الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين، أمَّا بعدُ:
فهذه عودة للكتابة بعد وقت طويل، أستهلها بنقل خاطرة كنت قد كتبتها في يوم عرفة من السنة الماضية عندما رأيت نقاشًا يؤول إلى نتيجة معتادة بين بعض الإخوة في مسألة فقهية حول ترك نافلة وقد اشتد النزاع فيها وتم تبادل الاتهامات، بينما اجتهد الصحابة -رضي الله عنهم- في الفريضة ولم يثرب عليهم الرسول -صلى الله عليه وسلَّم- كما سيأتي بيانه، وقبل أن أشرع في نقل الردّ أقول، ما أحوجنا إلى هدي نبينا -صلى الله عليه وسلم- وإلى هدي صحابته -رضي الله عنهم- وهدي سلفنا الصالح، نسأل الله أن يوفقنا إلى ذلك، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} (53) سورة النحل .
وننتقل إلى المقصود:
" لست معتادًا على كثرة المداخلات مؤخرًا وهذا من باب الإمساك وترك من هو أكثر علمًا يتكلم .
ولكنني أجد نفسي أقول .. بارك الله فيكم على مقاصدكم ونياتكم جميعًا -إن حسنت- أيها الإخوة، وعلى غيرتكم أيضًا .
مداخلتي هنا لن تكون فقهية بقدر ما هي ملاحظة وقراءة في ظاهرة بدأت تكثر في منتدياتنا السلفية -حفظها الله-؛ لعل الكثير من إخواننا -وفقهم الله ورعاهم- ينتبهون ويمسكون ويتركون الأمر لأهله، فليس من الواجب عليهم الإدلاء بدلوهم في كل مسألة، ونطمنهم أن الحق لن يندرس بإمساكهم بل قد يؤجرون على ذلك الإمساك .
فالمرء يحن إلى مدارسات ونقاشات علمية (هادئة) مع إخوانه يستفيد منها كتلك التي كانت في ما سبق والتي أشير لبعضها، والتي أصبحت تعز علينا في هذه الأيام.
كنت في شبكة سلفية أخرى اطلع على نقاش شبيه، فإذا بابتسامة عريضة تنطبع على المحيا من كثرة ما رأيت من تصحيح وتضعيف لحديث النبي -صلى الله عليه وسلَّم- بدون إحالة على مليء في ذلك، من أعضاء يعترفون بعدها أنهم من المبتدئين -عبر رسائل خاصة لمدراء هذه المنتديات- ولو تركوا الأمر لأهله ممن تخصص في علم الحديث -وكاتب هذه السطور ليس من هؤلاء الذين تخصصوا في هذا العلم ولذلك أُمسك- لكان خيرًا لهم؛ وتزداد ابتسامتي كلما قرأت تقعيدًا جديدًا لا علاقة له بأصول الفقه لا من قريب ولا من بعيد، وإنما إتيان بالعجائب، فكثير من الناس يدخلون على مثل هذه المواضيع يحسبونها مظنة النقول (الموثقة) والتحريرات (المحققة) فإذا بهم يصيبهم الإجهاد كي يلتقطوا بالملاقيط -وكثير منهم لا يعرف كيف يقوم بهذا- من بين الاجتهادات (الغريبة) والتطبيقات الفريدة لأبي فلان الفلاني وإخوانه -سددهم الله-؛ فلا يكاد يخرج بنقل أو عقل، بل بانطباع سلبي عن إمكانية حدوث نقاش هادئ بدون تشنج في مسألة من المسائل (الـفقهية) عبر الشبكة العنكبوتية مؤخرًا!
ولا يكونون بعدها -أي هؤلاء الناس- إلا في حيرة أكثر مما دخلوا بها على هذا الموضوع طلبًا للاسترشاد، فلا هم آنسوا ومالوا إلى موافقة أحد الأطراف للسنة ولا هم تعلموا بعضًا من أدب النقاش والحوار من ذلك التشويش الذي يحصل بدون قصد من كثيرين .
هذا وحيَّاك الله أخانا فلان، ونسأل الله أن لا يجعل نقاشاتنا العلمية تلاومًا فنشابه الذين قال الله تعالى فيهم: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} (30) سورة القلم، ولا أحسبك إلا ما زلت على هذا الدرب من اجتناب ذلك منذ عرفتك، وأن تكون من باب قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} (50) سورة الصافات والتي قال فيها ابن القيم -رحمه الله- في كتابه حادي الأرواح: " وإذا تذاكروا ما كان بينهم، فتذاكرهم فيما كان يشكل عليهم في الدنيا من مسائل العلم وفهم القرآن والسنة وصحة الأحاديث أولى وأحرى، فإن المذاكرة في الدنيا في ذلك ألذ من الطعام و الشراب والجماع؛ فتذاكر في الجنة أعظم لذة.
وهذه لذة يختص بها أهل العلم ويتميزون بها على من عداهم، والله المستعان" ص222/221 اهـ من المخطوطة المرفقة من هنا وهنا .
وأقول: أما غير أهل العلم فإن من صفاتهم الظاهرة أنهم يلتذون بالتلاوم والتشنج واللجاج، فكفى بهذه بشارة لهم، وأما أهل العلم فإنهم يلتذون بالتساؤل والنقاش العلمي الهادئ الرصين المبني على الاحترام وتغليب حسن الظن وإعطاء الصورة الحسنة المشرقة لهذه الدعوة، وكما قيل قديمًا: كل إناء ينضح بما فيه .
نسأل الله أن يجعلنا من المتسائلين لا المتلاومين وأن يحشرنا معهم وأن تكون الجنة موعدنا، دعاء ندعو به يوم عرفة إن شاء الله ونسأله الإجابة والإخلاص في القصد .
تعليق