من مكايد الشيطان الانشغال بالمهم عن الأهم في الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
في عصر ما سُمِّي بالصحوة الدينية التي أراد الله لها أن تعمّ جميع البلدان والأديان منذ العقد قبل الأخير من القرن الرابع عشر الهجري ـ ليعلم الله مَنْ يختار دينَه الحقَّ الواحدَ، ومن يختار ديناً من أديان الباطل المتعددة، مَنْ يختار دين الاتّباع لشرع الخالق، ومن يختار ديناً من أديان الابتداع والهوى مِنْ شرع المخلوق بغير إذن خالقه؛ في هذا العصر عرف الشيطان مَنْ تجربته أن ليس من السهل ثني الناس عن محاولة الرجوع إلى أديانهم التي وجدوا عليها آباءهم مهما كان ارتباطها بالأصل الذي أنزل عند الله أو انحرافها عن هذا الأصل وهو الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” الأنبياء أولاد علات، دينهم واحد وأمّهاتهم شتى“ متفق عليه؛ فلجأ إلى مَكِيدته القديمة المتجّددة: توجيه متِّبعيه ـ وهم الأكثرون من المنتسبين إلى الدِّين الحقِّ أو الأديان الباطلة ـ توجيههم إلى الانشغال والإشغال بالمهمِّ فما دونه عن الأهم في الدين، بل بالانشغال والإشغال بفكر أشياخهم ومبتدعي طُرُقهم وفِرقهم وطوائفهم وجماعاتهم وأحزابهم عمّا أنزله الله على رسله من الهدى في الدين أو في الدعوة إليه أو الجهاد في سبيله.
وكما بدأ الشيطان أعظم فتنه ومكايده بتوجيه متبعيه قبل بعثة نوح عليه السلام ـ إلى التقرب إلى الله بتقديس آثار الصالحين وتعظيم المقامات والمشاهد والمزارات والأنصاب التي بَنَوْها عليها طلباً لرضا الله عنهم وشفاعة أوليائهم لهم عند الله كما قال الله تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} [يونس: 18] وكما روى البخاري وابن جرير رحمهما الله في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23]، وكان أعظم عبادتهم إياهم: دعاءهم والاستغاثة بهم وطلب المدد منهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” الدّعاء هو العبادة“، وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194].. وكما طوّر الشيطان أعظم فتنة ومَكايِده قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بتوجيه متبعيه من مشركي قريش إلى الانشغال بالعبادات القولية والفعلية الصالحة مثل الحج، والاستغفار، وإخلاص الدين والدعاء لله وحده في الرّخاء، وعمارة المسجد الحرام، وسقاية الحاج، والعبادات الفاسدة ـ مثل الصلاة مكاءً وتصدية، والطواف بالبيت عراة، والتلبية بالشرك: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) ـ؛ الانشغال بذلك عن إفراد الله بالدعاء، وتطهير العبادة من الشرك والابتداع، وتطهير بيت الله من الأوثان وأوّلها آلهة قوم نوح التي نَقَلَها إلى مكة المباركة أحد أعوان الشيطان: (عمرو بن لَحيَّ) وهو يحسب أنه على الهدى كما قال الله عن أمثاله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].
كما فَـتَنَ الشيطان أكثر الناس بذلك في الماضي؛ فَتنَ أكثر الناس بمثل ذلك بعد بِعْثة خاتم النبيين رسول الله إلى الناس كافة؛ فأعاد الفاطميون أوثانَ الجاهلية الأولى وغُلُوَّها وبِدَعَها، وأَمَرَّها مَنْ جاء بَعْدهم من ولاة أمْر المسلمين وبخاصة العثمانيين في خرافتهم غير الراشدة وغير المهدية، لا أستثني من الدول المنتسبة إلى الإسلام غير دولة الدّعوة إلى التوحيد والسُّنَّة في القرون الثلاثة الأخيرة، حتى الأيوبيين الذين ورثوا الحكم من دولة الفاطميين أبْقَوا جميع أوثانهم وبدعهم، بل ذكر السّيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء أن صلاح الدين الأيوبي تجاوز الله عنه هو الذي بَنَى تُرْبَة الشافعي [مِنْ أشهر أوثان المنتسبين إلى السنة اليوم]، ولم يظهر بين الأيوبيين والفاطميين تنازع في الدين ولا الدنيا فإن العاضد ـ آخر مُخَرِّفِي وولاة الفاطميين هو الذي عيَّن صلاح الدين [الأشعري اعتقاداً] تجاوز الله عنه وزيراً وقائداً للجيش ولقّبه بالملك الناصر، ولم يَقْطع صلاح الدين الخطبة للعاضد إلا في مرض موت الأخير عام 567 (أعلام الزّركلي).
ولقد صدق إبليس ظَنَّه على أكثر المنتسبين اليوم للإسلام فضلاً عن غيرهم ـ فاتّبعوه إلا فريقاً ـ واحداً ـ من المؤمنين؛ فإن أكبر الجماعات والأحزاب والفِرَق والطوائف الموصوفة بالإسلامية تنشغل وتشغل الناس عن أعظم وأهم وأوّل ما أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله: إفراد الله بالعبادة ونفيها عما سواه والتّقيّد بمنهاج النبوة قولاً وفِقْهاً وعملاً وتقريراً ودعوةً؛ بما دون ذلك من الدين أو ما زاده الهوى عليه، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وقال كل رسولٍ لقومه قبل كل قول وعمل: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]. أما الفِرَق المنتمية لأهل السنة فضلاً عن غيرهم ـ فتجنّبتْ باصرارٍ وإلحاح غريب هذه الأولية العظيمة ـ مُخَاِلفَةً شرعَ الله تعالى وسُنَّةَ رسوله صلى الله عليه وسلم ـ وحافظتْ ـ منذ نشأتْ حتى اليوم ـ على الانشغال والإشغال بما ليس من الدين أو ليس من أولياته:
1- المتصوّفة؛ بالذكر على طرائق عدّة ليس بينها طريق محمد صلى الله عليه وسلم: لفظ اسم الله مفرداً، الرّقص والغناء الدّيني ـ زعموا ـ، الشطح على منوال: ما في الجبّة إلا الله، سبحاني ما أعظم شاني، وحدة الوجود، اللهم انتشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في بحار الوحدة، صلاة الفاتح، الصَّلاة النّارية، ونحو ذلك من الضلال عن الاتباع إلى الابتداع.
2- الإخوان المسلمون؛ بمحاولة الاستيلاء على السلطة بالسّياسة إن لم تتحقق بالعنف، (ولم يرسل الله رسولاً لتحقيق هذه الغاية وإنما السلطة والولاية وسيلة قد تتحقق أولاً تتحقق نتيجة للالتزام بالتوحيد والسنة، وعندما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبداً رسولاً وبين أن يكون مَلِكاً رسولاً اختار العبودية والرّسالة)، وبما دون الاعتقاد من أمور الدين وبخاصة المعاملات.
3- حزب التحرير؛ بمحاولة تغيير نظام الحكم واختيار تسمية الخلافة [أو الخرافة] على المُلْك والسّلطنة والرّئاسة؛ مُصَادَمَةً صريحةً لاختيار الله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة: 247] وقال الله تعالى لبني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام: {اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً} [المائدة: 20]، وسمّى الله تعالى ولاية آل إبراهيم وسليمان وداود ويوسف عليهم السلام مُلْكاً فقال تعالى عن آل إبراهيم: {وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54]، وعن سليمان: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]، وعن داود: {وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 251]، وعلى لسان يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف: 101]، ولا مشاحة في هذا الاصطلاح فالألفاظ مترادفة وأَقْرَبُها إلى نصوص الوحي: المُلك، وقد وصف الله نبيّه داود عليه السلام بكلمة {خَلِيفَة} في قول الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26]، ووصف النبيُّ صلى الله عليه وسلم خيرَ الولاة بعده بالخلفاء الراشدين المهديين، وهم الأربعة حسب ترتيب ولايتهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، ووصف الثمانية بعدهم بالخلفاء من قريش، وحزب التحرير ومثله حزب الإخوان ـ إلا ما رحم الله ـ غير راضين عنهم، بل أكثرهم يقدح في عثمان المشهود له بالجنة والذي مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض.
وأكثر وَصْفِ الله عباده بالخلافة يعني: يَخْلُف بعضهم بعضاً صالحين أو طالحين كقول الله تعالى عن ذريّة آدم صالحهم وطالحهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] بدليل قوله تعالى عن لسان الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} [البقرة: 30]، ولو كان المقصود آدم عليه السلام لم يوصف بالإفساد وسفك الدماء، وقال تعالى عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم على اختلافهم: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165] ، وقال تعالى عن قوم هود عليه السلام: {وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] وقال الله تعالى عن قوم صالح عليه السلام: {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف: 74]، وقال تعالى تقريعاً للمشركين: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
4- حزب الجهاد؛ بالتّكفير والتّفجير والاغتيال، لتعود الأرض للمسلمين أولاً لا ليعود المسلمون إلى الدين الحق أولاً، مخالفةً صريحة لسُنة الله التي قد خلت في عباده وفي رسالاته جميعاً بما أنزل من كتبه وما أرسل من رسله ومخالفةً صريحةً لسُنَّة جميع رسل الله في إبلاغ دينه والدّعوة والجهاد في سبيله. ولم تُحرِّك أوثان المقامات والمزارات والأضرحة والأنصاب في أكثر بلاد المسلمين العربية والأعجمية من قلوبهم ما حرّكه الخلاف على الأرض والسلطة في أفغانستان والبوسنا والشيشان وفلسطين والعراق.
وكان الجهاد الحق (لا الوهمي ولا الإجرامي ولا العدواني) في شرع الله وسُننِ رسله يبدأ بالدعوة إلى التوحيد والسنة والتحذير من الشرك والبدعة (الأمر الذي لا وجود له في المنهاج العملي للحلاّج والبسطامي، ولا للبنّا وقطب، ولا للظواهري وابن لادن وعمر عبد الرحمن، ولا للنّبهاني وزلّوم والمسعري) تجاوز الله عنهم أجمعين، وينتهي بالقتال في سبيل الله مع ولي الأمر لتكون كلمة الله هي العليا وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وليس العكس كما يفعل المنحرفون عن منهاج النبوة.
5- جماعة التبليغ؛ بالخروج في سبيل الله ـ زعموا ـ على منهاج محمد إلياس عفا الله عنّا وعنهم جميعاً لا على منهاج النبوة، وبالاشتغال والانشغال بسُنن العادات من الأكل والشرب واللباس والنوم عن تعلم وتعليم أحكام الشريعة وفرائضها وأركانها في الاعتقاد والعبادات والمعاملات الشرعية.
6- وحتى إخواننا الموصوفون بالسّلفيين أو الأثريين أو أهل الحديث (وهم وحدهم المنتمون إلى السَّلف الصالح لا إلى الخَلَف، والمكتفون بمنهاج النبوة عن المناهج المحدثة في الدين) لا يُعْرَف أكثرهم إلا بالالتزام بِسُنَن الهيئات على مذهب المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، أو بالخلاف في الصفات من جانب الاعتقاد، أو بتزكية أنفسهم رداً ـ لهجمة أهل الباطل عليهم، ويشغلهم ذلك عن التركيز على إفراد الله بالعبادة ونفيها عما سواه، الأمر الذي يجهله أو يتقرب إلى الله بمخالفته أكثر المسلمين اليوم، وممن انتسب إلى السّلفية زوراً من انشغل عن الدين والدعوة بالتكفير والتفجير والعدوان. ويتفق معظم المنتسبين إلى الإسلام المنتمين إلى السنة أو إلى الانحراف عنها في تعلّمهم وتعليمهم ودعوتهم للدين على تصرف اهتمامهم واهتمام أتباعهم عن تدبر كتاب الله المُبيَّن المُيَسَّر وحفظ حدوده (وهو فريضة على كل مسلم ومسلمة) والعمل به وتبليغ أحكامه، إلى حِفْظه عن ظهر قلب (وهو نافلة)، وحِفْظ قواعد تجويده المُحْدَثة (وما زاد منها على الضروري لصحّة المعنى من قواعد اللغة فتكلُّف لا سند له من الآيات ولا الأحاديث ولا الآثار ولا فقة الأئمة الأربعة كالقلقلة الكبرى، والإشمام، وتجديد حركات المدّ بين أربع وستّ حركات، والتزام عدم الوقوف على رؤوس بعض الآي، أو الوقوف على رأس الآية ثم العودة إلى ربط قراءة الآية السّابقة بقراءة الآية اللاحقة حتى يَسْتَبين المعنى، (وهذا استدراك على الله وعلى رسوله واتباع لغير سبيل المؤمنين القدوة).
ويتجاوز الابتداع حدوده فيتفاخر المسلمون بزخرفة المصاحف وبوضع برامج لحفظ القرآن في شهرين أو 27 يوماً، وبرامج لحفظ الكتب الستة في الحديث، وليس لهذا الالتزام والإلزام قدوة إلا النسك الأعجمي (في لفظ ابن حزم رحمه الله) وهو ما ضلّ به أكثر الأعاجم المنتسبين للإسلام عن التدبر والعمل والتبليغ على منهاج النبوة، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وأتباعه.
عمان 1425هـ
المصدر
بسم الله الرحمن الرحيم
في عصر ما سُمِّي بالصحوة الدينية التي أراد الله لها أن تعمّ جميع البلدان والأديان منذ العقد قبل الأخير من القرن الرابع عشر الهجري ـ ليعلم الله مَنْ يختار دينَه الحقَّ الواحدَ، ومن يختار ديناً من أديان الباطل المتعددة، مَنْ يختار دين الاتّباع لشرع الخالق، ومن يختار ديناً من أديان الابتداع والهوى مِنْ شرع المخلوق بغير إذن خالقه؛ في هذا العصر عرف الشيطان مَنْ تجربته أن ليس من السهل ثني الناس عن محاولة الرجوع إلى أديانهم التي وجدوا عليها آباءهم مهما كان ارتباطها بالأصل الذي أنزل عند الله أو انحرافها عن هذا الأصل وهو الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” الأنبياء أولاد علات، دينهم واحد وأمّهاتهم شتى“ متفق عليه؛ فلجأ إلى مَكِيدته القديمة المتجّددة: توجيه متِّبعيه ـ وهم الأكثرون من المنتسبين إلى الدِّين الحقِّ أو الأديان الباطلة ـ توجيههم إلى الانشغال والإشغال بالمهمِّ فما دونه عن الأهم في الدين، بل بالانشغال والإشغال بفكر أشياخهم ومبتدعي طُرُقهم وفِرقهم وطوائفهم وجماعاتهم وأحزابهم عمّا أنزله الله على رسله من الهدى في الدين أو في الدعوة إليه أو الجهاد في سبيله.
وكما بدأ الشيطان أعظم فتنه ومكايده بتوجيه متبعيه قبل بعثة نوح عليه السلام ـ إلى التقرب إلى الله بتقديس آثار الصالحين وتعظيم المقامات والمشاهد والمزارات والأنصاب التي بَنَوْها عليها طلباً لرضا الله عنهم وشفاعة أوليائهم لهم عند الله كما قال الله تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} [يونس: 18] وكما روى البخاري وابن جرير رحمهما الله في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23]، وكان أعظم عبادتهم إياهم: دعاءهم والاستغاثة بهم وطلب المدد منهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” الدّعاء هو العبادة“، وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194].. وكما طوّر الشيطان أعظم فتنة ومَكايِده قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بتوجيه متبعيه من مشركي قريش إلى الانشغال بالعبادات القولية والفعلية الصالحة مثل الحج، والاستغفار، وإخلاص الدين والدعاء لله وحده في الرّخاء، وعمارة المسجد الحرام، وسقاية الحاج، والعبادات الفاسدة ـ مثل الصلاة مكاءً وتصدية، والطواف بالبيت عراة، والتلبية بالشرك: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) ـ؛ الانشغال بذلك عن إفراد الله بالدعاء، وتطهير العبادة من الشرك والابتداع، وتطهير بيت الله من الأوثان وأوّلها آلهة قوم نوح التي نَقَلَها إلى مكة المباركة أحد أعوان الشيطان: (عمرو بن لَحيَّ) وهو يحسب أنه على الهدى كما قال الله عن أمثاله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].
كما فَـتَنَ الشيطان أكثر الناس بذلك في الماضي؛ فَتنَ أكثر الناس بمثل ذلك بعد بِعْثة خاتم النبيين رسول الله إلى الناس كافة؛ فأعاد الفاطميون أوثانَ الجاهلية الأولى وغُلُوَّها وبِدَعَها، وأَمَرَّها مَنْ جاء بَعْدهم من ولاة أمْر المسلمين وبخاصة العثمانيين في خرافتهم غير الراشدة وغير المهدية، لا أستثني من الدول المنتسبة إلى الإسلام غير دولة الدّعوة إلى التوحيد والسُّنَّة في القرون الثلاثة الأخيرة، حتى الأيوبيين الذين ورثوا الحكم من دولة الفاطميين أبْقَوا جميع أوثانهم وبدعهم، بل ذكر السّيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء أن صلاح الدين الأيوبي تجاوز الله عنه هو الذي بَنَى تُرْبَة الشافعي [مِنْ أشهر أوثان المنتسبين إلى السنة اليوم]، ولم يظهر بين الأيوبيين والفاطميين تنازع في الدين ولا الدنيا فإن العاضد ـ آخر مُخَرِّفِي وولاة الفاطميين هو الذي عيَّن صلاح الدين [الأشعري اعتقاداً] تجاوز الله عنه وزيراً وقائداً للجيش ولقّبه بالملك الناصر، ولم يَقْطع صلاح الدين الخطبة للعاضد إلا في مرض موت الأخير عام 567 (أعلام الزّركلي).
ولقد صدق إبليس ظَنَّه على أكثر المنتسبين اليوم للإسلام فضلاً عن غيرهم ـ فاتّبعوه إلا فريقاً ـ واحداً ـ من المؤمنين؛ فإن أكبر الجماعات والأحزاب والفِرَق والطوائف الموصوفة بالإسلامية تنشغل وتشغل الناس عن أعظم وأهم وأوّل ما أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله: إفراد الله بالعبادة ونفيها عما سواه والتّقيّد بمنهاج النبوة قولاً وفِقْهاً وعملاً وتقريراً ودعوةً؛ بما دون ذلك من الدين أو ما زاده الهوى عليه، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وقال كل رسولٍ لقومه قبل كل قول وعمل: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]. أما الفِرَق المنتمية لأهل السنة فضلاً عن غيرهم ـ فتجنّبتْ باصرارٍ وإلحاح غريب هذه الأولية العظيمة ـ مُخَاِلفَةً شرعَ الله تعالى وسُنَّةَ رسوله صلى الله عليه وسلم ـ وحافظتْ ـ منذ نشأتْ حتى اليوم ـ على الانشغال والإشغال بما ليس من الدين أو ليس من أولياته:
1- المتصوّفة؛ بالذكر على طرائق عدّة ليس بينها طريق محمد صلى الله عليه وسلم: لفظ اسم الله مفرداً، الرّقص والغناء الدّيني ـ زعموا ـ، الشطح على منوال: ما في الجبّة إلا الله، سبحاني ما أعظم شاني، وحدة الوجود، اللهم انتشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في بحار الوحدة، صلاة الفاتح، الصَّلاة النّارية، ونحو ذلك من الضلال عن الاتباع إلى الابتداع.
2- الإخوان المسلمون؛ بمحاولة الاستيلاء على السلطة بالسّياسة إن لم تتحقق بالعنف، (ولم يرسل الله رسولاً لتحقيق هذه الغاية وإنما السلطة والولاية وسيلة قد تتحقق أولاً تتحقق نتيجة للالتزام بالتوحيد والسنة، وعندما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبداً رسولاً وبين أن يكون مَلِكاً رسولاً اختار العبودية والرّسالة)، وبما دون الاعتقاد من أمور الدين وبخاصة المعاملات.
3- حزب التحرير؛ بمحاولة تغيير نظام الحكم واختيار تسمية الخلافة [أو الخرافة] على المُلْك والسّلطنة والرّئاسة؛ مُصَادَمَةً صريحةً لاختيار الله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة: 247] وقال الله تعالى لبني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام: {اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً} [المائدة: 20]، وسمّى الله تعالى ولاية آل إبراهيم وسليمان وداود ويوسف عليهم السلام مُلْكاً فقال تعالى عن آل إبراهيم: {وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54]، وعن سليمان: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]، وعن داود: {وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 251]، وعلى لسان يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف: 101]، ولا مشاحة في هذا الاصطلاح فالألفاظ مترادفة وأَقْرَبُها إلى نصوص الوحي: المُلك، وقد وصف الله نبيّه داود عليه السلام بكلمة {خَلِيفَة} في قول الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26]، ووصف النبيُّ صلى الله عليه وسلم خيرَ الولاة بعده بالخلفاء الراشدين المهديين، وهم الأربعة حسب ترتيب ولايتهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، ووصف الثمانية بعدهم بالخلفاء من قريش، وحزب التحرير ومثله حزب الإخوان ـ إلا ما رحم الله ـ غير راضين عنهم، بل أكثرهم يقدح في عثمان المشهود له بالجنة والذي مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض.
وأكثر وَصْفِ الله عباده بالخلافة يعني: يَخْلُف بعضهم بعضاً صالحين أو طالحين كقول الله تعالى عن ذريّة آدم صالحهم وطالحهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] بدليل قوله تعالى عن لسان الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} [البقرة: 30]، ولو كان المقصود آدم عليه السلام لم يوصف بالإفساد وسفك الدماء، وقال تعالى عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم على اختلافهم: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165] ، وقال تعالى عن قوم هود عليه السلام: {وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] وقال الله تعالى عن قوم صالح عليه السلام: {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف: 74]، وقال تعالى تقريعاً للمشركين: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
4- حزب الجهاد؛ بالتّكفير والتّفجير والاغتيال، لتعود الأرض للمسلمين أولاً لا ليعود المسلمون إلى الدين الحق أولاً، مخالفةً صريحة لسُنة الله التي قد خلت في عباده وفي رسالاته جميعاً بما أنزل من كتبه وما أرسل من رسله ومخالفةً صريحةً لسُنَّة جميع رسل الله في إبلاغ دينه والدّعوة والجهاد في سبيله. ولم تُحرِّك أوثان المقامات والمزارات والأضرحة والأنصاب في أكثر بلاد المسلمين العربية والأعجمية من قلوبهم ما حرّكه الخلاف على الأرض والسلطة في أفغانستان والبوسنا والشيشان وفلسطين والعراق.
وكان الجهاد الحق (لا الوهمي ولا الإجرامي ولا العدواني) في شرع الله وسُننِ رسله يبدأ بالدعوة إلى التوحيد والسنة والتحذير من الشرك والبدعة (الأمر الذي لا وجود له في المنهاج العملي للحلاّج والبسطامي، ولا للبنّا وقطب، ولا للظواهري وابن لادن وعمر عبد الرحمن، ولا للنّبهاني وزلّوم والمسعري) تجاوز الله عنهم أجمعين، وينتهي بالقتال في سبيل الله مع ولي الأمر لتكون كلمة الله هي العليا وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وليس العكس كما يفعل المنحرفون عن منهاج النبوة.
5- جماعة التبليغ؛ بالخروج في سبيل الله ـ زعموا ـ على منهاج محمد إلياس عفا الله عنّا وعنهم جميعاً لا على منهاج النبوة، وبالاشتغال والانشغال بسُنن العادات من الأكل والشرب واللباس والنوم عن تعلم وتعليم أحكام الشريعة وفرائضها وأركانها في الاعتقاد والعبادات والمعاملات الشرعية.
6- وحتى إخواننا الموصوفون بالسّلفيين أو الأثريين أو أهل الحديث (وهم وحدهم المنتمون إلى السَّلف الصالح لا إلى الخَلَف، والمكتفون بمنهاج النبوة عن المناهج المحدثة في الدين) لا يُعْرَف أكثرهم إلا بالالتزام بِسُنَن الهيئات على مذهب المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، أو بالخلاف في الصفات من جانب الاعتقاد، أو بتزكية أنفسهم رداً ـ لهجمة أهل الباطل عليهم، ويشغلهم ذلك عن التركيز على إفراد الله بالعبادة ونفيها عما سواه، الأمر الذي يجهله أو يتقرب إلى الله بمخالفته أكثر المسلمين اليوم، وممن انتسب إلى السّلفية زوراً من انشغل عن الدين والدعوة بالتكفير والتفجير والعدوان. ويتفق معظم المنتسبين إلى الإسلام المنتمين إلى السنة أو إلى الانحراف عنها في تعلّمهم وتعليمهم ودعوتهم للدين على تصرف اهتمامهم واهتمام أتباعهم عن تدبر كتاب الله المُبيَّن المُيَسَّر وحفظ حدوده (وهو فريضة على كل مسلم ومسلمة) والعمل به وتبليغ أحكامه، إلى حِفْظه عن ظهر قلب (وهو نافلة)، وحِفْظ قواعد تجويده المُحْدَثة (وما زاد منها على الضروري لصحّة المعنى من قواعد اللغة فتكلُّف لا سند له من الآيات ولا الأحاديث ولا الآثار ولا فقة الأئمة الأربعة كالقلقلة الكبرى، والإشمام، وتجديد حركات المدّ بين أربع وستّ حركات، والتزام عدم الوقوف على رؤوس بعض الآي، أو الوقوف على رأس الآية ثم العودة إلى ربط قراءة الآية السّابقة بقراءة الآية اللاحقة حتى يَسْتَبين المعنى، (وهذا استدراك على الله وعلى رسوله واتباع لغير سبيل المؤمنين القدوة).
ويتجاوز الابتداع حدوده فيتفاخر المسلمون بزخرفة المصاحف وبوضع برامج لحفظ القرآن في شهرين أو 27 يوماً، وبرامج لحفظ الكتب الستة في الحديث، وليس لهذا الالتزام والإلزام قدوة إلا النسك الأعجمي (في لفظ ابن حزم رحمه الله) وهو ما ضلّ به أكثر الأعاجم المنتسبين للإسلام عن التدبر والعمل والتبليغ على منهاج النبوة، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وأتباعه.
عمان 1425هـ
المصدر