الفتوى رقم: 365
الصنف: فتاوى متنوعة
الصنف: فتاوى متنوعة
شروط السفر لطلب العلم/ الشيخ محمد علي فركوس
السؤال: شيخنا -حفظكم الله ورعاكم- سؤالي يتعلق بمسألة تعارض وجوب برّ الوالدين مع السفر لطلب العلم الكفائي، فقد كان المعهود عندي تقديم برّ الوالدين وجوبا لضرورة تقديم فرض العين على فرض الكفاية، إلى أن وقفت على كلام الإمام القرافي رحمه الله يقرر خلاف ذلك، فأردت -يا شيخنا الكريم- أن أنقل إليكم ما ذكره في هذه المسألة لتوضحوا مشكله، وتبينوا مجمله، وتتعقبوا ما ترون أنّه متعقب فيه. قال الإمام القرافي في المسألة السادسة من الفرق الثالث والعشرين: "قال أبو الوليد الطرطوشي: وأمّا مخالفتهما [أي الوالدين] في طلب العلم فإن كان في بلده يجد مدارسة المسائل والتفقه على طريق التقليد وحفظ نصوص العلماء، فأراد أن يظعن إلى بلد آخر فيتفقه فيه على مثل طريقته لم يجز إلاّ بإذنهما لأنّ خروجه إذاية لهما بغير فائدة، وإن أراد الخروج للتفقه في الكتاب والسنة ومعرفة الإجماع ومواضع الخلاف ومراتب القياس، فإن وجد في بلده ذلك لم يخرج إلاّ بإذنهما، وإلاّ خرج ولا طاعة لهما في منعه، لأنّ تحصيل درجة المجتهدين فرض على الكفاية، قال سحنون: من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم، فرض عليه أن يطلبها لقوله تعالى: ﴿ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ [آل عمران: 104] ومن لا يعرف المعروف..كيف يأمر به؟ أو لا يعرف المنكر، كيف ينهي عنه ؟
قلت:-أي القرافي-: قد تقدم أنّ مخالفتهما في الجهاد الذي هو فرض كفاية لا يجوز -كما تقدم- في الذي ردّه عليه السلام لأبويه عن الهجرة والجهاد معه، لأنّ الحاضر يقوم مقامه، وهذه الفتوى تقتضي أنّه تجوز مخالفتهما في فروض الكفاية، فبينهما تعارض.
والجواب عنه أن تقول: العلم وضبط الشريعة وإن كان في فرض الكفاية، غير أنّه يتعين له طائفة من الناس، وهي من جاد حفظهم، ورقّ فهمهم، وحسنت سيرتهم، وطابت سريرتهم، فهؤلاء هم الذين يتعين عليهم الاشتغال بالعلم، فإنّ عديم الحفظ، أو قليله، أو سيئ الفهم لا يصلح لضبط الشريعة المحمدية، وكذلك من ساءت سريرته لم يحصل به الوثوق للعامة، فلا تحصل به مصلحة التقليد فتضيع أحوال الناس، وإذا كانت هذه الطائفة متعينة بهذه الصفات، تعيّنت بصفاتها، وصار طلب العلم عليها فرض عين، فلعلّ هذا هو معنى كلام سحنون وأبي الوليد، والجهاد يصلح له عموم الناس فأمره سهل، وليس الرمي بالحجر والضرب بالسيف كضبط العلوم، فكلّ بليد أو ذكي يصلح للأول، ولا يصلح للثاني إلاّ ما تقدم ذكره فافهم ذلك"(۱) اﻫ.
فأرجو منكم شيخنا -وفقكم الله- أن تبينوا موضع الإشكال الذي ظهر لي في مسألتين:
.الأولى: ضابط انتقال طلب العلم الكفائي من مرتبة الكفاية إلى التعيين.
.الثانية: تعارض واجب عيني محقق هو بر الوالدين، مع واجب يحتمل التعيين وليس محققا على سبيل الجزم، فكيف يقدم الثاني؟
جزاكم الله خيرا، ورزقكم ما يحبه ويرضاه، وجعل لكم في كلّ ضيق مخرج، ومن كلّ همٍّ فرج، ومن كلّ عسر يسرا، وبارك في عمركم وصحتكم ووقتكم، وأدام نفعكم، هو ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالتفريق أولا بين الفرض العيني والفرض على الكفاية أنّ الفرض على الكفاية هو ما ينظر فيه الشارع إلى نفس الفعل بغض النظر عن فاعله، ولا تتكرر مصلحة بتكرره كالجهاد والدفن وإنقاذ الغرقى والهدمى ونحو ذلك، وسمي بذلك لأنّ فعل البعض يكفي فيه، بخلاف الفرض العيني وهو ما تتكرر مصلحته بتكرره، وذات الفاعل فيه محلّ اعتبار الشارع كالصلاة والصوم والزكاة ونحو ذلك، فهي طاعات متعلقة لزوما بعين المكلَّف لا يكفي فعل البعض، بل لابد على كل عين أن يأتي بما وجب عليه.
والفرض على الكفاية يتعلق ابتداء بجميع المكلفين -عند الجمهور - فيجب على الكلّ ويسقط بفعل البعض، ذلك لأنّ العقاب يعمّ الجميع إذا تركوه إجماعا وإنّما يعمّ العقاب لعموم الوجوب ويَأثم المخاطبون إذا ظنّ كلّ واحد منهم أنّه لا يقوم به الآخر أمّا عند قيام الظنّ بالقيام فلا إثم، لأنّ التكليف في فرض الكفاية قائم بالظنون، لكن هذا البعض الذي تعلّق به الوجوب ينبغي أن يقوم به على وجه يسقط الوجوب على الجميع وهو معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التفصيل وإلاّ فلا، ومن هنا يظهر مراد الإمام القرافي -رحمه الله- من أنّ عديم الحفظ، أو قليله، أو سيء الفهم، لا يصلح لضبط الشريعة المحمدية وكذلك من ساءت سريرته.
وعليه يبقى الوجوب متعلقا بجميع المكلفين، ويكون ضابط إسقاط وجوب طلب العلم على عين كل واحد هو قيام البعض بالفعل على وجه يتحقق معه مقصود الشارع من تقرير فرضية طلب العلم لقوله تعالى: ﴿فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون﴾ [التوبة: 122] وبقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"(۲) ومقصود الشارع دفع مفسدة تضييع أحوال الناس بترك تعليمهم وإرشادهم ودعوتهم إلى طريق الحق، ولهذا كان الواجب على أعيانهم متنوعا بتنوع قُدَرِهم وحاجتهم ومعرفتهم.
هذا وقد بيّن القرافي -رحمه الله- أنّ الوجه الذي يسقط به الوجوب على الجميع هو ما امتاز بجودة الحفظ، ورقة الفهم، وحسن السيرة، وطيبة السريرة، فإنّ من تعيّنت هذه الصفات في حقه صارت متعينة على ذواتهم مسقطة للوجوب على الجميع، وتعيُّن هذه الصفات إمّا لوجودها خلقة، أو كسبا، أو يعيّن الذوات وليّ الأمر عن المسلمين.
- أمّا تعارض واجب البرّ مع واجب الطلب فيقدم الثاني للاعتبارات التالية:
1- إنّ واجب البرّ لم يعد واجبا عينيا يقينيا بعد دخول احتمال واجب الطلب على التعيين فإذا فقد قطعيته فليس أحدهما أولى من الآخر، ويرجّح بالدليل الخارجي المتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(۳) ولقوله صلى الله عليه وسلم-أيضا-" لا طاعة لبشر في معصية الله، إنّما الطاعة في المعروف"(٤).
2- على فرض عدم قيام البعض بواجب الطلب، فيكون طلب العلم واجبا على جميع المخاطبين وهو غير محتمل، وإذا اندفع الاحتمال عنهما رجّح الثاني للدليل الخارجي السابق.
3- ولأنّ الوالدين يدخلان في عموم وجوب الطلب ابتداء لتعلقه بهما كسائر المكلّفين، إذا لم يتعيّن البعض المسقِط للوجوب، فيكون من واجب البرّ القيام بواجب الطلب العيني، ولو كان محتملا لرفع واجب الطلب عليهما، وعلى الجميع إذا تعيّنت الصفات المذكورة في حقه.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر: 3 شوال 1417ﻫ
الموافق ﻟ : 10 فيفري 1997م
الموافق ﻟ : 10 فيفري 1997م
١- الفروق (1/145-146)
٢- أخرجه ابن ماجه في «المقدمة»، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم: (224)، وأبو يعلى في «مسنده»: (2837)، والبيهقي في «شعب الإيمان»: (1665)، من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع»: (3914)، وفي «المشكاة»: (214).
٣- أخرجه أحمد(2/67) رقم(1095)، من حديث علي رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع(7396)، وانظر السلسلة الصحيحة(179).
٤- أخرجه البخاري في «الأحكام»، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية: (6727)، ومسلم في «الإمارة»، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية:(4765)، وأبو داود في «الجهاد»، باب في الطاعة: (2625)، والنسائي في «البيعة»، باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع: (4205)، وأحمد في «مسنده»: (623)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.