليه كل الأحكام الفقهية ، فإذا نظر في مسألة لم ينظر إليها من جهة الدليل فقط إذا تنازع في المسألة عِدَّةُ أدلة ، وإنما ينظر إليها مع ذلك بهذه الأمور التي ذكرنا من أصول الفقه والنظائر والمقاصد والفقه والقواعد الفقهية وما سيأتي .إذن مقاصد الشريعة من العلوم المهمة ، ومن أخطاء الناظر في كلام شيخ الإسلام الفقهي أنه إنما يهتم حين النظر بالدليل من النص ، وهذا بلا شك ضعف فقهي راجع إلى عدم معرفة العلم على حقه ، وإنما الناظر في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ينبغي له أن يدرك ما تنبني عليه الأحكام ، والأحكام لا تنبني فقط على الدليل من الكتاب والسنة ، بل تنبني على أشياء كثيرة معروفة عند المحققين من أهل العلم ، فمَن لم يهتم بكل مسألة يوردها شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه ربما نظر إلى المسألة بغير النظر الذي تستحقه .كذلك من مزايا كلامه – رحمه الله – التعليل بالقواعد الفقهية ، فشيخ الإسلام – رحمه الله – كثير التعليل فيما يُورِده في المسائل الفقهية بالقواعد ، سواء كانت القواعد العامة المتفق عليها بين المذاهب ، أم القواعد الخاصة في المذهب الحنبلي ، أو في غيره من المذاهب ، فهو يكثر التعليل ، والقواعد الفقهية بها يتم فَهْم المسائل الفقهية على نسق واحد ؛ لأن القواعد تجمع المسائل بحيث لا يكون ثَمَّةَ تناقض بين هذه المسألة وتلك المسألة ، ومن عجائب مَن يقرءون كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهي أن منهم من يُرجِّح تارةً كلام شيخ الإسلام في مسألةٍ ، ويُرَجِّح كلامَ غيرِه في مسألة أخرى ، وهذا عند الناظر في الفقه نَظَرَ مجتهدٍ متعمق لا يُقْبَل البتة ؛ لأنه يجد أن الترجيح كان بناءً على نظر في المسألة بانفرادها ، وهذا ليس نظر مجتهد وليس نظر عالم ، بل العالم إذا نظر في مسألة بالنظر في الأدلة وباعتبار ما جاء فيها فإنه إذا نظر في مسألة أخرى لا يخلي نظره من كل المسائل التي تلحق بالقاعدة التي تندرج تحتها هذه المسألة التي يريد أن يجتهد فيها .ولهذا لا تجد في فتاوي شيخ الإسلام ولا في اختياراته تناقضًا بين المسائل ، كذلك المذاهب ، فلا تجد مثلاً في المذهب الحنبلي في اختياراته – يعني فيما عليه المتأخرون – تناقضًا ، كذلك المذهب الشافعي ، كذلك المذهب الحنفي ؛ لأنهم يبنون علمهم على القواعد ، تارةً يكون في المسألة دليل ضعيف ، لكن يُقَوِّي هذا القول أنه مُندَرِج تحت قاعدةٍ لو قلنا بهذا الدليل فيها لانخرمت القاعدة في نظائر أخرى ، وهذا يسبب التناقض ، ومن المعلوم أن الشريعة لا تكون متناقضة في الأحكام المتماثلة ، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عدة وابن القيم ، فإنهما قررا أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين ، ولا تساوي بين مفترقين ، وهذا مما ينبغي أن يهتم به طالب العلم كثيرًا في الاستفادة من كلام شيخ الإسلام – رحمه الله – في الفقه . إن من طلبة العلم من ينظر في المسألة مجردة بأدلتها ، فيقول : هذا الدليل صحيح ، وهذا الحديث إسناده صحيح . فيأخذ بالحكم في المسألة ، وإذا نظر في مسألة أخرى نظر إليها من جهة الأدلة فقط دون بقية ما يُستدَل به في المسألة ، وإذا تأملت كلامه وجدتَ أن أخذه في تلك المسألة بذلك القول يناقض أخذه في المسألة الأخرى بالقول الآخر ؛ لأن هذا مبني على قاعدة ، وهذا مبني على قاعدة ، فيتصادم المأخذان ، وهذا عيب لا شك عند الناظر في الفقه ، لكن لأجل ضعف العلم بالفقه والضعف في علوم الشريعة جميعًا في هذا الزمان لا يحس طلبة العلم بهذا التناقض ، وهذا من الضعف الذي ينبغي تداركه بالتأمل في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية .كذلك من مزايا كلامه – رحمه الله – أنه يطبق في كلامه الفقهي ما يسمى عند المجتهدين بعلم الجمع والفرق ؛ لأن المسائل مجتمعة ومتفرقة ، فالمسائل المجتمعة هي التي يلحق الحكمُ فيها الذي أعطيتَه المسألة الأخرى التي تقرر الحكم فيها بالدليل ، فإذا أتى المجتهد نظر في المسألة وما يجمعها مع المسائل الأخرى التي اتضح دليلها أو التي اتفق العلماء عليها ونحو ذلك ، كذلك في الفرق وهو المسائل المشتبهة صورةً ، ولكنها تختلف حكمًا ، هذا مما اعتنى به شيخ الإسلام ، فلا تجد شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى – يفرق بين المجتمعات ، ولا يجمع بين المفترقات في المسائل الفقهية .هذه خصائص عامَّة لكلام شيخ الإسلام لا بد من رعايتها والنظر فيها حتى تُنَمَّى عند طالب العلم مَلَكة النظر في المسائل الفقهية ، وحتى يتدرج في تربية نفسه عِلْميًّا في إدراك كلام أهل العلم الفقهي ، والناس في هذا الزمن في هذا الأمر – أعني في الفقه – توسعوا فيه بغير بصيرة ، والتحقيق فيه على طريقة المتقدمين قليل قليل .إذا قرأت كلام شيخ الإسلام – رحمه الله – في مسألة من المسائل فينبغي أن تراجع كتب المذهب الحنبلي حتى يتم تصور المسألة على الصواب ، فإذا تصورت المسألة ومأخذ المسألة وضابطها في الباب الذي وردت فيه ، بعد ذلك ترجع إلى كلام شيخ الإسلام وتقرؤه ، فإذا قرأت كلام شيخ الإسلام بطوله مَيِّز بين كلامه في الاستطراد والتأصيل والتفريع إلى آخره .هذه هي الخلاصة التي يمكن أن تستنتجها ؛ لأنه ربما تشعر أنك لا تخلص من كلام شيخ الإسلام برأي واضح ، لكن إذا نظرت وتأملت ربما خَلُصت لك مسائل كثيرة ، وعليك بمراجعة كلام تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية وما ذكروه من اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وأعني بهم ابن القيم وابن مفلح – رحمهما الله – فإن ابن القيم كتبه مشهورة كزاد المعاد وأعلام الموقعين … إلخ .وأما ابن المفلح فإنه يذكر كثيرًا في كتابه ” الفروع ” وفي كتابه ” الآداب الشرعية ” رأي شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : ” قال شيخنا أو قاله شيخنا ” . وهذا يعني أن هذه المسألة التي أوردها صاحب الفروع هي قول شيخ الإسلام ابن تيمية الذي خلص إليه وعرفه تلامذته عنه ، رحمهم الله تعالى .كذلك هناك كتب خاصة ذَكَرت اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية كـ ” الاختيارات ” وكمختصر الفتاوى ، وفي الإنصاف أيضًا للمرداوي ، يذكر في كثير من المسائل اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وفي لفظ الاختيار ما يشعر بأنه يختار من أقوال غيره ، وهذا يكفي في أنه لا يتفرد بقول من الأقوال فيما اختار ، إذا قلنا : اختار شيخ الإسلام . يقتضي قول القائل : اختار . أن هناك أقوالا اختار منها ، وهذا واقع وصحيح ، فإن هذه الاختيارات مبنية على معرفته وعلمه بأقوال مَن سبقه من أهل العلم في تلك المسائل ، فإنه ليس لشيخ الإسلام مسألة خرق فيها الإجماع البتة ، بل ما من مسألة إلا وقد سُبِق إلى القول فيها ، إما سبقه جمهور أو سَبَقه كثير أو سبقه قلة ، المهم أنه لا يفترع المسائل افتراعًا ، وإنما يتابع مَن قَبْلَه ولا يتفرد في مسألة بقول لم يسبق إليه .ثم بعد ذلك عليك بمراجعة الكلام مرة أخرى حتى يتسق لك مع خلاصة الرأي الذي أورده ابن القيم وابن مفلح وصاحب الاختيارات مُرادُ شيخ الإسلام ، فتبدأ من البداية ، هذا في آخر مرحلة وأنت تتصور الحكم الذي خلص إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ، فإذا بدأت بعد ذلك ستعرف كيف يذهب ويجيء ويتموج في إيراد الأدلة وفي إيراد التعليلات والقواعد والمقاصد ، وهذا كله يجعل طالب العلم فاهمًا لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وينمي عنده المعرفة والدربة في كيفية التعامل مع المسائل الفقهية .
مسألة أخيرة : إذا اختلفت الفتاوى والنقول عن شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى الذي جَمَعه الشيخ عبد الرحمن ابن قاسم رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ، فربما تجد فتويين متناقضتين يعني إحداهما على قول ، والأخرى على قول آخر ، هذا إذا عرفت المتقدم من المتأخر منهما ، فإن كلام شيخ الإسلام المعتمد هو المتأخر زَمَنًا في الفتويين ، وإذا لم تدركه وهو الأكثر ، فإنك ترجع إلى الكتب التي أسلفتُ لك فيما ذكر ابن القيم وابن مفلح وصاحب الاختيارات ، فيكون هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى . وهذا خلاصة لهذا المبحث المهم وهو الذي عُنْوِن له بـ ” كيف تُقْرَأُ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ” . ولا شك أن هذا يعطيك لفتة في أن العلم ينبغي أن يؤخذ بحقه ، وأن يؤخذ بجد ، ولا يؤخذ بالأماني ، فإن العلم اليوم صارعه الشباب والصغار ، ولكن العلم في السابق لا يصارعه إلا الرجال الفحول ، وهذا من نكَدِ الزمان وأهله ، لكن ينبغي لطلبة العلم الحريصين أن يكونوا على بينة مما ذكرنا ، وأن يسعوا في أخذ العلم كما أخذه العلماء السالفون ، فإنه بذلك تقوى الملكة ، وتبرأ ذمة المرء في النظر في نصوص الشريعة ، فإن التجرؤ على النظر في نصوص الشريعة دون استعداد ودون أخذ للمسألة بحقها هذا لا شك يجر المرء إلى الإثم ؛ لأنه يقول على الله وعلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – ما لا يعلم ؛ لأنه ليس عنده وسائل العلم . أسأل الله لي ولكم أن يشرح صدورنا ، وأن يوفقنا ، وأن يلهمنا القول والعمل والصواب فيهما ، وصلى الله على نبينا محمد .
الملف الصوتي : من هنا