ليس العلم بكثرة الانكباب ولكن..
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين أما بعد،،فهذا مقتطف من كلام ابن حزم الإمام الظاهري -رحمه الله- وهو من أوسع الناس علمًا وأعلاهم ذهنًا وفكرًا، وأحببت أن أعجِّل بوضع هذه الكلمات له، ثم أعقبها بكلام قريب منه لغيره، وإنِّي قريبًا سأضع -إن شاء الله وتم العزم- سلسلة من فوائد ابن حزم مقتطفة من الكتاب القيم النفيس "نوادر ابن حزم" لابن عقيل الظاهري، ودونكم نص كلام ابن حزم:
ولقد أخبرني عبدالملك بن طريف -وهو من أهل العلم والذكاء واعتدال الأحوال وصحة البحث- أنَّه كان ذا حظ من الحفظ عظيم لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته وأنَّه ركب البحر فمر به فيه هول شديد أنساه أكثر ما كان يحفظ وأخل بقوة حفظه إخلالا شديدا لم يعاوده ذلك الذكاء بعد.
وأنا أصابتني- [أي ابن حزم]- علة فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له فما عاودته إلا بعد أعوام.
واعلم أنَّ كثيرا من أهل الحرص على العلم يجدون القراءة والإكباب على الدروس والطلب ثم لا يرزقون منه حظا، فليعلم ذو العلم أنَّه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه، فصح أنَّه موهبة من الله تعالى فأي مكان للعُجب ها هنا ما هذا إلا موضع تواضع وشكر لله تعالى واستزادة من نعمه واستعاذة من سلبها ا.هـ [مداواة النفوس 63-64]
قلت (أبوصهيب): وفي هذا يقول الإمام مالك فيما يرويه أبو القاسم الجوهري في "مسند الموطأ" قال:حدثنا أحمد بن الحسن النجيرمي قال حدثنا محمد بن رزيق قال أخبرنا الحارث قال حدثنا ابن القاسم قال سمعت مالكا يقول : " ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم نور يضعه الله عز وجل في القلوب " ورواه الخطيب في "الجامع لأخلاق.." عن ابن وهب عن مالك.
وقال الذهبي في ترجمة "عثمان بن سعيد الدارمي": ثم العلم ليس هو بكثرة الرواية، ولكنه نور يقذفه الله في القلب، وشرطه الاتباع، والفرار من الهوى والابتداع. ا.ه
فحق لطالب العلم أن يكون حاله كما قال ابن القيم -رحمه الله- حاكيا حال ابن تيمية-رحمه الله فقال:
فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورُ اللَّهِ يَقْذِفُهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ، وَالْهَوَى وَالْمَعْصِيَةُ رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ تُطْفِئُ ذَلِكَ النُّورَ أَوْ تَكَادُ، وَلَا بُدَّ أَنْ تُضْعِفَهُ.
وَشَهِدْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ إذَا أَعْيَتْهُ الْمَسَائِلُ وَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ فَرَّ مِنْهَا إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِاَللَّهِ وَاللَّجَأِ إلَيْهِ، وَاسْتِنْزَالِ الصَّوَابِ مِنْ عِنْدِهِ، وَالِاسْتِفْتَاحِ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، فَقَلَّمَا يَلْبَثُ الْمَدَدُ الْإِلَهِيُّ أَنْ يَتَتَابَعَ عَلَيْهِ مَدًّا، وَتَزْدَلِفُ الْفُتُوحَاتُ الْإِلَهِيَّةُ إلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ وُفِّقَ هَذَا الِافْتِقَارَ عِلْمًا وَحَالًا، وَسَارَ قَلْبُهُ فِي مَيَادِينِهِ بِحَقِيقَةٍ وَقَصْدٍ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظُّهُ مِنْ التَّوْفِيقِ، وَمَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ مُنِعَ الطَّرِيقَ وَالرَّفِيقَ، فَمَتَى أُعِينَ مَعَ هَذَا الِافْتِقَارِ بِبَذْلِ الْجَهْدِ فِي دَرْكِ الْحَقِّ فَقَدْ سَلَكَ بِهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ا.هـ من "أعلام الموقعين".
تعليق