التفكير أدواته ضوابطه عوائقه
-الشيح محمد عمر سالم بازمول حفظه الله-
سلوك الإنسان نتيجة عدة أمور، وهي التالية:
- العاطفة.
- الفكرة.
- الدافع.
- القدرة.
وعلى أساسها يكون سلوك الإنسان سلوكاً مرضياً أو غير مرضي.
فالخوف والقلق والتشاؤم والسوداوية لها أثرها في السلوك .
والرضا والقناعة والفأل والانبساطية لها أثرها في السلوك.
والتفكر عملية أو نشاط ذهني يسعى به الإنسان مستعملاً التذكر والتحليل والمراقبة الذهنية عن طريق ترتيب المعلومات وسبرها، للتوصل إلى قرار أو موقف أو نتيجة .
أدوات التفكير
للتفكير أدوات تقودك بإذن الله إلى الصواب. وهي التالية:
1 ) التقسيم والسبر!
والمقصود: حصر الاحتمالات الممكنة ومعرفتها؛ عن طريق إعطاء نفسك فرصة لمعرفة الاحتمالات ودراسة كل احتمال، فتختار ما يصلح ويناسب وضعك، وتتجنب غيره.
وهذه الأداة مهمة جداً، لابد أن تبدأ عند دراسة المشكلة بها، بحيث تعرف الدائرة التي تمثل مسارات الحل لديك.
والعاقل لا يتعب نفسه بالتفكير في احتمالات غير ممكنة!
وتتم معرفة الاحتمالات عن طريق المعلومات الموجودة لديك، أو بالرجوع إلى أهل الخبرة.
وبعد حصر الاحتمالات تقوم بسبرها واختبارها واحداً واحداً لتصل إلى كون هذا الاحتمال جديراً بالتركيز عليه، أو تستبعده لعدم صلاحية الاستمرار فيه.
وهذه الأداة يستعملها الفقهاء إذا أرادوا معرفة الوصف المناسب للحكم، الذي يؤثر في وجوده وعدمه!
فمثلاً : الخمر حرام.
والتفكير الآن : ما هو سبب تحريم الخمر؟
الاحتمالات الممكنة :
يحتمل أن سبب التحريم لونها الأرجواني.
يحتمل أن سبب تحريمها سيولتها.
يحتمل أن سبب تحريمها رائحتها.
يحتمل أن سبب تحريمها تغطيتها للعقل.
هذه الاحتمالات هي التي بين يدينا الآن، حصرناها.
نقوم بسبر هذه الاحتمالات ومناقشتها:
الاحتمال الأول، لا يصح أن يكون وصفاً يعلق عليه حكم تحريم الخمر، لأن هناك أشياء أخرى لها نفس اللون وليست بمحرمة.
الاحتمال الثاني، لا يصح، لأن هناك أشياء سائلة كثيرة، وليست بمحرمة.
الاحتمال الثالث، لا يصح؛ لأن هناك أشياء لها رائحة كالخمر أو أشد وليست بمحرمة.
الاحتمال الرابع، هو الاحتمال الصحيح؛ وهو أن سبب تحريم الخمر هو وصفها بتغطية العقل، فهي تذهب العقل، إذا هذا هو الوصف المناسب لأن يدور معه حكم الخمر وجوداً وعدماً، فكلما وجد هذا الوصف وجد هذا الحكم: الخمر حرام.
2 ) القياس والاعتبار.
تدبر حال غيرك! اعتبار الحال وقياسه على حالك مما يساعدك على معرفة ما يناسب، ويصلح. وكذا المقارنة والتحليل، ومعرفة الفروق تعين على الاختيار، وحسن التفكير.
قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20) .
يرشد الله سبحانه إلى السير في الأرض للنظر والقياس، فإن من بدأ الخلق وأحياه وأوجده بعد أن لم يكن، قادر على نشره وإعادته مرة أخرى. قال تعالى: (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (مريم:9)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم:27).
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَلَيْكُمْ" أخرجه مسلم([1]).
عَنْ أَبِي ذَرٍّ : أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ!
قَالَ : أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟
قَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا"أخرجه مسلم([2]).
وانظر كيف أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم كفار قريش بالقياس على أنه يلزمهم تصديقه لو تجردوا، وأحسنوا التفكير والنظر:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : "صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: يَا صَبَاحَاهْ! فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ
قَالُوا : مَا لَكَ ؟
قَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟
قَالُوا : بَلَى .
قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ .
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)"أخرجه البخاري ومسلم([3]).
3 ) النظر في المآلات وما تنتهي إليه الأمور.
هذا مما يساعد كثيراً في معرفة الشيء وحكمه. وقد جاءت هذه الطريقة للتفكر في القرآن الكريم، في آيات منها قول الله تبارك وتعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام:11).
وقوله سبحانه وتعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل:69).
وقوله تبارك وتعالى: (اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر:43).
وقال: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) (الروم:42).
والفقيه إذا أعياه التوصل إلى حكم نظر في المآلات، فيتضح له الحكم!
4 ) استشارة أهل الاختصاص.
الرجوع إلى أهل الاختصاص وسؤالهم، فيما يحتاج إلى ذلك، من أدوات التفكير، ولعل هذا يساعد في حصر الاحتمالات وسبرها.
قال ابن تيمية رحمه الله: "المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب؛ والمرجع في التمييز بين هذا و هذا إلى أهل علم الحديث؛
كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب.
ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة.
وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك؛
فلكل علم رجال يعرفون به"اهـ([4]).
ويدخل في هذا الباب الرجوع إلى الأكابر، فقد جاء في الحديث: عن ابن عباس t، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "البركة مع أكابركم" أخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (177.
5 ) التصور والتخيل الجيد.
امنح ذهنك فرصة التصور والتخيل للشيء، فكثيراً ما تجد الشيء على صورة مختلفة. ومن هنا كان وصف السلعة ومعرفتها ضروري ليتم البيع شرعاً وإلا كان من الغرر المفسد للمعاملة.
والحكم على الشيء فرع عن تصوره.
ونحن نحكم على الأشياء بحسب تصورنا وتخيلنا لها. فإذا أردت أن تفكر بصورة صحيحة، فلتكن تصوراتنا للأشياء جيدة، ومتكاملة وواضحة.
واخرج في تصوراتك عن النمطية، وانطلق بحثاً عن حل المشكلة التي تفكر فيها، ستصل بإذن الله تعالى إلى النتيجة الصحيحة.
ضوابط التفكير
قد نملك أدوات التفكير، ومع ذلك لا نصل إلى معرفة الحق أو إلى فعل الصواب، فما السبب في ذلك؟
إن أدوات التفكير كالمركبة التي نركب عليها لنصل إلى محل نريده، فإذا لم نسر بها في الطرق المعتادة أوشك أن لا نصل بل ونتعطل عن مقصدنا!
والتفكير له ضوابط، إذا لم نضبط أدوات التفكير بها، اختل نظرنا العقلي، وباء تفكيرنا بالفشل، وهذه الضوابط هي التالية:
1 ) اجعل هدفك وغايتك طلب رضا الله تعالى لا رضا الناس. واعلم أن مجاملة الناس ومداراتهم أمر مشروع، بشرط أن لا تضيع شرع الله فتداهن!
كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : "أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ. أَمَّا بَعْدُ : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ"([5]).
2 ) تعرف على إمكانياتك وحالك ووضعك وما يحتف بك، عند إرادتك الاختيار؛ فليس من التفكير السليم أن تحمل نفسك فوق طاقتها، و ليس من التفكير السليم أن تأخذ دون ما تستطيعه.
وجاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ حَتَّى كَثُرُوا فَأَقْبَلَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ"أخرجه البخاري ومسلم([6]).
3 ) لا تستبد ! إذا كنت رب أسرة أو مدير شركة أو مسؤولاً يتبعه آخرون؛
فلا تستبد في موضوع بدون مراعاة من معك، واختيار ما يناسب وضعهم وحالهم.
فقد جاء عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ قَالَ : أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ؟
فَقُلْتُ : رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ .
فَقَالَتْ : كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ؟
َقَالَ : مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ .
فَقَالَتْ : أَمَا إِنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ"([7]).
4 ) إذا لزم الأمر أن تختار ولم يمكنك التفكير بعمق، أو فكرت وعزمت فاستهدي الله عزوجل وصل صلاة الاستخارة!
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ؛ يَقُولُ: "إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ؛ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيرِ الفَرِيضَةِ؛ ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدِرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ-؛ فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدِرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ. قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ. أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ([8]).
5 ) للعقل حدوده. لا تخض في المحارات، والمحذورات. العقل تابع للشرع. لا يأت الشرع بمحالات. فإن للعقل طوراً لا يعدوه كما أن للبصر حداً لا يعدوه!
6 ) الحزبية والحسد والحرص والكبر والتعصب بدون دليل، للرأي وللآباء والعادات والتقاليد، عيوب وعوائق التفكير!
كلما كان تفكير الإنسان منطلقاً، واسع الأفق فإن ذلك أحرى وأجدى أن يصيب الحق، وأن يكون صواباً.
7 ) ابتعد في تفكيرك عن إساءة الظن بالآخرين، وحاول أن تجد مسوغاً لتصرفاتهم، فإن من الأمور التي تعينك على الرؤية الجيدة أن تكون حسن الظن بغيرك.
وفي التفكير أنت تتعامل مع الناس، فالأساس الذي تبني عليه المعاملة هو حسن الظن بهم.
يروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: "لا تظنن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا"([9]).
ويروى عن محمد بن سيرين قال: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا فإن لم تجد له عذرا فقل له عذر"([10]).
ويذكر عن جعفر بن محمد قال: "إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذرا واحدا إلى سبعين عذرا فإن أصبته وإلا قل لعل له عذرا لا أعرفه"([11]).
نعم ورد ما يدل على الاحتراس من الناس بسوء الظن([12])؛ ومحل الاحتراس هو في أهل التهمة، أمّا من لم يكن منهم فإن المسلم يجتنب سوء الظن بهم، أو أن اجتناب سوء الظن المراد به تحقيقه، وهو غير الاحتراس الذي يقتضي مراعاة جانب الحيطة والحذر، فالمراد مثل قولهم: احذر من صاحبك و لا تخوّنه.
وقال بعض الصوفية: احترسوا من الناس بسوء الظن بأنفسكم، يعني: لا بهم!
عوائق التفكير
*متابعة الغير بدون نظر .
لا تكن إمعة، تتأثر برأي غيرك دون أن تنظر هل هذا الأمر حسن أو غير حسن!
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه:"لا يَكُونُ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً.
قَالُوا: وَمَا الإِمَّعَةُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟
قَالَ: يَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا مَعَ النَّاسِ إِنِ اهْتَدَوا اهْتَدَيْتُ، وَإنْ ضَلُّوا ضَلَلْتُ، أَلا لَيُوَطِّنُ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ عَلَى إِنْ كَفَرَ النَّاسُ أَنْ لا يَكْفُرَ"([13]).
* البعد عن الواقعية .
بعض الناس ينظر إلى الأمور بلونين فقط، فهي عنده إمّا لون أبيض، وإمّا لون أسود. وهذا خلاف الواقع ؛ ففي الألوان الرمادي، وفي الألوان الأحمر والأصفر، والبرتقالي، وغيرها من الألوان.
ولمّا ذكر الله حال الخلق في الطاعة والمعصية، ذكر السابقين وأصحاب اليمين وآخرين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، قال الله تبارك وتعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (سورة فاطر:32).
قال ابن تيمية رحمه الله: "قسم سبحانه وتعالى الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها ثلاثة أصناف:
ظالم لنفسه.
ومقتصد.
وسابق بالخيرات.
وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل: "الإسلام" و "الإيمان " و "الإحسان".
ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر والتائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق. فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب، لكن من تاب كان مقتصداً أو سابقاً، كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات كما قال تعالى: : ]إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم[ (النساء:31)؛ فلا بد أن يكون ظالم لنفسه، موعود بالجنة ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر أن ما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب مما يجزى به، ويكفر عنه خطاياه، كما في الصحيحين([14]) عنه -صلى الله عليه وسلم- : "ما يصيب المؤمن من وصب و لا نصب و لا هم و لا حزن و لا غم و لا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه". وفي المسند وغيره([15]) أنه لمّا نزلت هذه الآية: ]من يعمل سؤاً يجز به[ (النساء:123)، قال أبو بكر: يارسول الله جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سؤاً. فقال: يا أبا بكر ألست تنصب! ألست تحزن! ألست تصيبك اللأواء فذلك مما تجزون به"اهـ([16]).
* الحكم على الأمور بالعاطفة.
المقصود أن تكون متجرداً في نظرك واتخاذ قرارك حتى تصل إلى النتيجة الصائبة. انظر في الموضوع وحلله واجمع احتمالاته وأسبرها، واحداً واحداً، لتصل إلى الصواب إن شاء الله تعالى، ولا تمل بعاطفتك إلى اختيار أو ترجيح أحد الاحتمالات لأنه ما تهواه، أو لأن من تحبه يريده، أو نحو ذلك.
* الخوض فيما لا تحسنه .
لا تعط نفسك الصلاحية للخوض في أي موضوع، وأنت لا تحسنه، فإن قيمة كل امرئ ما يحسنه. ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه.
ضع نفسك في المحل الذي وضعها فيه الشرع، وتصرّف على هذا الأساس.
* التطرف في الحكم وفي التعبير عنه.
فإن التطرف من الغلو والتشدد المذموم ، وقد جاء عن أبي هريرة مرفوعاً: "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبيك يوما ما"([17]).
* عدم الدقة في إصدار الأحكام .
فلا تحكم بالعمومات، وعبِّر بالعبارة المناسبة لما تريده. وضبط العبارة هو أولطريق التفكير السليم.
* ضيق الصدر بالمخالف.
فإن الإنسان إذا اتسعت دائرة نظره تقبل وجهة النظر المخالفة. ما دام هناك ما يسوغ الخلاف، ويجعله معتبراً. وهذا يعطيك أن تنتبه أنه ليس في كل موضوع أو قضية تفكر فيها يجب أن يكون القول الصواب واحداً، بل قد يكون في بعض الأمور للخلاف ما يسوغه، و لا يمكن حصر الصواب فيها في قول واحد، خاصة إذا كان الخلاف فيها من باب التنوع.
تمت
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
([1]) في كتاب الزهد والرقائق، باب، حديث رقم (2963).
([2]) في كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل أنواع البر، حديث رقم (1006 ).
([3]) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله: ?إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ? (سـبأ:46) ، حديث رقم (4801)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: ?وانذر عشيرتك الأقربين? (الشعراء:214)، حديث رقم (20.
([4]) منهاج السنة النبوية (7/34).
([5]) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب منه، حديث رقم (2414).، وابن حبان (الإحسان 1/510، تحت رقم 276). وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، وحسنه محقق الإحسان.
([6]) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الجلوس على الحصير ونحوه، حديث رقم (5862)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره، حديث رقم (782)
([7]) أخرجه في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، حديث رقم (182.
([8]) أخرجه البخاري فِي مواضع منها فِي كتاب التهجد، باب ما جاء فِي التطوع مثنى مثنى، حديث رقم (1166). وانظر: جامع الأصول (6/250-251).
([9]) أخرجه المحاملي في أماليه ص395، وعزاه في الدر المنثور (7/565) لأحمد في الزهد.
([10]) الجامع لشعب الإيمان (14/441، تحت رقم 798.
([11]) الجامع لشعب الإيمان (14/442).
([12]) رواه ابن سعد في طبقاته (دار صادر 7/177)، بسند صحيح عن الحسن البصري، وروي مرفوعاً بسند ضعيف. انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني رحمه الله حديث رقم (156).
([13]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/152). قال في مجمع الزوائد (1/221): "وفيه المسعودي وقد اختلط وبقية رجاله ثقات"اهـ.
([14]) أخرجه البخاري في كتاب المرض، باب ماجاء في كفارة المرض، حديث رقم (5642)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حديث رقم (2573). ولفظ الحديث عند البخاري:ٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ".
([15]) أخرجه أحمد في مسند (1/11)، من طرق مدارها جميعها على أبي بكر بن أبي زهير الثقفي، وهو مقبول عند المتابعة، وإلا لين، كما في التقريب، وهو لم يدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وأخرجه أبويعلى في مسنده (1/97-9، تحت رقم (98-101)، وأسانيده من طريق أبي بكر بن أبي زهير، وأحدها معضل، وابن حبان (الإحسان 7/170 حديث رقم 2910)، والحاكم في المستدرك (3/74-75)، والبيهقي السنن الكبرى (3/373). وللحديث شاهد في صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حديث رقم (2574) من حديث أبي هريرة t، ولفظه: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ بَلَغَتْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا أَوْ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا". والحديث صححه شعيب الأنؤوط في تحقيقه للإحسان، ومحققو مسند أحمد (1/230).
([16]) مجموع الفتاوى (7/485-486). وانظر منه (12/473-475).
([17]) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب الاقتصاد في الحب والبغض، حديث رقم (1997).