قال الأخ الحبيب " أبو حاتم سفيان اليعلاوي" جزاه الله خيراً :
الحمد لله و الصّلاة والسّلام على رسول الله و على آله و صحبه و من اتّبع هداه ؛
و بعد فإنّ صيانةَ العلم و إعزازَه سهمٌ عظيمٌ من سهام الحكمة في الدّعوة ، و مسلكٌ ينبغي أن يفقَهَه كلّ طالب علم يهمّه أمرُ ظهورِ المنهج الحقّ و انتشارِه بين النّاس .
و لا شكّ أنّ عزّة العالِمِ من عزّة العلم ، وشرفُ طالب العلم من شرف ما يطلبُه ، و كلّما عزّ العلمُ عند أهله ، كلّما رأيتَ له مهابةً و توقيرًا لدى عامّة النّاس و خاصّتهم .
بل إنّ عِزّة العلم من عِزّة الدّين ، لهذا كان كثيرٌ من السّلف و الأئمّة يحرصون أن لا يبذلوا العلم إلاّ لأهله ، و يمنعونه عمّن لا يستحقّه و لا يعرفُ له قدْرًا .
رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " لو أنّ أهل العلم صانوا العلمَ و وضعوه عند أهله لسادوا أهلَ زمانهم ، و لكنّهم وضعوه عند أهل الدّنيا لينالوا من دنياهم فهانوا عليهم ". رواه الخلاّل كما في : " الآداب الشرعية " لابن مفلح ( 2/45 ) ، و في رواية عند ابن ماجه و غيره : " و لكنّهم أَتَوا به أهل الدّنيا فاستخفّوا بهم " .
و الأثرُ و إن كان ضعيفًا (1) ، إلاّ أنّ معناه صحيحٌ و عملُ السّلف و أقوالهم تشهدُ له .
فقد عقد الخطيبُ البغداديُّ رحمه الله في كتابه العُجاب : " الجامع لأخلاق الرّاوي و آداب السّامع " بابا لكراهة التّحديث لمن لا يبتغيه و أنّ من ضياعه بذله لغير أهله ، و ساق فيه بأسانيده آثارًا كثيرةً تدلّ على فقه دقيق للسّلف رحمهم الله في هذا الباب (2) ، فهاك أخي القارئ طرفًا منها :
فعن أبي الضّحى عن مسروقٍ قال : " لا تنشر بزّك إلاّ عند من يبغيه " ، قال عبد الله بن الإمام أحمد : قال أبي : يعني الحديث .
و عن عبد الملك بن عمير عن مسروقٍ أيضًا قال : " نكدُ الحديث الكذب ، و آفته النّسيان ، و إضاعته أن تحدّث به غيرَ أهله " .
و عن عكرمةَ قال : " إنّ لهذا الحديث ثمناً . قالوا : و ما ثمنُه ؟ قال : أن يوضع عند من يحسن حفظه ، و لا يضيّعه " .
و عن مطرّفٍ قال : " لا تُطعم طعامك من لا يشتهيه " يريد : لا تحدّث بالحديث من لا يريده .
و عن أبي مسهرٍ قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول في الّذين يضعون الأحاديث عند غير أهلها : " وقع العلمُ عند الحمقى ! " .
و ممّن عرف عنه الشدّة والحزم في هذا سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله ، فعن شعبة قال : رآني الأعمش و أنا أحدّث قوما فقال : " ويحك يا شعبة ! تعلّق اللؤلؤ أعناق الخنازير !! " (3) .
و كان الأعمش يوافق عملُه قولَه ، فقد روى عنه الخطيب في الجامع ( ص 173 ) و أبو نعيم في الحلية ( 5/59 ) أنّه لمّا قدم السّواد ، سألوه أن يحدّثهم فأبى ، فقيل له : لو حدّثتهم ، قال : " و من يعلّق الدُّر على الخنازير !! " .
و لا تستغرب أيّها القارئ هذا الكلامَ عن الأعمش ، فقد جاء مثلُه عن الإمام مالكٍ رحمه الله ، رواه الخطيب أيضًا عن أبي مسهرٍ قال : سمعت مالك بن أنس يقول : " طارحُ العلم عند غير أهله كطارح الزّبَرْجَد للخنازير " .
بل إنّ السّلف كانوا يخشون تغيّرالدّين إذا وقع عند غير أهله ؛ فعن الفريابيّ قال : كان سفيان إذا رأى هؤلاء النّبط يكتبون العلم يتغيّر وجهه ! فقلت له يا أبا عبد الله ! نراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتدُّ عليك ، فقال : " كان العلم في العرب و في سادات النّاس ، فإذا خرج عنهم و صار إلى هؤلاء – يعني النِّبط و السِّفلة – غُيّر الدّين !! " (4) .
و من دقّة فقههم رحمهم الله أنّهم كانوا يحتسبون منعهم الحديث ، كما يحتسب أحدُنا نشره العلم وهذه أحسن أحوالنا إن استحضرنا الإخلاص !
قال جرير : سمعتُ مغيرةَ يقول : " إنّي أحتسب في منعي الحديث ، كما تحتسبون في بذله " . (5)
و عن هارون ابن سوار المقرئ قال سمعتُ الفضيلَ بنَ عياض وقيل له : ألا تحدّثنا تؤجر ؟ قال : " على أيّ شيء أُؤجَر ؟ على شيءِ تتفكّهون به في المجالس !؟ " (6) . فالله أكبر ، ما أفهمَهُم رحمهم الله .
و من هذا الباب امتناعُ كثيرٍ من السّلف عن تحديث الأمراء و السّلاطين صيانةً للعلم و إعزازًا لأهله ، و الآثار في هذا الباب كثيرة ، أكتفي منها باثنين عجبي منهما لا ينقضي ، ثانيهما أعجب إليّ من الأوّل :
فعن الحجّاج بن حمزة قال : أتى ابنَ المبارك ابنُ والي خراسان ، فسأله أن يحدّثه ، فأبى عليه ، ولم يحدّثه . فلمّا خرجَ ؛ خرج معه ابنُ المبارك إلى باب الدّار ، فقال له يا أبا عبد الرّحمن ، سألتُك أن تحدّثني فلم تحدّثني و خرجتَ معي إلى باب الدّار ! فقال : " أمّا عن نفسي فأهَنتُها لك ، و أمّا حديث رسول الله صلى الله عليه و سلّم فإنّي أجلّه عنك ! " (7) .
و لمّا دخل ربيعةُ على الخليفة الوليد بن يزيد قال : يا ربيعةُ حدّثنا ! قال : ما أحدّث شيئا ! فلمّا خرج من عنده قال : " ألا تعجبون من هذا الذي يقترحُ عليّ كما يقترح على المغَنِّية ! : حدّثنا يا ربيعة !! ". (
فتدبّروا يا طلبة العلم !
قال الشيخُ بكر أبو زيد رحمه الله في : " حلية طالب العلم " :
" عزّة العلماء :
التّحلي ب (عزّة العلماء ) :
صيانةُ العلم و تعظيمُه ، وحمايةُ جناب عزّه و شرفِه ، وبقدر ما تبذله في هذا يكون الكسب منه و من العمل به ، وبقدر ما تهدره يكون الفوت ، ولا حول و لا قوّة إلاّ بالله العزيز الحكيم . و عليه فاحذر أن يَتَمَنْدَلَ بكَ الكبراءُ ، و يَمْتَطِيَكَ السّفهاءُ ، فتلاين في فتوى أو قضاء ، أو بحث ، أو خطاب ... و لا تسعَ به إلى أهل الدّنيا ، ولا تَقِفْ به على أعتابهم ، و لا تبذله إلى غير أهله و إن عظُم قَدْرُه " .
و قال الشّيخ حمدُ العثمان حفظه الله في " النُّبذ في آداب طلب العلم " :
" و تحديث من ليس بأهلٍ للتّحديث تضييعٌ للوقت ، و إهدارٌ لجهود في ثمرة معدومة ، و المقصود هو تعليم مجموعة ممّن فيهم أهلية التعليم من الإخلاص و الديانة و حسن الخلق و النّباهة و رجاحة العقل ، و النّهمة في طلب العلم ، والغيرة على السنّة ، والرّغبة في القيام بأداء العلم حال تحصيله ، فمثل هؤلاء يُرجى أن تصلح بهم البلاد و العباد . و لعلّ أوضح الأدلّة على ذلك هو هجرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من مكّةَ إلى المدينة بعد أن رأى أنّ الثّمرة ضعيفةٌ ، وكذلك قوله تعالى عن اليهود : ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ و َقَدْ كَانَ فَرِيقٌ منْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : 75 ] " (9) .
و اعلمْ يا طالبَ العلمِ أنّ من يجب عليكَ أن تصون العلم عنهم أصنافٌ ، و شرّهم من كانت له من مخالطة أهل العلم أغراضٌ خسيسة كأغراض اليهود و المنافقين ، فاعرفهم بفطنتك ، و إيّاك إيّاك أن تذلّ و تضعف مع من شممتَ في أخلاقهم شبهًا من أخلاق المغضوب عليهم ، فصُن العلمَ عن إفشائه إليهم و أكرمْ نفسكَ عن مخالطتهم ، و تيقّن أنّهم إن أبدَوا – أحيانًا - رغبةً في ما عندك من علم الشّرع ، فإنّما ذلك منهم لأطماعٍ دنيوية دنيئة من حبّ التّفكّه و الإستهزاء بأهل الاستقامة ، و هم في الحقيقة يبحثون عن إشباع شهوة خفيّة في نفوسهم من تمنّي التفوّق و الظّهور على أهل الدّين ، حسدًا من عند أنفسهم ، فهم أهلُ دنيا .
و حالهم كحال من وصف الله في القرآن بقوله عزّ و جلّ : ﴿ وَ إِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا و َإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ . ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَ َيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ البقرة : 14 – 15 ] .
و آخرون يتربّصون بالمؤمنين الدّوائر ، و يصانعون كلّ من طمعوا أن يحصّلوا منه عرضاً من الدّنيا زائل ، فلا ولاء و لا براء عندهم إلاّ على الدّرهم و الدّينار ، كحال كثير من أهل الصّحافة و كتّاب الجرائد في هذه الأزمان فجرائدهم " لا همّ لها إلاّ أن تذيع الخبر، حقًّا كان أو باطلا ، و إنفاد مبيعاتها و لوعلى حساب المُثُُل و القيم " (10) ، تجدهم مذبذبين لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء ، قال الله في أشباههم : ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ منَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ منَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ النّساء : 141 ] .
فكن يا طالب العلم كيّسًا فطنًا مع هذه الأصناف ، و احرِمهُم العلم و صُنْه عنهم فتلك عقوبتهم ، و أظهرْ لهم فِطنتَك و عِزَّتك ، حتّى يزدادوا غيظًا إلى غيظهم .
و آخرون لا يرغبون في معرفة أحكام الشّرع إلاّ إذا علموا أنّها في صالحهم و تسايرُ أهواءهم ، فهم كما قال الله في سورة النّور : ﴿ وَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ منْهُمْ مُّعْرِضُونَ . وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ . أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ [ النّور : الآيات 48 إلى 50 ] .
و اعمل بالحكمة التي نسبت إلى نبيّ الله عيسى عليه السلام : " إن منعتَ الحكمة أهلها جهلتَ ، و إن أبَحْتَها غير أهلها جهلتَ ، كن كالطبيب المداوي ؛ إن رأى موضعًا للدّواء ، و إلاّ أمسَكَ " .
قال الشّاعر :
و للقاضي العلّامة الشّاعر أبي الحسن عليّ بن عبد العزيز الجرجانيّ أبيات فائقة (12) :
و هذه آثارٌ أخرى في الباب رواها الإمام الدّارمي رحمه الله في مقدّمة السّنن :
فعن كثير بن مرّة قال : لا تحدّث الباطلَ الحكماءَ فيمقوتك ، و لا تحدّث الحكمة السّفهاء فيكذّبوك ، و لا تمنع العلم أهلَه فتأثم ، و لا تضعه في غير أهله فتُجَهَّلَ ، إنّ عليك في علمك حقًّا كما أنّ عليك في مالك حقًّا (13) .
و عن حجّاج الأسود عن وهب بن منبّه قال : كان أهل العلم فيما مضى يضنّون بعلمهم عن أهل الدّنيا ، فيرغب أهل الدّنيا في علمهم ، فيبذلون لهم دنياهم ، و إنّ أهل العلم اليوم بذلوا علمهم لأهل الدّنيا ، فزهد أهل الدّنيا في علمهم ، فضنّوا عليهم بدنياهم (14) .
و ما أحلى هذا للمتدبّرين ، و هو و إن كان قيل في ذمّ طلب التّلميذ إعادة الحديث من شيخه احتراماً للشّيخ و توقيراً له و طلباً لراحته ، إلاّ أنّه يصلح في أن ينزّل على ما نحن بصدده ؛ فعن أيّوب قال : حدّث سعيد بن جبير يوماً بحديث فقمتُ إليه فاستعدتُه ، فقال لي : ما كلّ ساعة أُحلبُ فأُشربُ !! (15) .
و هذا أثرٌ صريح في الباب عن الإمام الشافعي رحمه الله ذكره البيهقي في مناقبه ( 2/151 ) (16) : " من إذلال العلم أن تناظر كلّ من ناظرك ، و تقاول كل من قاولك " .
قال ابن وهبٍ سمعت مالكاً يقول : " ذلٌّ و إهانةٌ للعلم ، إذا تكلّم الرّجل بالعلم عند من لا يُطيعه " (17) .
و قال ابن شبرمة : " إنّ من المسائل مسائل لا يجمل بالسّائل أن يسأل عنها ، و لا بالمسؤول أن يجيب فيها " (1 .
و قال مالكٌ : " إنّ من إذالة العالم أن يجيب كلّ من كلَّمه ، أو يجيبَ كلّ من سأله " (19) .
عن محمّد بن قدامة قال : " سمعتُ أبا أسامة يقول : إنّي لأغار على الحديث كما يُغار على الجارية الحسناء " (20) .
و عن حمدان بن الأصبهاني قال : كنتُ عند شَريكٍ فأتاه بعضُ ولدِ المهدي ، فاستند إلى الحائط ، و سأله عن حديث ، فلم يلتفت إليه ، فأعاد عليه ، فلم يلتفت إليه ، فقال : كأنّك تستخفّ بأولاد الخلافة ؟ قال : لا و لكنَّ العلمَ أزينُ عند أهله من أن يضيِّعوه ، قال فجثا على ركبتيه ثمّ سأله ، فقال شريك : هكذا يُطلب العلم " (21) .
و قال يحيى بنُ أكثم : " قال لي المأمونُ : مَن تركتَ بالبصرة ؟ فوصفتُ له مشايخَ منهم سُليمانُ ابنُ حرب ، و قلتُ : هو ثقةٌ حافظٌ للحديث ، عاقلٌ ، في نهاية السِّترِ والصِّيانة ، فأمرني بحملهِ إليه ، فكتبتُ إليه في ذلك ، فقدِمَ ، فاتَّفقَ أنّي أدخلتُه إليه ، و في المجلسِ ابنُ أبي دُؤاد ، و ثُمَامَةُ ، و أشبـاهٌ لهما ، فكرهتُ أن يدخُلَ مثلُه بحضرتِهم ، فلمّا دَخَل ، سلَّم ، فأجابه الـمأمونُ ، و رفعَ مـجلِسَهُ ، ودعا له سُليمانُ بالعزِّ والتّوفيق ، فقال ابنُ أبي دُؤاد : يا أميرَ المؤمنين ، نسألُ الشّيخ عن مسألةٍ ؟ فنظر المأمونُ إليه نظرَ تخييرٍ له ، فقال سُليمانُ : يا أميرَ الـمؤمنين ، حدّثنا حَمّادُ بنُ زيد قال : قال رجلٌ لابنِ شُبْرُمة: أسألُك ؟ قال: " إن كانت مسألَتُكَ لا تُضحِكُ الجليس ، و لا تُزرِي بـالمسؤولِ ، فَسَلْ " . و حدَّثنا وُهيبٌ قال : قال إِياسُ بنُ مُعاوية : " مِن المسائلِ ما لا ينبغي للسّائلِ أن يَسأَلَ عنها ، و لا للمجيب أن يُجِيب فيها " . فإن كانت مسألتُه من غيرِ هذا ، فليَسْأَل ، و إن كانت من هذا فليُمْسِك . قال : فهابُوه ، فما نطقَ أحدٌ منهم حتّى قام ، و ولاّه قضاءَ مكَّة ، فخرج إلـيها " (22) .
قال الشّيخ زيدٌ المدخليّ حفظه الله :
" العلمُ لايجوز أن يُكتمَ عن طالبه ، و إنّما يكتمُ العلم عمّن لا يستحقّه و ليس له بأهلٍ ، كمن يستهزؤون بالدّين ، و أحكام الدّين ، هؤلاء لو كُتم العلم عنهم ، لا إثم في ذلك " (23).
قيل إنّ زيادة الله الأمير بعَثَََ يسألُ سُحْنُوناً عن مسألةٍ ، فلم يُجِبْهُ ، فقال له محمّد بن عُبدوس : أُخْرُجْ من بلد القوم ؛ أمسِ ترجعُ عن الصّلاة خلف قاضيهم ، و اليوم لا تجيبُهم ؟! قال: أَفأجيبُ من يريد أن يَتَفَكَّه ؟ يريد أن يأخذ قولي و قول غيري ، و لو كان شيئًا يقصِدُ به الدّين لأجبتُه (24) .
___________________________
(1) : فيه نهشل بن بن سعيد متروك ، كذّبه إسحاق بن راهويه . أفاده الشيخ يحي الحجوري في تحقيقه لكتاب أخلاق العلماء لأبي بكر الآجري ، ص 64 .
(2) : انظرها فيه ص 172 و 173 . ط دار الكتب العلمية بترقيم صلاح عويضة .
(3) : ابن عبد البرّ في " جامع بيان العلم " ، مختصره لأبي عبد الرحمن محمود الجزائري ، ص 43 .
(4) : المصدر السابق ، ص 70 .
(5) : الجامع للخطيب ، ص 173 .
(6) : المصدر السابق ، ص 179 تحت باب : من كان يمتنع أن يحدّث من لا نيّة صحيحة له في الحديث .
(7) و (8 ) : نفس المصدر ، ص 177 ، تحت باب : من كان لا يحدّث السّلاطين .
(9) : طبعة الدّار الأثرية ، 1428 ، ص307 .
(10) : من خطبة جمعة للشيخ عز الدين رمضاني حفظه الله .
(11) : استفدت هذه الأبيات و التي قبلها من " جامع بيان العلم " للحافظ ابن عبد البرّ ، مختصره ص 43 .
(12) : كما وصفها الذهبيّ في السّير ( 12/569 ، ط. دار الفكر ) ، و الأبيات تجدها في " الآداب الشرعية " ( 2/47 ط. دار الوفاء 1419 ) ، و البداية و النّهاية لابن كثير ، أحداث سنة 392 .
(13) : العرف الوردي بشرح و تحقيق سنن الدارمي ، للشيخ الحجوري ، ص 175 رقم 390 ، و قد حكم الشّيخ على سنده بالضعف لجهالة أحد رواته .
(14) : " العرف الوردي " ص 253 رقم 668 ، قال الشيخ يحي : حجّاج الأسود لم يدرك وهب بن منبّه .
(15) : نفس المصدر ، و حكم عليه الشيخ يحي بالصّحة .
(16) : نقلاً عن : " النّبذ في آداب طلب العلم " ص 193 ، و قد أفادني به أحد إخواني جزاه الله خيرا .
(17) : الفقيه و المتفقّه للخطيب البغدادي ( 2/53 رقم : 679 ) .
(16) : المصدر السّابق ( 2/417 رقم : 1196 ) .
(19) : نفس المصدر ( 2/418 لرقم : 1197 ) . و الإذالة : الإهانة ، وزناً و معنًى .
(20) : الجامع في أخلاق الرّاوي و آداب السّامع 1/298 .
(21) : المصدر نفسه 1/312 .
(22) : سير أعلام النّبلاء 9/81 .
(23) : شرح كتاب العلم من صحيح البخاري : الشريط الأول ، الدقيقة 16 .
(24) : السّير 12/63 .
من فقهِ السَّلفِ
في نشرِ العِلمِ إعزازهُم له و صيانتُه
وامتناعُهم عن بذله لغيرِ أهلِهِ
في نشرِ العِلمِ إعزازهُم له و صيانتُه
وامتناعُهم عن بذله لغيرِ أهلِهِ
الحمد لله و الصّلاة والسّلام على رسول الله و على آله و صحبه و من اتّبع هداه ؛
و بعد فإنّ صيانةَ العلم و إعزازَه سهمٌ عظيمٌ من سهام الحكمة في الدّعوة ، و مسلكٌ ينبغي أن يفقَهَه كلّ طالب علم يهمّه أمرُ ظهورِ المنهج الحقّ و انتشارِه بين النّاس .
و لا شكّ أنّ عزّة العالِمِ من عزّة العلم ، وشرفُ طالب العلم من شرف ما يطلبُه ، و كلّما عزّ العلمُ عند أهله ، كلّما رأيتَ له مهابةً و توقيرًا لدى عامّة النّاس و خاصّتهم .
بل إنّ عِزّة العلم من عِزّة الدّين ، لهذا كان كثيرٌ من السّلف و الأئمّة يحرصون أن لا يبذلوا العلم إلاّ لأهله ، و يمنعونه عمّن لا يستحقّه و لا يعرفُ له قدْرًا .
رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " لو أنّ أهل العلم صانوا العلمَ و وضعوه عند أهله لسادوا أهلَ زمانهم ، و لكنّهم وضعوه عند أهل الدّنيا لينالوا من دنياهم فهانوا عليهم ". رواه الخلاّل كما في : " الآداب الشرعية " لابن مفلح ( 2/45 ) ، و في رواية عند ابن ماجه و غيره : " و لكنّهم أَتَوا به أهل الدّنيا فاستخفّوا بهم " .
و الأثرُ و إن كان ضعيفًا (1) ، إلاّ أنّ معناه صحيحٌ و عملُ السّلف و أقوالهم تشهدُ له .
فقد عقد الخطيبُ البغداديُّ رحمه الله في كتابه العُجاب : " الجامع لأخلاق الرّاوي و آداب السّامع " بابا لكراهة التّحديث لمن لا يبتغيه و أنّ من ضياعه بذله لغير أهله ، و ساق فيه بأسانيده آثارًا كثيرةً تدلّ على فقه دقيق للسّلف رحمهم الله في هذا الباب (2) ، فهاك أخي القارئ طرفًا منها :
فعن أبي الضّحى عن مسروقٍ قال : " لا تنشر بزّك إلاّ عند من يبغيه " ، قال عبد الله بن الإمام أحمد : قال أبي : يعني الحديث .
و عن عبد الملك بن عمير عن مسروقٍ أيضًا قال : " نكدُ الحديث الكذب ، و آفته النّسيان ، و إضاعته أن تحدّث به غيرَ أهله " .
و عن عكرمةَ قال : " إنّ لهذا الحديث ثمناً . قالوا : و ما ثمنُه ؟ قال : أن يوضع عند من يحسن حفظه ، و لا يضيّعه " .
و عن مطرّفٍ قال : " لا تُطعم طعامك من لا يشتهيه " يريد : لا تحدّث بالحديث من لا يريده .
و عن أبي مسهرٍ قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول في الّذين يضعون الأحاديث عند غير أهلها : " وقع العلمُ عند الحمقى ! " .
و ممّن عرف عنه الشدّة والحزم في هذا سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله ، فعن شعبة قال : رآني الأعمش و أنا أحدّث قوما فقال : " ويحك يا شعبة ! تعلّق اللؤلؤ أعناق الخنازير !! " (3) .
و كان الأعمش يوافق عملُه قولَه ، فقد روى عنه الخطيب في الجامع ( ص 173 ) و أبو نعيم في الحلية ( 5/59 ) أنّه لمّا قدم السّواد ، سألوه أن يحدّثهم فأبى ، فقيل له : لو حدّثتهم ، قال : " و من يعلّق الدُّر على الخنازير !! " .
و لا تستغرب أيّها القارئ هذا الكلامَ عن الأعمش ، فقد جاء مثلُه عن الإمام مالكٍ رحمه الله ، رواه الخطيب أيضًا عن أبي مسهرٍ قال : سمعت مالك بن أنس يقول : " طارحُ العلم عند غير أهله كطارح الزّبَرْجَد للخنازير " .
بل إنّ السّلف كانوا يخشون تغيّرالدّين إذا وقع عند غير أهله ؛ فعن الفريابيّ قال : كان سفيان إذا رأى هؤلاء النّبط يكتبون العلم يتغيّر وجهه ! فقلت له يا أبا عبد الله ! نراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتدُّ عليك ، فقال : " كان العلم في العرب و في سادات النّاس ، فإذا خرج عنهم و صار إلى هؤلاء – يعني النِّبط و السِّفلة – غُيّر الدّين !! " (4) .
و من دقّة فقههم رحمهم الله أنّهم كانوا يحتسبون منعهم الحديث ، كما يحتسب أحدُنا نشره العلم وهذه أحسن أحوالنا إن استحضرنا الإخلاص !
قال جرير : سمعتُ مغيرةَ يقول : " إنّي أحتسب في منعي الحديث ، كما تحتسبون في بذله " . (5)
و عن هارون ابن سوار المقرئ قال سمعتُ الفضيلَ بنَ عياض وقيل له : ألا تحدّثنا تؤجر ؟ قال : " على أيّ شيء أُؤجَر ؟ على شيءِ تتفكّهون به في المجالس !؟ " (6) . فالله أكبر ، ما أفهمَهُم رحمهم الله .
و من هذا الباب امتناعُ كثيرٍ من السّلف عن تحديث الأمراء و السّلاطين صيانةً للعلم و إعزازًا لأهله ، و الآثار في هذا الباب كثيرة ، أكتفي منها باثنين عجبي منهما لا ينقضي ، ثانيهما أعجب إليّ من الأوّل :
فعن الحجّاج بن حمزة قال : أتى ابنَ المبارك ابنُ والي خراسان ، فسأله أن يحدّثه ، فأبى عليه ، ولم يحدّثه . فلمّا خرجَ ؛ خرج معه ابنُ المبارك إلى باب الدّار ، فقال له يا أبا عبد الرّحمن ، سألتُك أن تحدّثني فلم تحدّثني و خرجتَ معي إلى باب الدّار ! فقال : " أمّا عن نفسي فأهَنتُها لك ، و أمّا حديث رسول الله صلى الله عليه و سلّم فإنّي أجلّه عنك ! " (7) .
و لمّا دخل ربيعةُ على الخليفة الوليد بن يزيد قال : يا ربيعةُ حدّثنا ! قال : ما أحدّث شيئا ! فلمّا خرج من عنده قال : " ألا تعجبون من هذا الذي يقترحُ عليّ كما يقترح على المغَنِّية ! : حدّثنا يا ربيعة !! ". (
فتدبّروا يا طلبة العلم !
قال الشيخُ بكر أبو زيد رحمه الله في : " حلية طالب العلم " :
" عزّة العلماء :
التّحلي ب (عزّة العلماء ) :
صيانةُ العلم و تعظيمُه ، وحمايةُ جناب عزّه و شرفِه ، وبقدر ما تبذله في هذا يكون الكسب منه و من العمل به ، وبقدر ما تهدره يكون الفوت ، ولا حول و لا قوّة إلاّ بالله العزيز الحكيم . و عليه فاحذر أن يَتَمَنْدَلَ بكَ الكبراءُ ، و يَمْتَطِيَكَ السّفهاءُ ، فتلاين في فتوى أو قضاء ، أو بحث ، أو خطاب ... و لا تسعَ به إلى أهل الدّنيا ، ولا تَقِفْ به على أعتابهم ، و لا تبذله إلى غير أهله و إن عظُم قَدْرُه " .
و قال الشّيخ حمدُ العثمان حفظه الله في " النُّبذ في آداب طلب العلم " :
" و تحديث من ليس بأهلٍ للتّحديث تضييعٌ للوقت ، و إهدارٌ لجهود في ثمرة معدومة ، و المقصود هو تعليم مجموعة ممّن فيهم أهلية التعليم من الإخلاص و الديانة و حسن الخلق و النّباهة و رجاحة العقل ، و النّهمة في طلب العلم ، والغيرة على السنّة ، والرّغبة في القيام بأداء العلم حال تحصيله ، فمثل هؤلاء يُرجى أن تصلح بهم البلاد و العباد . و لعلّ أوضح الأدلّة على ذلك هو هجرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من مكّةَ إلى المدينة بعد أن رأى أنّ الثّمرة ضعيفةٌ ، وكذلك قوله تعالى عن اليهود : ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ و َقَدْ كَانَ فَرِيقٌ منْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : 75 ] " (9) .
و اعلمْ يا طالبَ العلمِ أنّ من يجب عليكَ أن تصون العلم عنهم أصنافٌ ، و شرّهم من كانت له من مخالطة أهل العلم أغراضٌ خسيسة كأغراض اليهود و المنافقين ، فاعرفهم بفطنتك ، و إيّاك إيّاك أن تذلّ و تضعف مع من شممتَ في أخلاقهم شبهًا من أخلاق المغضوب عليهم ، فصُن العلمَ عن إفشائه إليهم و أكرمْ نفسكَ عن مخالطتهم ، و تيقّن أنّهم إن أبدَوا – أحيانًا - رغبةً في ما عندك من علم الشّرع ، فإنّما ذلك منهم لأطماعٍ دنيوية دنيئة من حبّ التّفكّه و الإستهزاء بأهل الاستقامة ، و هم في الحقيقة يبحثون عن إشباع شهوة خفيّة في نفوسهم من تمنّي التفوّق و الظّهور على أهل الدّين ، حسدًا من عند أنفسهم ، فهم أهلُ دنيا .
و حالهم كحال من وصف الله في القرآن بقوله عزّ و جلّ : ﴿ وَ إِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا و َإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ . ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَ َيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ البقرة : 14 – 15 ] .
و آخرون يتربّصون بالمؤمنين الدّوائر ، و يصانعون كلّ من طمعوا أن يحصّلوا منه عرضاً من الدّنيا زائل ، فلا ولاء و لا براء عندهم إلاّ على الدّرهم و الدّينار ، كحال كثير من أهل الصّحافة و كتّاب الجرائد في هذه الأزمان فجرائدهم " لا همّ لها إلاّ أن تذيع الخبر، حقًّا كان أو باطلا ، و إنفاد مبيعاتها و لوعلى حساب المُثُُل و القيم " (10) ، تجدهم مذبذبين لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء ، قال الله في أشباههم : ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ منَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ منَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ النّساء : 141 ] .
فكن يا طالب العلم كيّسًا فطنًا مع هذه الأصناف ، و احرِمهُم العلم و صُنْه عنهم فتلك عقوبتهم ، و أظهرْ لهم فِطنتَك و عِزَّتك ، حتّى يزدادوا غيظًا إلى غيظهم .
و آخرون لا يرغبون في معرفة أحكام الشّرع إلاّ إذا علموا أنّها في صالحهم و تسايرُ أهواءهم ، فهم كما قال الله في سورة النّور : ﴿ وَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ منْهُمْ مُّعْرِضُونَ . وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ . أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ [ النّور : الآيات 48 إلى 50 ] .
و اعمل بالحكمة التي نسبت إلى نبيّ الله عيسى عليه السلام : " إن منعتَ الحكمة أهلها جهلتَ ، و إن أبَحْتَها غير أهلها جهلتَ ، كن كالطبيب المداوي ؛ إن رأى موضعًا للدّواء ، و إلاّ أمسَكَ " .
قال الشّاعر :
أَأَنثرُ دُرًّا بينَ سائِمَةِ النَّعَمِ ؟ ..... أم أنظمه نظمًا لمهمَلة الغنمِ ؟
ألم تَرَني ضُيّعتُ في شَرِّ بَلْدةٍ .... فلستُ مُضيِّعًا بينهم دُرَرَ الكَلِمِ
فإن يشْفِني الرّحمنُ من طولِ ما أرى ... و صادَفْتُ أهلاً للعُلومِ و لِلحِكَمِ
بَثَثْتُ مُفِيدًا و استفدتُ وِدادَهُم ..... و إلاّ فَمَخْزُونٌ لَدَيَّ و مُكتَتَمِ
و قال الآخر :ألم تَرَني ضُيّعتُ في شَرِّ بَلْدةٍ .... فلستُ مُضيِّعًا بينهم دُرَرَ الكَلِمِ
فإن يشْفِني الرّحمنُ من طولِ ما أرى ... و صادَفْتُ أهلاً للعُلومِ و لِلحِكَمِ
بَثَثْتُ مُفِيدًا و استفدتُ وِدادَهُم ..... و إلاّ فَمَخْزُونٌ لَدَيَّ و مُكتَتَمِ
قالوا نراك طويلَ الصّمتِ قلتُ لهم ..... ما طولُ صمتي من عييٍّ و لا خَرس
لكنّه أحمد الأشياء عاقبةً .... عندي و أيسره من منطق شكس
أأنثر البرّ فيمن ليس يعرفه ..... أم أنثر الدُّر بين العمى في الغلس (11) .
لكنّه أحمد الأشياء عاقبةً .... عندي و أيسره من منطق شكس
أأنثر البرّ فيمن ليس يعرفه ..... أم أنثر الدُّر بين العمى في الغلس (11) .
و للقاضي العلّامة الشّاعر أبي الحسن عليّ بن عبد العزيز الجرجانيّ أبيات فائقة (12) :
يَقُولُونَ لي فِيكَ انْقِباضٌ وَ إِنَّمَا ... رَأَوْا رَجُلاً عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُم هَانَ عِنْدَهُمْ ...وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إنْ كَانَ كُلَّمَا ...بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُلَّمَا
إذا قِيلَ هٰذا مُنْهِكٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى ... وَلٰكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ في خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِي ... لأخْدُمَ مَنْ لاقَيْتُ لٰكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْساً وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إذاً فَاتِّبَاعُ الجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وَلَوْ أنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ في النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلٰكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا ...مُحَيَّاهُ بِالأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُم هَانَ عِنْدَهُمْ ...وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إنْ كَانَ كُلَّمَا ...بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُلَّمَا
إذا قِيلَ هٰذا مُنْهِكٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى ... وَلٰكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ في خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِي ... لأخْدُمَ مَنْ لاقَيْتُ لٰكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْساً وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إذاً فَاتِّبَاعُ الجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وَلَوْ أنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ في النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلٰكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا ...مُحَيَّاهُ بِالأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
و هذه آثارٌ أخرى في الباب رواها الإمام الدّارمي رحمه الله في مقدّمة السّنن :
فعن كثير بن مرّة قال : لا تحدّث الباطلَ الحكماءَ فيمقوتك ، و لا تحدّث الحكمة السّفهاء فيكذّبوك ، و لا تمنع العلم أهلَه فتأثم ، و لا تضعه في غير أهله فتُجَهَّلَ ، إنّ عليك في علمك حقًّا كما أنّ عليك في مالك حقًّا (13) .
و عن حجّاج الأسود عن وهب بن منبّه قال : كان أهل العلم فيما مضى يضنّون بعلمهم عن أهل الدّنيا ، فيرغب أهل الدّنيا في علمهم ، فيبذلون لهم دنياهم ، و إنّ أهل العلم اليوم بذلوا علمهم لأهل الدّنيا ، فزهد أهل الدّنيا في علمهم ، فضنّوا عليهم بدنياهم (14) .
و ما أحلى هذا للمتدبّرين ، و هو و إن كان قيل في ذمّ طلب التّلميذ إعادة الحديث من شيخه احتراماً للشّيخ و توقيراً له و طلباً لراحته ، إلاّ أنّه يصلح في أن ينزّل على ما نحن بصدده ؛ فعن أيّوب قال : حدّث سعيد بن جبير يوماً بحديث فقمتُ إليه فاستعدتُه ، فقال لي : ما كلّ ساعة أُحلبُ فأُشربُ !! (15) .
و هذا أثرٌ صريح في الباب عن الإمام الشافعي رحمه الله ذكره البيهقي في مناقبه ( 2/151 ) (16) : " من إذلال العلم أن تناظر كلّ من ناظرك ، و تقاول كل من قاولك " .
قال ابن وهبٍ سمعت مالكاً يقول : " ذلٌّ و إهانةٌ للعلم ، إذا تكلّم الرّجل بالعلم عند من لا يُطيعه " (17) .
و قال ابن شبرمة : " إنّ من المسائل مسائل لا يجمل بالسّائل أن يسأل عنها ، و لا بالمسؤول أن يجيب فيها " (1 .
و قال مالكٌ : " إنّ من إذالة العالم أن يجيب كلّ من كلَّمه ، أو يجيبَ كلّ من سأله " (19) .
عن محمّد بن قدامة قال : " سمعتُ أبا أسامة يقول : إنّي لأغار على الحديث كما يُغار على الجارية الحسناء " (20) .
و عن حمدان بن الأصبهاني قال : كنتُ عند شَريكٍ فأتاه بعضُ ولدِ المهدي ، فاستند إلى الحائط ، و سأله عن حديث ، فلم يلتفت إليه ، فأعاد عليه ، فلم يلتفت إليه ، فقال : كأنّك تستخفّ بأولاد الخلافة ؟ قال : لا و لكنَّ العلمَ أزينُ عند أهله من أن يضيِّعوه ، قال فجثا على ركبتيه ثمّ سأله ، فقال شريك : هكذا يُطلب العلم " (21) .
و قال يحيى بنُ أكثم : " قال لي المأمونُ : مَن تركتَ بالبصرة ؟ فوصفتُ له مشايخَ منهم سُليمانُ ابنُ حرب ، و قلتُ : هو ثقةٌ حافظٌ للحديث ، عاقلٌ ، في نهاية السِّترِ والصِّيانة ، فأمرني بحملهِ إليه ، فكتبتُ إليه في ذلك ، فقدِمَ ، فاتَّفقَ أنّي أدخلتُه إليه ، و في المجلسِ ابنُ أبي دُؤاد ، و ثُمَامَةُ ، و أشبـاهٌ لهما ، فكرهتُ أن يدخُلَ مثلُه بحضرتِهم ، فلمّا دَخَل ، سلَّم ، فأجابه الـمأمونُ ، و رفعَ مـجلِسَهُ ، ودعا له سُليمانُ بالعزِّ والتّوفيق ، فقال ابنُ أبي دُؤاد : يا أميرَ المؤمنين ، نسألُ الشّيخ عن مسألةٍ ؟ فنظر المأمونُ إليه نظرَ تخييرٍ له ، فقال سُليمانُ : يا أميرَ الـمؤمنين ، حدّثنا حَمّادُ بنُ زيد قال : قال رجلٌ لابنِ شُبْرُمة: أسألُك ؟ قال: " إن كانت مسألَتُكَ لا تُضحِكُ الجليس ، و لا تُزرِي بـالمسؤولِ ، فَسَلْ " . و حدَّثنا وُهيبٌ قال : قال إِياسُ بنُ مُعاوية : " مِن المسائلِ ما لا ينبغي للسّائلِ أن يَسأَلَ عنها ، و لا للمجيب أن يُجِيب فيها " . فإن كانت مسألتُه من غيرِ هذا ، فليَسْأَل ، و إن كانت من هذا فليُمْسِك . قال : فهابُوه ، فما نطقَ أحدٌ منهم حتّى قام ، و ولاّه قضاءَ مكَّة ، فخرج إلـيها " (22) .
قال الشّيخ زيدٌ المدخليّ حفظه الله :
" العلمُ لايجوز أن يُكتمَ عن طالبه ، و إنّما يكتمُ العلم عمّن لا يستحقّه و ليس له بأهلٍ ، كمن يستهزؤون بالدّين ، و أحكام الدّين ، هؤلاء لو كُتم العلم عنهم ، لا إثم في ذلك " (23).
قيل إنّ زيادة الله الأمير بعَثَََ يسألُ سُحْنُوناً عن مسألةٍ ، فلم يُجِبْهُ ، فقال له محمّد بن عُبدوس : أُخْرُجْ من بلد القوم ؛ أمسِ ترجعُ عن الصّلاة خلف قاضيهم ، و اليوم لا تجيبُهم ؟! قال: أَفأجيبُ من يريد أن يَتَفَكَّه ؟ يريد أن يأخذ قولي و قول غيري ، و لو كان شيئًا يقصِدُ به الدّين لأجبتُه (24) .
___________________________
(1) : فيه نهشل بن بن سعيد متروك ، كذّبه إسحاق بن راهويه . أفاده الشيخ يحي الحجوري في تحقيقه لكتاب أخلاق العلماء لأبي بكر الآجري ، ص 64 .
(2) : انظرها فيه ص 172 و 173 . ط دار الكتب العلمية بترقيم صلاح عويضة .
(3) : ابن عبد البرّ في " جامع بيان العلم " ، مختصره لأبي عبد الرحمن محمود الجزائري ، ص 43 .
(4) : المصدر السابق ، ص 70 .
(5) : الجامع للخطيب ، ص 173 .
(6) : المصدر السابق ، ص 179 تحت باب : من كان يمتنع أن يحدّث من لا نيّة صحيحة له في الحديث .
(7) و (8 ) : نفس المصدر ، ص 177 ، تحت باب : من كان لا يحدّث السّلاطين .
(9) : طبعة الدّار الأثرية ، 1428 ، ص307 .
(10) : من خطبة جمعة للشيخ عز الدين رمضاني حفظه الله .
(11) : استفدت هذه الأبيات و التي قبلها من " جامع بيان العلم " للحافظ ابن عبد البرّ ، مختصره ص 43 .
(12) : كما وصفها الذهبيّ في السّير ( 12/569 ، ط. دار الفكر ) ، و الأبيات تجدها في " الآداب الشرعية " ( 2/47 ط. دار الوفاء 1419 ) ، و البداية و النّهاية لابن كثير ، أحداث سنة 392 .
(13) : العرف الوردي بشرح و تحقيق سنن الدارمي ، للشيخ الحجوري ، ص 175 رقم 390 ، و قد حكم الشّيخ على سنده بالضعف لجهالة أحد رواته .
(14) : " العرف الوردي " ص 253 رقم 668 ، قال الشيخ يحي : حجّاج الأسود لم يدرك وهب بن منبّه .
(15) : نفس المصدر ، و حكم عليه الشيخ يحي بالصّحة .
(16) : نقلاً عن : " النّبذ في آداب طلب العلم " ص 193 ، و قد أفادني به أحد إخواني جزاه الله خيرا .
(17) : الفقيه و المتفقّه للخطيب البغدادي ( 2/53 رقم : 679 ) .
(16) : المصدر السّابق ( 2/417 رقم : 1196 ) .
(19) : نفس المصدر ( 2/418 لرقم : 1197 ) . و الإذالة : الإهانة ، وزناً و معنًى .
(20) : الجامع في أخلاق الرّاوي و آداب السّامع 1/298 .
(21) : المصدر نفسه 1/312 .
(22) : سير أعلام النّبلاء 9/81 .
(23) : شرح كتاب العلم من صحيح البخاري : الشريط الأول ، الدقيقة 16 .
(24) : السّير 12/63 .
تعليق