مَا هِيَ المُتُونُ العِلْمِيَّةُ؟
(*) هذا ما تيسر نقله بتصرف وإزالة لبعض الحواشي ليتناسب نشرها كمقال، وذلك من كتاب "الدليل إلى المتون العلمية"، جزى الله مؤلفه خيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمَّا بعد:
هذا السؤال المهم، قد يترواد عند كثير من زوار موقعنا الأفاضل، فرأينا أن ننقل لكم إجابته:
المتن لغةً له عدة معاني تزيد على السبعة، أنسبها لسياقنا: "اللفظ"، واصطلاحاً هو ما جرى إطلاقه عند أهل العلم على مبادئ فن من الفنون، تكثف في رسائل صغيرة غالباً، وهي تخلو في العادة من كل مايؤدي إلى الاستطراد أو التفصيل، كالشواهد والأمثلة إلا في حدود الضرورة، وذلك لضيق المقام عن استيعاب هذا ونحوه، لذلك عُدَّت المتون الأقل ألفاظاً الأحسن في ذاتها والأكثر قبولاً عند الدارسين.
وهو الكتاب الأصلي الذي تكتب فيه أصول المسائل، ويقابله الشرح، شرح المتن، وقد سموه بالمتن في الاصطلاح أيضاً لأنه عبارة عن هذه المختصرات العلمية، لأنها تتضمن المسائل الأساسية للركوب والحمل.
أقسام المتون:
تنقسم المتون إلى قسمين:
1- متون منثورة، وهي الأكثر.
2- متون منظومة في أبيات الشعر يسمى الشعر التعليمي، وتكون غالباً من بحر الرجز، وقد تكون من غيره.
والرجز بحر معروف من بحور الشعر، وتسمى قصائده الأراجيز واحدتها أرجوزة ويسمى قائله راجزاً.
وإنما سمي الرجز رجزاً لأنه تتوالى فيه حركة وسكون ثم حركة وسكون، وهو يشبه في هذا بالرجز في رجل الناقة ورعدتها، وهو أن تتحرك وتسكن ، ثم تتحرك وتسكن. ويقال لها حينئذٍ رجزاء.
والرجز ديوان العرب في الجاهلية والإسلام، وكتاب لسانهم ، وخزانة أنسابهم وأحسابهم.
وهذا النوع من النظم: "الشعر التعليمي"، نظم علمي يخلو من العواطف، والأخيلة، ويقتصر على الأفكار، والمعلومات، والحقائق العلمية المجردة.
وهذه المنظومات العلمية تنقسم إلى قسمين:
1- منظومات في علم معين استقلالاً، كملحة الإعراب للحريري، وألفية ابن مالك في النحو .. إلخ.
2- منظومات لمتن معين مثل ألفية العراقي نظم مقدمة ابن الصلاح، ونظم العمريطي لمتن الورقات، ولمتن الآجرومية، ونظم زاد المستقنع، وجمع الجوامع .. إلخ.
والمتون موجودة من قديم الزمان، ولكنها لم تعرف بهذا الاسم، بل باسم المختصرات: مثل مختصر الخرقي عمر بن الحسين الخرقي المتوفي سنة (334هـ) -رحمه الله تعالى-.
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن البنا في كتابه المقنع في شرح مختصر الخرقي: " وكان بعض شيوخنا يقول: ثلاثة مختصرات، في ثلاثة علوم، لا أعرف لها نظائر: الفصيح لثعلب، واللمع لابن جني، وكتاب المختصر للخرقي، فما اشتغل بها أحد وفهمها كما ينبغي إلا أفلح".
ثعلب: هو أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد الشيباني مولاهم المتوفي سنة (291هـ) -رحمه الله تعالى-.
ابن جني: هو أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي المتوفي سنة (1392هـ) -رحمه الله تعالى-.
وكان الغرض منها -أي المتون- حكيماً، وهو جمع المسائل الأولية البسيطة في متون صغيرة، بعبارة سهلة، لتكون بداية لشُداة الفقه على نحو الآجرومية في علم النحو.
لكنها لم تستمر كذلك، بل بالغ بعض المتأخرين في إيجاز بعض المتون إلى درجة الإلغاز، ولكن هذا الصنف غير مراد في بحثنا هذا.
وقد اقتضت الحاجة التعليمية وجود منهج يسير عليه الطالب وهو:
1- المتن الذي هو الأساس الذي يبني عليه الطالب علمه في كل فن بحسبه.
2- شرح لهذا المتن.
3- حاشية على هذا الشرح.
4- تقرير على الحاشية.
وهذا ما نسعى لتوفيره في موقعنا؛ كما نسعى لتوفير معلومات حول هذه المتون، سواء كانت ببليوجرافية، أو نصيحة من عالم في أهمية هذا المتن، أو تركيز مختصر لما يحويه من مسائل، وهناك نماذجٌ كثيرةٌ لهذا في مكتبة موقعنا، فانظرها.
وقد افتتح هذا المنبر ليزودنا زوارنا الأكارم بمزيد معلومات حول المتون التي في المكتبة حالياً وغيرها.
المتون بين المدح والقدح:
قال ابن خلدون في مقدمته: "ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها، ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم، يشتمل على حصر مسائله وأدلتها، باختصار في الألفاظ، وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن، وصار ذلك مخلاً بالبلاغة، وعسراً على الفهم، وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون بالتفسير والبيان، فاختصروها تقريباً للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه، وابن مالك في العربية، والخونجي في المنطق، وأمثالهم، وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم . . . ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم، بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة الفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها، لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت . . . اهـ".
قال في الفكر السامي: " ثم كَلَّ أهل هذه المئة عن حال من قبلهم من حفظ كبار الأصول، فاقتصروا على حفظ ماقلّ لفظه، ونزر خطه، فأفنوا أعمارهم في حلّ رموزه، وفهم لغوزه، ولم يصلوا لرد مافيه لأصوله بالتصحيح، فضلاً عن معرفة الصحيح من الضعيف، بل حل مقفل، وفهم مجمل ... إلى أن قال : "ومنها أنهم لما أغرقوا في الاختصار، صار لفظ المتن مغلقاً لا يفهم إلا بواسطة الشراح، أو الشروح والحواشي، ففات المقصود الذي لأجله وقع الاختصار، وهو جمع الأسفار في سفر وتقريب المسافة، وتخفيف المشاق، وتكثير العلم، وتقليل الزمن، بل انعكس الأمر إذ كثرت المشاق في فتح الإغلاق، وضاع الزمن من غير ثمن .. إلخ ".
وانتقدت أيضاً بأن المهتمين بها في النهاية أعجز من غيرهم في التطبيق وتذوق النصوص ولا سيما النصوص الأدبية . . .
وأنها بأساليبها، ومحتوياتها، ومناهج تصانيفها، لا تتفق مع الحقائق التربوية الحديثة، والمناهج التعليمية العصرية، لصعوبة أسلوبها ووعورة مضمونها.
ولكن الناظر في هذا النظام من التصنيف، على الرغم من كل ماقيل فيه من قدح يجد فيه:
1- عمقاً علمياً يتجلى في كثرة المعلومات، وتنوعها، وترتيبها ترتيباً محكماً.
2- إضافة إلى مافيها من الفوائد، والإضافات التي لا توجد في المطولات.
3- تكوين صورة مجملة للفن الذي ألفت فيه، يستطيع الطالب الإحاطة بها في زمن قليل، وماهي إلا مدخل للعلوم، وليست هي الغاية وإليها النهاية، بل هي الأساس والبداية.
4- إن العلم الذي فيه المتون، أكثر منه فيما تلاها من المؤلفات الحديثة وأعظم فائدة.
5- هذه المتون يحتاج الدارس لها إلى الصبر، والجد والاجتهاد في فهمها، ويكوّن هذا الجد والاجتهاد ملكة لا توجد لغير دارسها.
6- إن الغموض الذي عيبت به المتون ليس مما يعاب، بل هو في الحقيقة مدح لها لا قدح فيها، لأنه لا يستوي من يحصل العلم بيسر وسهولة، ومن يحصله بكد، ومشقة، وعناء . . . وأين مستوى هذا من ذاك؟ وبهذا يشرف قدر العالم وتفضل منزلته، ولوكان العلم كله بيناً لاستوى في علمه جميع من سمعه، فيبطل التفاضل.
قال الخليل بن أحمد -رحمه الله تعالى-: "من الأبواب مالو شئنا أن نشرحه حتى يستوي فيه القوي والضعيف لفعلنا، ولكن يجب أن يكون للعالم مزية بعدنا".
وقال بعضهم عن المتون: "حفظتْ من العلم جوهره ولبابه، وقامت لا تزال بدورْها الكريم في مسرح التعليم، من ذلك العصر البعيد إلى عصرنا الجديد".
7- المتون تجمع حقائق العلم في ورقات يسهل حفظها، ويسهل استحضارها في الدروس، والمناسبات.
8- قال صاحب النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة: " العالم إنما يمتاز بفهم الغامض، وإدراك البعيد، وحلّ المستغلق، وذلك لا يكون إلا بتعويد المرء على شيء من الصعاب، ليمرن عقله على حل مايماثلها، وكما أن المرء الرياضي لا يكون قوياً على حمل الأثقال إلا بالتعود على حمل أحمال ثقيلة متدرجاً في ذلك، كذلك لا يكون عقله قادراً على حل الصعاب إلا إذا عوّد عقله على حلّ مسائل عويصة متدرجاً في ذلك".
9- الذين يحيطون بالمتون ويتقنونها ولا يشتكون منها أقرب إلى الابتكار وإلى الاجتهاد من غيرهم، ومن قال عن المتون:
إنها غامضة وعميقة قد يكون كلامه هذا من عدم القدرة على الفهم.
10- وجود بعض الناس ممن اعتنى بالمتون ولم يفلح، لا يحكم به على الأكثر.
11- الناظر في تراجم العلماء، وكيفية طلب العلم بالنسبة لهم، يدرك تماماً صحة هذه الطريقة.
12- هذا الأسلوب من التصنيف يربي فضيلة البحث، والتمحيص، وينمي حلية الصبر والاعتماد على النفس، ويعوّد على دقة الملاحظة.
أسأل الله أن تكون أخي طالب العلم أو محبه، بعد أن تعرفت على معنى المتون وفوائدها ومميزاتها، أن تكون هذه المعرفة طريق خير وبداية لك في طلب العلم الشرعي من أوثق طرقه وأكثرها منفعة، ألا وهي البداية بالمختصرات (المتون)، وأخذ شرحها عن عالم محقق، فالمتن شرحه لا يكون إلا عن عالم بذلك الفن محقق له.
وتستطيع الاتصال بنا في منتديات موقعنا لإضافة المتون أو تحميلها، أو تقديم معلومات أو استفسارات عما هو متوفر منها وبأيها تبدأ في الشبكة، كما أنك تستطيع متابعة جديد موقعنا لتقديم المعلومات عن المتون وتوفير أحدثها وسنكون بخدمتكم بإذن الله . . .
(*) هذا ما تيسر نقله بتصرف وإزالة لبعض الحواشي ليتناسب نشرها كمقال، وذلك من كتاب "الدليل إلى المتون العلمية"، جزى الله مؤلفه خيراً.
تعليق