﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) ﴾ [الأحزاب:70-71].
أما بعد..
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
أما بعد..
أقول إن كثيرا من شباب الأخيار، يتسأل عن طريق الأمثل لطلب العلم:ويسأل نفسه هٰٰذه السؤالات:
الأول: كيف يبدأ؟، والثاني: على من يبدأ؟، والثالث: بم يبدأ؟
وعلى هذا فأنقل لي أخي طالب العلم الإجابة عن هذه الأسئلة من محاضرة لشيخ محمد بن هادي حفظه الله.
o فأما: كيف يبدأ؟
فأقول يبدأ كما بدأ السابقون؛ فإن هو خالف سلفه في بدئه لم يصل إلى ما وصلوا إليه، يقول شيخ شيوخنا: "فإن أردت رُقيٍّا نحو رتبتهم ورُمت مجداً رفيعاً مثل مجدهِمِ، فاعمد إلى سُلَّم التقوى الذي نصبوه، واصعد بجدًّ وعزمٍ مثل عزمهم".
"فإن أردت رُقيٍّا نحو رتبتهم": يعني الأوّلين أهل العلم أئمة الهدى.
"ورُمت مجداً": أردت مجدا رفيعا مثل مجددهم.
"فاعمد الى سلم التقوى الذي نصبوه واصعد بجدًّ وعزمٍ مثل عزمهم".
لابد فإذاً جاءنا الجواب: كيف يبدأ؟، يبدأ كما بدأ الأولون، يبدأ بالتدرج والترقي في العلم، وإلا فإنه سيتعب، ولذلك يقول الشيخ رحمه الله هنا: "فاعمد إلى سُلّم التقوى الذي نصبوه واصعد بجدًّ وعزمٍ مثل عزمهم"، فأنت ترقى درجة درجة، فالتعليم هكذا، درجة درجة، مرتبة مرتبة.
فكيف تبدأ؟ لا يمكن أن يأتي الطالب المبتدئ فيأتي إلى آخر الحِلَق التي قد تقدم أصحابها ويجلس فيها وقد ترك الأولى، الحلق الاولى التي يؤسَس فيها وهو لم يؤسس، فلا بد من التدرج، فيبدأ بصغار العلم قبل كباره.
o [بم يبدأ؟]
يبدأ بمختصراته الصغيرة، ثم متوسطاته بعد ذلك، ثم بعد ذلك بالمطوَّلات، وإذا قفز قفزة كبيرة يوشك أن يطيح فينكسر، وهٰٰذه المختصرات هي أصول يبني عليها المرء علمه، و يَرٌد الفروع إليها، فإذا لم يبنِ على أصل لا يقوم له بناء، فلا يتخطى شيئاً إلى شيئ إلى بعد أن يتقن ما قبله، ولهٰٰذا أذكر أني ضربت عندكم مثالاً:
(العمدة) للموفق، ثم (المقنع)، ثم (الكافي)، ثم بعد ذلك اقرأ، فـ(العمدة) للمبتدئين، بعد ذلك (المقنع) للمتوسطين، ثم (الكافي) للمنتهين، ثم بعد ذلك (المغني) للباحثين، ولهٰٰذا يقول فيه القائل:
كفى الخلقُ بالكافي وأَقْنَعَ طالباً بمُقْنِعِ فقهٍ في كتابٍ مُطوَّلِ
وأغنى بمُغْني الفقه من كان باحثاً وعمدته من يعتمدها يحصِّلِ
(القواعد الأربع)، و(ثلاثة الأصول)، و(كشف الشبهات)، و(كتاب التوحيد)، فـ(الواسطية)، فـ(الحموية)، فـ(الطحاوية)، و(التدمرية)، هذه لابد منها؛ لأن في كل واحد منها زيادة على الآخر، والأصل إذا مكنته حملت عليه أكثر وأكثر، فإذا كان الأصل ضعيفاً هشاً لا يحتمل البناء، يطيح به، ومثله أيضاً في كل الفنون، إذا جئت إلى الفقه -فكما ذكرنا لكم-.
إذا جئت إلى الحديث: فمن أول ما تبدأ بـ(الأربعين)، في صغرنا نبدأ بأبنائنا كما بدأنا نحن على أشياخنا بـ(الأربعين)، ثم (العمدة)، ثم (البلوغ)، ثم (المنتقى)، ثم اقرأ ما شئت في كتب الأحكام، كتب الحديث المسندة بعد ذلك لا يضيرك؛ لكن إذا أقمت أصولها قبل: فتبدأ بالمصطلح فتقرأ وتحقق فيه، فتقرأ مثلاً في صغرك تُفتح بـ(البيقونية)، تنتقل منها إلى (النخبة) مع شرحها، (النزهة) تنتقل منها إلى (اختصار علوم الحديث) أو إلى (التقريب) للنووي مع (تدريب الراوي)، ثم بعد ذلك (علوم الحديث) لابن الصلاح مع (التقييد والإيضاح) للحافظ، ثم (فتح المغيث) للسخاوي، تقرأها قراءة المستفيد الناظر الباحث الذي يريد أن يستفيد، كل كتاب في مرحلته، و أنا ضمين لكم بأن مَنْ مشى على هٰٰذا وكل كتاب في مرحلته ويتقنه في مرحلته يكتفي به -إن شاء الله تعالىٰٰ- في علمه العام، لا عاد يحتاج ينظر إليه إلا إذا أراد أن يدقق العلم بنفسه نقلاً عنه وتوثيقاً فيه مراجعةً له، أما من حيث استحضاره في الجملة فلا يكاد في الغالب يخرجها، فلا بد من هٰٰذا، هكذا في الأصول؛ أصول الفقه في (الورقات) نظمها، الشيخ محمد كتابه أيضاً في الأصول أول ما درسناه وعرفناه في الأصول هٰٰذا الكتاب في المعاهد العلمية، ثم (الورقات)، ثم (نظمها)، ثم سهل عليك بعد ذلك تقرأ في الكتب الأخرى.
وهٰٰذه الأمور لا بد فيها من ثلاثة أشياء، وقد نظمها الناظم في قوله:
وَإِنَّمَا التَّعْلِيمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالْحِفْظِ وَالتَّدْقِيقِ وَالتَّفَهُّمِ
فلا بد ممن تتعلم عليه، أمّا من كان شيخه كتابه فكما قالوا: خطؤه أكثر من صوابه، وأنتم ترون الساحة تعج بكثير من هؤلاء.
الثاني: الحفظ، فما ينفعك لو قنيت كتب الدنيا كلها، إذا لم يكن محفوظ فلا ينفع، لا بد من الحفظ، لا بد من الحفظ، لابد من الحفظ، في كل فن احفظ متن، وعليك في حفظ المتن -كما قلنا عندكم سابقاً - بالمشهورات التي خدمها العلماء شرحاً وتحشيةً وبياناً لغوامضها واستدراكاً لما فاتها، وتعليقاً عليها، هٰٰذه مخدومة توفر لك الوقت، وتوفر عليك الجهد، الكتب المشهورة عليك بها وإياك والمغمور.
العلم إنما هو ماكان مشهوراً **العلم ما جاء من هنا وهنا
فأولاً: لابد من الحفظ، وكما قلنا الحفظ للكتب التي درسها العلماء، واعتني بها العلماء، خدمها العلماء، ثم تدقيق هٰٰذا العلم، تدقيقه، وتدقيقه كيف؟، بمراجعته، ما يمكن أن تحفظ مرة واحدة وتريده يبقى معك الدهر، لابد من مراجعة دائماً وأبداً، اجعل لك وقتاً تراجع فيه، وإذا كان محفوظ ثق تماماً أنك سيجري على لسانك وأنت تمشي وفي السيارة تراجع، كصاحب القرآن تجده في السيارة يمشي ويقرأ، وعند الإشارة يقف ويقرأ، وإذا مشى الصباح إذا أراد يأخذ فسحة يتمرن تجده يقرأ، لِمَ؟ يقطع الوقت ويحفظ ويدقق محفوظه، والآن شيء حفظناه وضيعناه بسبب عدم المراجعة بالتدقيق، فإن كثرة التكرار تورث الاستقرار لهٰٰذا العلم، كثرة التكرار تورث الاستقرار، وكلما رددت محفوظك كلما أحسست بحلاوته، لماذا؟ لأن بعض الأحيان تجد أنت بنفسك مع التكرار يفتح الله عليك مسألة كانت مغلقة عليك في هٰٰذا المتن وكنت تحتاج إلى أن تسأل عنها، فالآن ما تتبين لك بعد غد ما تتبين لك، يمكن بعد شهر إذا قرأتها مرة أخرى وأنت تراجع ينقبس ينقدح في ذهنك أن هٰٰذا البيت أو هٰٰذا الحديث أو هٰٰذا المقطع من كلام العالم مراده به كذا وكذا، فتجد حلاوته، ولهٰٰذا قال بعضهم:
وَلَا يُمِلَّنَّكَ مَا تَكَرَّرَا ** لَعَلَّهُ يَحْلُو إِذَا تَكَرَّرَا
علمي معي أين ما يممت أحمله ** ...............................
.................................. ** إن كنت في السوق كان العلم في السوقِ[1]
الآن قضية الحفظ إكتنفها أمران، أتلفها أمران في عصرنا في هٰٰذه الأيام أتلفها أمران:
- عدم مراجعة المحفوظ أو الحفظ: لأجل مسابقات ما يكون قصده بالحفظ ما ذكرناه أولاً وجه الله والدار الآخرة، يتعلم ليقِّر هٰٰذا الحفظ في قلبه فيكون حافظ، "وَاحْفَظْ فَكُلُّ حَافِظٍ إِمَامُ"، لأ، أبناءنا أبناءنا ما نقول إلا في أبنائنا، ولا يرضينا هٰٰذا الكلام؛ ولكن هٰٰذا هو الواقع، يحفظ لدخول المسابقة، فإذا وصل للمركز الأول؛ الثاني؛ الثالث انتهت المسابقة ضيَّع ما حفظ، تأتي تُقلِبه بعد ذلك ما تجد عنده محفوظ، لماذا؟ مايريد!، صح ولا لأ؟ فهٰٰذه مصيبة، كم صار عندنا الآن؟ في هٰٰذه القضية؟ في إتلاف الحفظ؟ أمران:
- إتلاف الحفظ بعدم مراجعته.
- وإتلاف الحفظ بسوء المقصد فيه: وهو أنه مايكون المقصد به العلم، تحقيقه لأجل العلم، تحصيله لأجل العلم لأ، إنما تعلمه أو حفظه لأجل هٰٰذا للمسابقة، وهٰٰذا حصل حتى لبعض من حفظ القرآن، وللأسف وللأسف، وهي مصيبة، فنسأل الله العافية والسلامة.
هٰٰذه المنزلة الأولى: كيف تبدأ؟ صح ولا لأ؟، والثانية قلناها: بِمَ تبدأ؟
o والآن عندنا الثالثة: على مَن تبدأ؟
إن الأخذ للعلم أخذٌ للأمر النفيس، وهٰٰذا لا يؤخذ إلا عن أهله، وهم علماء السنة والأثر، المعلِّمون الذين هم على السنة، فعنهم يُتلقى؛ إذ من علامات إرادة الله بالعبد بالحدث خيراً وبالعجمي إذا أسلم أو النبَطي إذا أسلم أن يوفقه لمن؟ لصاحب سنة؛ لأن صاحب السنة يدلُّك على النافع ويحذرك من ضده، صاحب السنة يدل على النافع ويحذر من ضده، فالعالم والشيخ والمربي السني حقيقة هو الذي يمشي معك كما الله أمر -جل وعز-، كما أمره الله –جلَّ وعلا-: ﴿وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران:79]، فالعالم هو المربي، والمربي هو الذي يدل الطالب، ويجعل الطالب عنده بمنزلة ابنه؛ بل بعضهم انصرف ابنه عن العلم فكان طالبه في حجره أقرب من ابنه إليه، فيعتني به اعتناءً فائقاً، فيدله على ما يصلح له في علمه، ويدله على ما يصلح له في دينه، ويدله على ما يصلح له في دنياه، فتجده يربِّيه يبين له النافع؛ لأن الأمور ثلاثة، شيئٌ بمنزلة الغِذاء، الأمور عموماً المفيدة وغير المفيدة ثلاثة، كالغذاء العلم هو غذاء الروح، فهو ثلاثة أنواع:
- منه ما هو نافع جداً، فهٰٰذا يعمل في الجسم مثل عمل الغذاء الدوائي، غذاء ودواء في نفس الوقت.
- وقسم غير ضار، فيه نفع؛ لكن غير ضار؛ ولكن النفع ليس كالأول يورث القوة، هٰٰذا..
علماء الغذاء هكذا يقسمون الغذاء يقولون فيه غذاء إذا تناولته كان فيه فيتامينات، وهو غذاء ودواء هٰٰذا يسمُّونه نافع جداً، فهٰٰذا صنف.
والصنف الثاني: غير ضار؛ لكن فيه نفع؛ لكن نفعه قليل، وهٰٰذا كالاشتغال بفضلات العلوم -فضول العلوم- التي تكمِّل بها من هنا وهنا، فيها نفع؛ لكن إذا فقدتها ما في ضرر، فقدها غير ضار.
الآن نجد بعض أبناءنا يشتغل بهٰٰذه الثقافات وراء المجلات والصحف هٰٰذه التي تصدر الدوريات والكتيبات التي لا تفيده في هٰٰذا الجانب شيئاً فضلاً عمن يشتغل بالقصص وما يتعلق بها، فهٰٰذا لا يحصل علماً، الصغير الآن، الآن الصغير تجده أول ما يفتح ويعيش بين أبناء سنه، يريد أن يقرأ المجلات التي فيها أفلام كرتون، صح ولا لأ؟ هٰٰذه المجلات إلى الآن تنزل ما أدري إيش أسماءها؟ أنا أراها؛ لكن والله أنسى أسماءها، فهكذا إذا تقدم يريد مع أبناء جنسه فإذا تقدم قليلاً يريد مع أبناء جنسه، فالمعلم والمربي يقوله هٰٰذا ما يصلح، لا، أنت وراءك مهمة، الأمة تنتظر منك النفع أنت أولاً في نفسك مخاطب بغير هٰٰذا يا ولدي يا ابني، ويلذذ له ويرغبه في العلم، ويلذذ العلم ويحببه إليه، فهٰٰذه القضية مهمة جداً، فالعالم السني والشيخ السني والمعلم السني هٰٰذا الذي تستفيد منه فعليك به، وإذا كان سنياً على طريق السلف الصالح فأنت ضامن بأمر الله تعالىٰٰ حصول الفائدة، وإن قلَّت الفائدة منه فأنت آمنٌ حصول المضرة.
الآن انتشر في الساحة من تصدر للتدريس وهو ليس من أهل السنة، فهٰٰذا داؤه ومصيبته عظيمة، فلا حصَّل عليه الطلاب كما حصّل الأولون على أشياخهم؛ لأنه هو في نفسه غير متأهل، هو إنما نُصب لأجل أن يكون مربياً حركياً، ماهو مربي رباني، مربي حركي، يربي الطلاب عنده على الفكر الحركي، حلقات بعد ذلك طلعات، ورحلات ومخيمات وذهاب في غياب عن الناس ومسابقات، ويحفزهم بالحوافز إليها في صغرهم، وهم لا يعرفون هٰٰذا فتتعلق قلوبهم به، فإذا تقدموا في السن فإذا هم يرونه شيئاً كبيراً وشيخاً عظيماً، فلا يرونه إلا هو، فيحقن بعد ذلك السم فيهم -نسأل الله العافية والسلامة-، وهٰٰذا موجود.
بخلاف المدرس السني السلفي، ما يعلّم أبناءه وتلاميذه إلا العلم النافع المفيد، فلنحرص على أن يكون تعليمنا وتعليم أبناءنا على هٰٰذه الطريقة، وإذا لم يكن كذلك فإن البلاء عظيم؛ ولكن إذا نزل ما تستطيع أن تداركه إلا إذا رحمك الله -جل وعلا- برحمته، فالتفريط في هٰٰذا الجانب تفريط مُرٌ إذا ما رأيت ثمره.
وأختم بذلك كلامنا وحديثنا في هٰٰذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
الفقير إلى الله
أبوعبدالرحمن محمد المغربي
شبكة الإمام البربهاري
أبوعبدالرحمن محمد المغربي
شبكة الإمام البربهاري
فوائد من شريط طلب العلم في زماننا وزمان من قبلنا