لحرص على تحصيل العلم النافع حفظا و فهما.
-يقول الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- في الرسالة :" الناس في طبقات العلم موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به فحق على طلبة العلم بلوغ الغاية جهدهم في الاستكثار من علمهم والصبر على كل عارض دون طلبه وإخلاص النية في استدرك علمه نصا واستنباطا والرغبة إلى الله في العون عليه فإنه لا يدرك خير إلا بعونه فإن من أدرك علما أحكام الله في كتابه نصا واستدلالا ووفقه الله للعمل بما عمل فاز بالفضيلة في دينه ودنياه وانتفت عنه الريب ونورت في قلبه الحكمة واستوجب في الدين موضع الإمامة".
-يقول الإمام الآجري -رَحِمَهُ اللهُ- في أخلاق العلماء بعد أن ذكر حديث معاوية -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنه- المتقدم:" فلما أراد الله تعالى بهم خيرا فقههم في دينه وعلمهم الكتاب والحكمة وصاروا سراجا للعباد ومنارا للبلاد".
إذًا ما هو العلم النافع ؟
-علم الوحيين ،علم الكتاب السنّة، يقول الحافظ ابن رجب في فضل علم الخلف ذكر الله -جَلّا وَعَزّ- في كتابه العلم في مقام المدح وهو العلم النافع وذكر العلم تارة في مقام الذم وهو العلم الذم لا ينفع ، ثم مثل أمثلة للقسم الأول وهو العلم النافع ذكر جملة من الآيات ومنها قول الله - جَلّا وَعَزّ -﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1﴾ [آل عمران: ١٨] قال :"هذا هو العلم النافع"، ثم ذكر أن من العلم النافع هو في أصله نافع لكن من يتحمل هذا العلم لم ينتفع بهذا العلم، قال: "وقد أخبر عن قوم أنهم أوتوا علما ولم ينفعهم علمهم فهذا علم نافع في نفسه لكن صاحبه لم ينتفع به فذكر ومثل له بقوله -جلّا وَعَلا ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾ [ الجمعة: ٥]، ثم قال: "وأمّا العلم الذي ذكره الله على وجه الذم قال فقوله في السحر ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾[البقرة: ١٠٢]" ،ثم قال:" ولذلك جاءت السنّة بتقسيم العلم إلى قسمين:علم نافع وعلم غير نافع."
ثم مثل لذلك باستعاذة النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَمَ- في الحديث الصحيح حديث زيد ابن أرقم أنه كان يقول -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام- في دعاءه ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ))[7]،قال:" فالعلم النافع من هذه العلوم كلها -إذا ما هو- قال ضبط الكتاب و السنّة وفهم معانيها والتقيد - وضع فوقها أو تحتها خطوطا - في ذلك بالمأثور عن الصحابة وتابعيهم في معاني القرآن والحديث ، وفي ما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك والاجتهاد في تمييز صحيحه من سقيمه أولا - أثبت العرش ثم انقش - ثم الاجتهاد في الوقوف على معانيه و تفهمه ثانيا وفي ذلك كفاية لمن عقل وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل " .
ولهذا ذكر الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ الله- أن أعلى الهمم في طلب العلم طلب علم الكتاب والسنّة والفهم عن الله وعن رسوله نفس المراد وعلم حدود المنزل -هذه أعنى الهمم – قال: " وأخس الهمم - أخس همم طلاب العلم - من قصر همته على تتبع شواذ المسائل و ما لم ينزل ولا هو واقع أو كانت همته منصرفة إلى معرفة الاختلاف وتتبع أقوال الناس وليست له همة إلى معرفة الصحيح من ذلك من عدمه " ، ثم قال: "وقلَّ أن ينتفع أحد من هؤلاء بما يتعلم أو بما علم لأن همته كانت في أدنى الهمم ".
يقول العلامة السعدي - رَحِمَهُ اللهُ - في بهجة قلوب الأبرار شارحا قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَمَ - ((احرص على ما ينفعك و استعن بالله))[8] ،قال: " هذا كلام جامع نافع محتو على سعادة الدنيا والآخرة والأمور النافعة قسمان أمور دينية وأمور دنيوية ..." ، إلى أن قال: " فالأمور النافعة في الدين ترجع إلى أمرين علم نافع وعمل صالح ، أما العلم النافع -ما هو ؟- قال: العلم النافع هو المزكي للقلوب و الأرواح المثمر لسعادة الدارين و هو ما جاء به الرسول - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَمَ - من حديث و تفسير و فقه وما يعين على ذلك من علوم العربية بحسب حالة الوقت و الوضع الذي فيه الإنسان".
Ø إذا هذا هو العلم النافع فإذا عرفت العلم النافع جاء الكلام عن الأمر الثاني المتعلق بالعلم النافع وهو قولنا حفظا و تفهما.
فاحفظ من هذا العلم النافع ما استطعت إلى ذلك سبيلا والنبي-عليه الصلاة والسلام- قد حث ورغب في الحفظ، فقال-عَليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- كما في الصحيحين (( فليبلغ الشاهد الغائب))[9] ودعا لمن حفظ حديثه بالنضارة- عَليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - في قوله ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأًسَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ :إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ،وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ،وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ ))[10] ، وفيه في بعض ألفاظه (( فأداها كما سمعها))
جاء عند الإمام مسلم في الصحيح قول أبي زيد بن أخطب -رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْه- ((صلّى بنا رسول الله -صلى الله عليه و سلم- الفجر وصعد فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان و بما هو كائن فأعلمنا أحفظُنا))[11]،كما قلت رواه الإمام مسلم في الصحيح .
ومعلوم و لا يخفى عليكم أنّ أبا هريرة -رضي الله تعالى عنه- معدود في ماذا ؟ ويقال في ترجمته حافظ الصحابة ، وفي الصحيحين أنه قال عن نفسه "أنه يحفظ ما لا يحفظون" .
خرّج الخطيب -رحمه الله- في الكفاية بإسناد صحيح عن الحافظ مروان بن محمد الطاطري "ثلاثة لا يستغني عنها صاحب العلم ،الصدق و الحفظ وصحة الكتب ، فإن أخطأته واحدة لم تضره ، إن أخطئه الحفظ فرجع إلى كتب صحيحة لم يضره ذلك ولهذا قيل كما هو معلوم مشهور ((ليس العلم ما حواه القمطر إنما العلم ما حواه -ماذا؟- الصدر))
ومعلوم ولا يخفى أن الضبط عند أهل العلم على نوعين:
v ضبط صدر.
v وضبط -ماذا؟- كتاب.
وكونهم يعتنون بالأول لا يعني أنهم يهملون الثاني فكانوا يعتنون بالأول و الثاني .
ممّا أثر عن السلف في هذا الباب ما جاء عن الإمام الشعبي -رَحِمَهُ الله- في ترجمته من السير وغيره،أنّ أبا عبد الله الحاكم ترجم له ، فقال:( سمع من ابن عمر،وذكر جملة ، ثم قال: وكان حافظا و ما كتب شيئا قط) ،وقال ابن شبرمة: سمعت الشعبي -رحمه الله- يقول:" ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته ولا أحببت أن يعيده علي " ،من أول مرّة يحفظ .
هذا الكلام عن الإمام الشعبي يدلّ على ماذا ؟ حفظ وقاد - أليس كذلك ؟- ومع هذا لما طال به العمر نسي ، ولما سئل قال: "الأحاديث التي نسيتها لو حفظها طالب لكان عالما "،مقدار الذي نسي ،ولا شك أن الحفظ خوّان ، قال الإمام علي بن المديني "بلغنا أنّ إمامنا أحمد بن حنبل كان لا يحدث إلا من كتاب ولنا فيه أسوة حسنة "، مع أن الإمام أحمد حافظ وإمام والإمام علي بن المديني إمام ،ومع هذا يقول لنا في الإمام أحمد -ماذا ؟- أسوة حسنة.
وجاء أيضا في ترجمة الإمام حمّاد بن زيد بن درهم ،قال العجلي -رَحِمَهُ الله- (حمّاد بن زيد ثقة وحديثه أربعة آلاف حديث كان يحفظها ولم يكن له كتاب) .
وقال ابن خراش: " لم يخطئ حمّاد بن زيد في حديث قط ".
وقال الذهبي –رَحِمَهُ الله- في الكاشف : "كان يحفظ حديثه كالماء" ،يعني كشرب الماء.
هذا الحفظ لا يأتي هكذا ، لا بد له من آلات و سبق بيان الرسائل السابقة نعم، بين لك جملة من آلاته الحافظ العلامة العسكري-رَحِمَهُ الله- في الحث على طلب العلم قال: " الحفظ لا يكون إلا مع شدة العناية ، كثرة الدرس وإذا لم يكن درس لم يكن حفظ ، وطول المذاكرة ،وإذا لم تكن مذاكرة قلت منفعة الدرس"،ثم نقل عن الإمام الزهري أنه قال: "إنّ الرجل ليطلب العلم و قلبه شعب من الشعاب فما يلبث إلا أن يصير واديا لا يوضع فيه شيء إلا التهمه" .
قال معلقا العسكري مبيّنا معنى كلام الإمام الزهري :"يريد أن أول الحفظ شديد يشق على الإنسان ثم إذا اعتاد هذا سهل عليه" ،ثم أسند عن الحارث بن أبي أسامة أنّه قال: " كان العلماء يقولون: " كل وعاء أفرغت فيه شيئا فإنه يضيق إلا القلب فكلما أفرغ فيه اتسع" ، ثم قال-هو عن نفسه- العسكري أبو هلال قال: " وكان الحفظ يتعذر عليّ حين ابتدأت أرومه ثمّ عودت نفسي إلى أن حفظت قصيدة رأبة.
وقاسم الأعمال خال مخترى في ليلة
قال : وكانت قريبة من 200 بيت ".
الحفظ -أيّها الإخوة- لابد أن يصحبه أمر مهم أو يسبقه أمر مهم نبه عليه العلامة ابن جماعة في تذكرة السامع قال: " أن يصحح الطالب ما يقرأه قبل أن يحفظه تصحيحا متقنا إمّا على الشيخ أو على من يعنيه، ثم يحفظه بعد ذلك حفظا محكما ثم يكرر عليه بعد حفظه تكرارا جيدا، ثم يتعاهده في أوقات يقررها لتكرار مواضيعه ولا يحفظ شيئا قبل تصحيحه لأنه يقع في التصحيف و التحريف والعلم لا يأخذ من الكتب فإنه من أضر المفاسد " ،لأنّ الأصل أن يؤخذ العلم من أفواه الرجال كما قاله الإمام الوليد بن مسلم -رحمه الله- .
ثم بعد أن بينا الحفظ نتكلم عن الفهم وأهميته :
يقول الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ الله- في إعلام الموقعين: "صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله -عَزَّ وَجَل- على العبد ،من أعظم نعمه التي أنعم بها على عبده بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما بل هما ساقا الإسلام و قيامه عليهما وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم وطريق الضالين الذين فسد ت فهومهم ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم وهم أهل الصراط المستقيم الذي أمرنا أن نسأل الله تعالى أن يهدينا صراطهم في كل -ماذا؟- في كل صلاة "، وقال في موطن آخر: "و تفاوت الأمّة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله ولولاه لكانت الأفهام متساوية -أليس كذلك ؟- ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم ولمّا خص الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سليمان بفهم الحكومة في الحرث وقد أثنى عليه وعلى داوود في العلم والحكم "، وقال أيضا في موطن آخر: "المقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم للنصوص وأنّ منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره وأخص من هذا وألطف في الفهوم والمدارك مع هذا كله ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده وهذا باب عجيب في فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم، فإنّ الذهن قد لا يشعر بالارتباط بهذا و تعلقه به ".
وهنا قصة جميلة و هذا من باب الترويح نعم في الفهم قصة جميلة يرويها شيخ شيوخنا الإمام العلامة الحبر محمد الأمين الشنقيطي -رَحِمَهُ الله- في مقدمة الأضواء اسمع إلى هذه القصة قال: " جئت للشيخ في قراءتي عليه فشرح لي كما كان يشرح و لكنه لم يشف ما في نفسي على ما تعودت و قمت من عنده و أنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس وإيضاح بعض المشكل -مازال الذي عنده بقي - وكان الوقت ظهرا فأخذت الكتب والمراجع فطالعت حتى العصر فلم أفرغ من حاجتي فعاودت حتى المغرب فلم أنتهي أيضا ،فأوقد لي خادمي أعوادا من الحطب أقرأ على ضوئها وواصلت المطاعة وأتناول الشاي الأخضر -هكذا يقول- كلما مللت أو كسلت والخادم بجواري وقد الضوء حتى انبزغ الفجر -من الظهر حتى انبثق الفجر- وأنا في مجلسي لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام وإلى أن ارتفع النّهار وقد فرغت من درسي وزال عنّي لبسي و وجدتها هذا المحل من الدرس كغيره في الوضوح والفهم فتركت المطالعة و نمت وأوصيت خادمي ألا يوقظني لدرسي في ذلك اليوم اكتفاء بما حصلت عليه واستراحت من عناء سهر البارحة" انتهى كلامه -رَحِمَهَ الله-.
رأيتَ كيف هذه العناية في الفهم فمن حفظ فلا بد أن يفهم يعتني بالعلم النافع، وعرفنا ما هو العلم النافع وعرفناه ويعتني بذلك فهما حفظا و فهما .
-يقول الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- في الرسالة :" الناس في طبقات العلم موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به فحق على طلبة العلم بلوغ الغاية جهدهم في الاستكثار من علمهم والصبر على كل عارض دون طلبه وإخلاص النية في استدرك علمه نصا واستنباطا والرغبة إلى الله في العون عليه فإنه لا يدرك خير إلا بعونه فإن من أدرك علما أحكام الله في كتابه نصا واستدلالا ووفقه الله للعمل بما عمل فاز بالفضيلة في دينه ودنياه وانتفت عنه الريب ونورت في قلبه الحكمة واستوجب في الدين موضع الإمامة".
-يقول الإمام الآجري -رَحِمَهُ اللهُ- في أخلاق العلماء بعد أن ذكر حديث معاوية -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنه- المتقدم:" فلما أراد الله تعالى بهم خيرا فقههم في دينه وعلمهم الكتاب والحكمة وصاروا سراجا للعباد ومنارا للبلاد".
إذًا ما هو العلم النافع ؟
-علم الوحيين ،علم الكتاب السنّة، يقول الحافظ ابن رجب في فضل علم الخلف ذكر الله -جَلّا وَعَزّ- في كتابه العلم في مقام المدح وهو العلم النافع وذكر العلم تارة في مقام الذم وهو العلم الذم لا ينفع ، ثم مثل أمثلة للقسم الأول وهو العلم النافع ذكر جملة من الآيات ومنها قول الله - جَلّا وَعَزّ -﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1﴾ [آل عمران: ١٨] قال :"هذا هو العلم النافع"، ثم ذكر أن من العلم النافع هو في أصله نافع لكن من يتحمل هذا العلم لم ينتفع بهذا العلم، قال: "وقد أخبر عن قوم أنهم أوتوا علما ولم ينفعهم علمهم فهذا علم نافع في نفسه لكن صاحبه لم ينتفع به فذكر ومثل له بقوله -جلّا وَعَلا ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾ [ الجمعة: ٥]، ثم قال: "وأمّا العلم الذي ذكره الله على وجه الذم قال فقوله في السحر ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾[البقرة: ١٠٢]" ،ثم قال:" ولذلك جاءت السنّة بتقسيم العلم إلى قسمين:علم نافع وعلم غير نافع."
ثم مثل لذلك باستعاذة النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَمَ- في الحديث الصحيح حديث زيد ابن أرقم أنه كان يقول -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام- في دعاءه ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ))[7]،قال:" فالعلم النافع من هذه العلوم كلها -إذا ما هو- قال ضبط الكتاب و السنّة وفهم معانيها والتقيد - وضع فوقها أو تحتها خطوطا - في ذلك بالمأثور عن الصحابة وتابعيهم في معاني القرآن والحديث ، وفي ما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك والاجتهاد في تمييز صحيحه من سقيمه أولا - أثبت العرش ثم انقش - ثم الاجتهاد في الوقوف على معانيه و تفهمه ثانيا وفي ذلك كفاية لمن عقل وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل " .
ولهذا ذكر الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ الله- أن أعلى الهمم في طلب العلم طلب علم الكتاب والسنّة والفهم عن الله وعن رسوله نفس المراد وعلم حدود المنزل -هذه أعنى الهمم – قال: " وأخس الهمم - أخس همم طلاب العلم - من قصر همته على تتبع شواذ المسائل و ما لم ينزل ولا هو واقع أو كانت همته منصرفة إلى معرفة الاختلاف وتتبع أقوال الناس وليست له همة إلى معرفة الصحيح من ذلك من عدمه " ، ثم قال: "وقلَّ أن ينتفع أحد من هؤلاء بما يتعلم أو بما علم لأن همته كانت في أدنى الهمم ".
يقول العلامة السعدي - رَحِمَهُ اللهُ - في بهجة قلوب الأبرار شارحا قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَمَ - ((احرص على ما ينفعك و استعن بالله))[8] ،قال: " هذا كلام جامع نافع محتو على سعادة الدنيا والآخرة والأمور النافعة قسمان أمور دينية وأمور دنيوية ..." ، إلى أن قال: " فالأمور النافعة في الدين ترجع إلى أمرين علم نافع وعمل صالح ، أما العلم النافع -ما هو ؟- قال: العلم النافع هو المزكي للقلوب و الأرواح المثمر لسعادة الدارين و هو ما جاء به الرسول - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَمَ - من حديث و تفسير و فقه وما يعين على ذلك من علوم العربية بحسب حالة الوقت و الوضع الذي فيه الإنسان".
Ø إذا هذا هو العلم النافع فإذا عرفت العلم النافع جاء الكلام عن الأمر الثاني المتعلق بالعلم النافع وهو قولنا حفظا و تفهما.
فاحفظ من هذا العلم النافع ما استطعت إلى ذلك سبيلا والنبي-عليه الصلاة والسلام- قد حث ورغب في الحفظ، فقال-عَليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- كما في الصحيحين (( فليبلغ الشاهد الغائب))[9] ودعا لمن حفظ حديثه بالنضارة- عَليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - في قوله ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأًسَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ :إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ،وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ،وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ ))[10] ، وفيه في بعض ألفاظه (( فأداها كما سمعها))
جاء عند الإمام مسلم في الصحيح قول أبي زيد بن أخطب -رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْه- ((صلّى بنا رسول الله -صلى الله عليه و سلم- الفجر وصعد فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان و بما هو كائن فأعلمنا أحفظُنا))[11]،كما قلت رواه الإمام مسلم في الصحيح .
ومعلوم و لا يخفى عليكم أنّ أبا هريرة -رضي الله تعالى عنه- معدود في ماذا ؟ ويقال في ترجمته حافظ الصحابة ، وفي الصحيحين أنه قال عن نفسه "أنه يحفظ ما لا يحفظون" .
خرّج الخطيب -رحمه الله- في الكفاية بإسناد صحيح عن الحافظ مروان بن محمد الطاطري "ثلاثة لا يستغني عنها صاحب العلم ،الصدق و الحفظ وصحة الكتب ، فإن أخطأته واحدة لم تضره ، إن أخطئه الحفظ فرجع إلى كتب صحيحة لم يضره ذلك ولهذا قيل كما هو معلوم مشهور ((ليس العلم ما حواه القمطر إنما العلم ما حواه -ماذا؟- الصدر))
ومعلوم ولا يخفى أن الضبط عند أهل العلم على نوعين:
v ضبط صدر.
v وضبط -ماذا؟- كتاب.
وكونهم يعتنون بالأول لا يعني أنهم يهملون الثاني فكانوا يعتنون بالأول و الثاني .
ممّا أثر عن السلف في هذا الباب ما جاء عن الإمام الشعبي -رَحِمَهُ الله- في ترجمته من السير وغيره،أنّ أبا عبد الله الحاكم ترجم له ، فقال:( سمع من ابن عمر،وذكر جملة ، ثم قال: وكان حافظا و ما كتب شيئا قط) ،وقال ابن شبرمة: سمعت الشعبي -رحمه الله- يقول:" ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته ولا أحببت أن يعيده علي " ،من أول مرّة يحفظ .
هذا الكلام عن الإمام الشعبي يدلّ على ماذا ؟ حفظ وقاد - أليس كذلك ؟- ومع هذا لما طال به العمر نسي ، ولما سئل قال: "الأحاديث التي نسيتها لو حفظها طالب لكان عالما "،مقدار الذي نسي ،ولا شك أن الحفظ خوّان ، قال الإمام علي بن المديني "بلغنا أنّ إمامنا أحمد بن حنبل كان لا يحدث إلا من كتاب ولنا فيه أسوة حسنة "، مع أن الإمام أحمد حافظ وإمام والإمام علي بن المديني إمام ،ومع هذا يقول لنا في الإمام أحمد -ماذا ؟- أسوة حسنة.
وجاء أيضا في ترجمة الإمام حمّاد بن زيد بن درهم ،قال العجلي -رَحِمَهُ الله- (حمّاد بن زيد ثقة وحديثه أربعة آلاف حديث كان يحفظها ولم يكن له كتاب) .
وقال ابن خراش: " لم يخطئ حمّاد بن زيد في حديث قط ".
وقال الذهبي –رَحِمَهُ الله- في الكاشف : "كان يحفظ حديثه كالماء" ،يعني كشرب الماء.
هذا الحفظ لا يأتي هكذا ، لا بد له من آلات و سبق بيان الرسائل السابقة نعم، بين لك جملة من آلاته الحافظ العلامة العسكري-رَحِمَهُ الله- في الحث على طلب العلم قال: " الحفظ لا يكون إلا مع شدة العناية ، كثرة الدرس وإذا لم يكن درس لم يكن حفظ ، وطول المذاكرة ،وإذا لم تكن مذاكرة قلت منفعة الدرس"،ثم نقل عن الإمام الزهري أنه قال: "إنّ الرجل ليطلب العلم و قلبه شعب من الشعاب فما يلبث إلا أن يصير واديا لا يوضع فيه شيء إلا التهمه" .
قال معلقا العسكري مبيّنا معنى كلام الإمام الزهري :"يريد أن أول الحفظ شديد يشق على الإنسان ثم إذا اعتاد هذا سهل عليه" ،ثم أسند عن الحارث بن أبي أسامة أنّه قال: " كان العلماء يقولون: " كل وعاء أفرغت فيه شيئا فإنه يضيق إلا القلب فكلما أفرغ فيه اتسع" ، ثم قال-هو عن نفسه- العسكري أبو هلال قال: " وكان الحفظ يتعذر عليّ حين ابتدأت أرومه ثمّ عودت نفسي إلى أن حفظت قصيدة رأبة.
وقاسم الأعمال خال مخترى في ليلة
قال : وكانت قريبة من 200 بيت ".
الحفظ -أيّها الإخوة- لابد أن يصحبه أمر مهم أو يسبقه أمر مهم نبه عليه العلامة ابن جماعة في تذكرة السامع قال: " أن يصحح الطالب ما يقرأه قبل أن يحفظه تصحيحا متقنا إمّا على الشيخ أو على من يعنيه، ثم يحفظه بعد ذلك حفظا محكما ثم يكرر عليه بعد حفظه تكرارا جيدا، ثم يتعاهده في أوقات يقررها لتكرار مواضيعه ولا يحفظ شيئا قبل تصحيحه لأنه يقع في التصحيف و التحريف والعلم لا يأخذ من الكتب فإنه من أضر المفاسد " ،لأنّ الأصل أن يؤخذ العلم من أفواه الرجال كما قاله الإمام الوليد بن مسلم -رحمه الله- .
ثم بعد أن بينا الحفظ نتكلم عن الفهم وأهميته :
يقول الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ الله- في إعلام الموقعين: "صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله -عَزَّ وَجَل- على العبد ،من أعظم نعمه التي أنعم بها على عبده بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما بل هما ساقا الإسلام و قيامه عليهما وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم وطريق الضالين الذين فسد ت فهومهم ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم وهم أهل الصراط المستقيم الذي أمرنا أن نسأل الله تعالى أن يهدينا صراطهم في كل -ماذا؟- في كل صلاة "، وقال في موطن آخر: "و تفاوت الأمّة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله ولولاه لكانت الأفهام متساوية -أليس كذلك ؟- ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم ولمّا خص الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سليمان بفهم الحكومة في الحرث وقد أثنى عليه وعلى داوود في العلم والحكم "، وقال أيضا في موطن آخر: "المقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم للنصوص وأنّ منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره وأخص من هذا وألطف في الفهوم والمدارك مع هذا كله ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده وهذا باب عجيب في فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم، فإنّ الذهن قد لا يشعر بالارتباط بهذا و تعلقه به ".
وهنا قصة جميلة و هذا من باب الترويح نعم في الفهم قصة جميلة يرويها شيخ شيوخنا الإمام العلامة الحبر محمد الأمين الشنقيطي -رَحِمَهُ الله- في مقدمة الأضواء اسمع إلى هذه القصة قال: " جئت للشيخ في قراءتي عليه فشرح لي كما كان يشرح و لكنه لم يشف ما في نفسي على ما تعودت و قمت من عنده و أنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس وإيضاح بعض المشكل -مازال الذي عنده بقي - وكان الوقت ظهرا فأخذت الكتب والمراجع فطالعت حتى العصر فلم أفرغ من حاجتي فعاودت حتى المغرب فلم أنتهي أيضا ،فأوقد لي خادمي أعوادا من الحطب أقرأ على ضوئها وواصلت المطاعة وأتناول الشاي الأخضر -هكذا يقول- كلما مللت أو كسلت والخادم بجواري وقد الضوء حتى انبزغ الفجر -من الظهر حتى انبثق الفجر- وأنا في مجلسي لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام وإلى أن ارتفع النّهار وقد فرغت من درسي وزال عنّي لبسي و وجدتها هذا المحل من الدرس كغيره في الوضوح والفهم فتركت المطالعة و نمت وأوصيت خادمي ألا يوقظني لدرسي في ذلك اليوم اكتفاء بما حصلت عليه واستراحت من عناء سهر البارحة" انتهى كلامه -رَحِمَهَ الله-.
رأيتَ كيف هذه العناية في الفهم فمن حفظ فلا بد أن يفهم يعتني بالعلم النافع، وعرفنا ما هو العلم النافع وعرفناه ويعتني بذلك فهما حفظا و فهما .
فوائد من محاضرة بعنوان رسائل لطالب العلم لشيخ عبد الله البخاري حفظه الله