إن الحمد لله نحمده تعالى ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدي محمد-صلى الله عليه وآله وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فحي هلا بالإخوان، ونسأل الله-جل في علاه-أن يجعلني وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يبارك في الأوقات والأعمار والأعمال.
وقبل أن نبدأ بشرح الكتاب الموسوم بالموقظة، للحافظ الإمام الذهبي-رحمه الله تعالى-، أرغب في التقديم بثلاث مقدمات، تعين الراغب والطالب للحق، وبخاصة طالب الحديث تعينه في السير إلى الله-جل وعلا-.
المقدمة الأولى: مقدمات يحتاج إليها طالب العلم والحديث خاصة، فلا زال العلماء-رحمهم الله-قديمًا وحديثًا، يُعْنَوْنَ بتنبيه الطالب على آداب الطلب، والطريقة التي يسير فيها في طلبه العلم، وبخاصة طالب الحديث.
فقل كتاب من كتب أهل العلم التي عنيت بالكلام في مباحث علم أصول الحديث، إلا وتجد فيها بابًا أو كتابًا من كتبها يتكلم عن آداب طالب الحديث والمحدث، خطى لا بد أن يسير عليها حتى يسلك مسالك أهل العلم.
ومنهم من أفرد ذلك بمؤلفات مفرده، كالحافظ ابن عبد البر-رحمه الله-في كتابه(جامع بيان العلم وفضله)، والحافظ الخطيب البغدادي-رحمه الله- في(الجامع لأخلاق الراوي وآداب والسامع)وغيرهما كثير.
وما ذلك إلا لأهمية أن تصاحب الطالب هذه الآداب، وبدونها فلا رونق للعلم ولا حلاوة، ومن تخلى عنها تخلى عن العلم حقيقة.
فهناك آداب للطالب مع نفسه ومع شيخه ومع إخوانه، وهناك آداب مع ربه-جل وعلا-، فأشير إلى جملة من ذلك تأسيًا بسنة من سلف من أئمة هذا الدين وسيرًا على منوالهم.
فمن تلكم الآداب والواجبة:
الأدب الأول: الإخلاص لله-جل وعلا-وتحقيق الإخلاص له-جل في علاه، طلب العلم أيها الأخوة عبادة لا يجوز أن يصرف العبد قلبه لغير الله-جل وعلا-، فلا بد والحالة هذه أن يخلص في طلبه للعلم لله-جل وعلا-، فهو داخل تحت قول الله-جل وعز-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)(البينة:31).
ولا يأتوا الحاثة والآمرة في وجوب الإخلاص لله-جل وعلا-كثيرًا وكثيرة جدًا، وكذا الأحاديث النبوية عن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-.
وهنا كلمة للحافظ ابن الجوزي في صيد الخاطر ذكرها فقال: (من أصلح سريرته فاح عبير فضله ، وعبقت القلوب بنشر طيبه . فالله الله في السرائر ، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر).
فمعاهدة النفس أيها الأخوة في الإخلاص لله-جل وعلا-وف تحقيقه أمر مطلوب في كل عبادة لله-جل وعلا-، والتي منها طلب العلم وإزالة الجهل عن النفس وعن الغير، والكلام في هذا الباب كثير جدًا.
الأدب الثاني: أيها الأخوة هو المتابعة للنبي-صلى الله عليه وآله وسلم-، قال الله-جل وعلا-في كتابه العزيز: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(آل عمران:31)، ولا يأتوا الآمرة بطاعة النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-كثيرًا.
وقد جاء عن سفيان الثوري-رحمه الله-أن قال: (إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل)، مبالغة في التأسي والبحث عن سنة النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-، والتنقيب عن الثابت منها.
وجاء أيضًا عن إبراهيم الحربي-رحمه الله-أن قال: (ينبغي للرجل إذا سمع الحديث أن يعمل به)، وهذا أيها الأخوة مأخوذ من قول الله-جل وعلا-: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر:7).
فالمتابعة للنبي-صلى الله عليه وآله وسلم-خيرٌ للعبد في الدنيا والآخرة، فطالب العلم والحديث خاصة لا بد أن يتميز بالإتباع للمصطفى-صلى الله عليه وآله وسلم-.
إذ ما الفائدة من تَعَلُّمِه للسنة والعلم الشرعي ولا يتبع، فهو كما قال ابن عيينة-رحمه الله-: (العلم إن لم ينفع ضر)، كيف يضر؟ يضر بعدم الإتباع وترك المأمورات وفعل المحظورات.
الأدب الثالث: أيها الأخوة التحلي برونق العلم، فمن تعلم علمًا يجب أن يكون ذلك في سلوكه وهديه ودلِّه وسمته، فلا يحسن بطالب العلم أن يكون يرعى مع الرعاع والهمج والغوغاء، ويركض خلف كل ناعق، بل لا بد أن يتحلى برونق العلم وما تعلمه من آداب وهدي وخلق وسمت وسنة.
وفي ذلك يقول ابن سيرين-رحمه الله تعالى-: (كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم)، فلا خير في متعلم لا تظهر مسحة العلم على آثاره وعلى مسلكه.
إذا التحلي بذلك دليل على أن الرجل أو الطالب يعمل بعلمه، وهذا من آثار العلم الصحيح.
قال الحافظ الخطيب-رحمه الله-في تقييد العلم: (العلم شجرة والعمل ثمرة)ولا بد، فإذا كان العبد قريبًا من الله-جل وعلا-بتحقيق ما تعلم وتعليم غيره ورفع الجهل عن نفسه وعن غيره، فهذا الذي يسير في ركاب أهل العلم وفي طريقهم.
الأدب الرابع: الجد والاجتهاد في طلب العلم والصبر على ذلك، قال قائلهم:
(الجـد بالجـد والحرمان بالكسل فانصب تصب عن قريب غاية الأمل)، لا بد من الاجتهاد في طلب العلم والصبر على ذلك.
يقول الإمام الشعبي-رحمه الله- لما سئل من أين وجدت هذا العلم الكثير، فقال: (بنفي الاعتماد)بنفسه ما يتكل على غيره،(والسير في البلاد)يعني في الرحلة في طلب العلم، (وبكور كبكور الغراب)يصبح ويبكر في حلق العلم، (وصبر كصبر الجماد)بذا أصل وصار إمامًا، قال: (بنفي الاعتماد والسير في البلاد وبكور كبكور الغراب وصبر كصبر الجماد)بذا حصلوا.
ولذا لما قيل للإمام عبد الله بن المبارك: (إلى متى تطلب العلم؟)، قال: (إلى أن أموت)، وهذا الحافظ الإمام عبد الله بن المبارك الذي جمعت فيه خصال الخير.
والمثل السائر المعروف الذي يعرفه الكثير، قالوا: (طلب العلم من المحبرة إلى المقبرة).
وهكذا يجب أن العبد مجتهدًا في طلبه للعلم محصلًا، يكتب، يدرس يتذاكر مع إخوانه، يراجع، يحضر، هكذا يستفيد العبد في تلقيه للعلوم.
والوصية التي بعد هذا أيها الأخوة: تجنب المعصية وترك المحرمات، فإن العبد والله يحرم العلم يتعلمه بالذنب يعمله.
أخرج أبو نعيم في الحلية بسنده عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-أنه قال: (إني لأحسب الرجل ينسى العلم يتعلمه بالخطيئة يعملها)وفي رواية(بالذنب يعمله)، فقد تحرم الخير والعلم بسبب الذنب، ولا يعني هذا أن يكون الذنب ظاهرًا، قد يكون خفيًا،
(إذاما خلوت الدهــر يومًا فلا تقـل خلوت ولكن قل علي رقيب)
وأيضًا أخرج ابن حبان في روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، عن وكيع بن الجراح الرؤاسي-رحمه الله-أنه قال: (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وعلى طلبه بالصوم)، وفي لفظه(كنا)جمع أي هذا الديدن الذي كانوا عليه، فأنت تراهم في طلبهم للحديث وفي حفظهم له يدورون في ماذا؟ يدورون في طاعات.
(كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به)والعمل به ماذا طاعة أو ليس بطاعة؟ طاعة، قال: (وعلى طلبه بالصوم)والصوم أيضًا طاعة لله-جل وعلا-لأن الطاعة تدل على أختها، كما قال ابن مسعود-رحمه الله-فيما خَرَّجَه ابن أبي شيبة في مصنفه.
فالشاهد: أيها الأخوة أن طلب الحديث وطلب العلم، يجب لصاحبه أن يكون ماذا؟ مجانبًا للمحرمات مجتنبًا لها ساعيًا باذلًا في فعل الطاعات.
أخرج الخطيب-رحمه الله-بسنده عن يحيى بن معين أنه قال: (آلة المحدث الصدق، والشهرة، والطلب، وترك البدع، واجتناب الكبائر).
آلة المحدث أو طالب الحديث(الصدق)في القول والفعل، (والشهرة)يعرف بالخير ويشتهر بطلبه للعلم وتحصيله ومنفعته للناس، (والطلب)وحرصه على طلب العلم، (وترك البدع واجتناب الكبائر)لأنها إذا اجتمعت في العبد لا يمكن أن يكون طالبًا ولا أن يكون صادقًا في طلب العلم، أي إذا اجتمعت هذه من ماذا؟ من ترك الصدق وفعل والعياذ بالله الموبقات أو المحرمات وفعل البدع وغير ذلك، يعني ضد ذلك لا يجتمع في ماذا؟ في طالب الحديث أو آلة المحدث.
إذا كان الأمر كذلك أيها الأخوة، إذًا حَرِيٌّ بطالب الحديث وبطالب سنة النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-أن يجتنب هذه الموبقات أو هذه المهلكات.
الوصية الأخيرة: في جملة هذه الوصايا أن يتذكر العبد في طلبه لهذا العلم، أنه ما طلبه إلا رغبة في رضا الله-جل وعلا-والفوز بجنته-سبحانه وتعالى-، ومصاحبة النبي-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-في الجنة، فهذا السبيل وهذا الطريق-طريق طلب العلم-هو الموصل إلى ذلك.
قال الحافظ ابن القيم-رحمه الله-: (يعرض للسالك في سيره إلى الله مهالك ومعاطب، لا ينجيه منها إلا بصيرة العلم)، والعلم المراد به هنا علم الكتاب والسنة، العلم الصحيح،
العلم قال الله قال رسولُه ... قال الصحابةُ هم اؤلوا العرفان
هذا هو العلم.
أقول: فإذا تذكر العبد ذلك وأن الغاية والمقصد الأسمى من طلبه للعلم هو تحقيق العبودية لله-جل وعلا-والفوز بجنة الله-جل وعلا-، هان الخطب.
ولا بد أن تعلموا أيها الأخوة أن من صدق مع الله صَدَقَه الله، فقد صح عن النبي-عليه الصلاة والسلام-فيما خرجه البخاري في الصحيح: (أن الأعمال بالخواتيم).
وأذكر في هذا الباب قصة وهي بإذن الله تشحذ الهمم وتعليها:
أخرج ابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل، والحاكم في معرفة علوم الحديث، وابن البنا في فضل التهليل وثوابه الجزيل، بسند حسن إلى محمد بن مسلم بن وارة قال: (حضرت أنا وأبو حاتم الرازي-محمد ابن إدريس الحنظلي-والمنذر بن شاذان عند أبي زرعة في النزع)عند نزع الروح وعلى فراش الموت، قال: (فقلت لأبي حاتم:(تعال حتى نلقنه الشهادة)،فقال أبو حاتم: (إني لأستحي من أبي زرعة) لماذا يستحون؟ إمام جهبذ حافظ ناقد، إن لم يكن مثلهم فهو أعلى منهم في الرتبة والمكانة.
(قال:(إني لأستحي من أبي زرعة ولكن تعال نتذاكر حديث الشهادة لعله يذكره)، فقال محمد بن مسلم بن وارة: (حدثنا أبو عاصم النبيل قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح)، قال: (فارتج عليَّ الحديث فكأني ما قرأته ولا سمعته)ما استطاع أن يكمل هيبة من الإمام أبي زرعة
(قال: فقال أبو حاتم:(حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا ابو عاصم النبيل عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح)، قال: (فارتج علي الحديث فكأني ما قرأته ولا سمعته)، فقال مثله الحافظ المنذر بن شاذان.
ففطن إليهم أبو زرعة أنهم أرادوا أن يلقنوه حديث الشهادة،فقال وهو في فراش النزع: (حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو عاصم النبيل عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي عريم عن كثير بن مرّة عن معاذ بن جبل-رضي الله عنه-أن سول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-قال: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله ألا الله) قال: (فخرجت روحه مع الهاء)وتتمة الحديث(دخل الجنة)صدقوا مع الله فصدقهم الله-جل وعلا-.
إذًا من هذه القصة وأمثالها كثير في سير السلف، نعلم أن الصدق مع الله-جل وعلا-في طلب العلم هو منجاة لصاحبه في الدنيا والآخرة.
وقد ذكر الحافظ الإمام ابن كثير في البداية والنهاية، في ترجمة الإمام ابن تيمية-رحمة الله عليه-وهو كان في السجن الذي سجن فيه آخرًا في وفاته وكان معه أخاه، قال أخوه: (ختمت أنا وشيخ الإسلام ثمانين ختمه)في السجنة الأخيرة(قال: فشرعنا في الواحدة والثمانين، ولما وصل شيخ الإسلام عند قوله-جل وعلا-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54)فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55:القمر)، خرجت روحه عند هذه الآية).
إذًا أيها الأخوة هذه هي الحصيلة والمحصلة الصدق مع الله-جل وعلا-في الدنيا نجاة لصاحبه بإذن الله في الآخرة، وحَرِيٌّ بطالب الحديث أن يسير في ركاب أولئك، وأن يشتغل بما اشتغلوا به ليحصل ما حصلوه.
أسأل الله أن ينفع الجميع بمثل هذه الوصايا التي قلناها.
تم بحمد الله
بتصرف يسير...................
وهذه المادة مأخوذة من شرح الشيخ عبد الله بن عبد الرحيم البخاري-حفظه الله تعالى- لمتن الموقظة للإمام الذهبي رحمه الله تعالى: (دورة جدة 1424هـ/1425هـ).
قام بتفريغه: أبو عبيدة منجد بن فضل الحداد الفلسطيني.
الاثنين الموافق: 24/ جمادى الآخر/ 1431 للهجرة النبوية الشريفة.
المادة الصوتية
المادة المفرغة
تعليق