الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علىٰ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
[[[[دفاع العلامة محب الدين الخطيب-رحمه الله تعالى عن الصحابي الوليد بن عقبة رضي الله عنه]]]]..
قال العلامة ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله:
[[وجزى الله خيراً محب الدين الخطيب لقد دافع على هذا الصحابي دفاعاً نسأل الله أن يثيبه عليه مارأيت أحدا دافع عن هذا الصحابي مثل محب الدين الخطيب رحمه الله ....
(درس معارج القبول4-6-1435.]]..
قال العلامة محب الدين الخطيب -رحمه الله -:
« كنت في ما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة ويسميه الله فاسقاً، ثم تبقى له في نفس خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر المكانة التي سجلها له التاريخ.. إن هذا التناقض ـ بين ثقة أبي بكر و عمر بالوليد بن عقبة وبين ما كان ينبغي أن يعامل به لو أن الله سماه فاسقاً ـ حملني على الشك في أن تكون الآية نزلت فيه..
وبعد أن ساورني هذا الشك أعدت النظر في الأخبار التي وردت عن سبب نزول الآية { إن جاءكم فاسق بنبأ . . . } فلما عكفت على دراستها وجدتها موقوفة على مجاهد، أو قتادة أو ابن أبي ليلى، أو يزيد بن رومان، ولم يذكر أحد منهما أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة أو أكثر مرت بين أيامهم وزمن الحادث، وهذه المائة من السنين حافلة بالرواة من مشارب مختلفة.
وإن الذين لهم هوى في تشويه سمعة مثل الوليد ومن هم أعظم مقاماً من الوليد قد ملأوا الدنيا أخباراً مريبة لها قيمة علمية.
وما دام رواة تلك الأخبار في سبب نزول الآية مجهولين من علماء الجرح والتعديل بعد الرجال الموقوفة هذه الأخبار عليهم وعلماء الجرح والتعديل لا يعرفون من أمرهم حتى ولا أسمائهم [ شيئاً ]، فمن غير الجائز شرعاً وتاريخاً الحكم بصحة هذه الأخبار المنقطعة التي لا نسب لها وترتيب الأحكام عليها.
وهنالك خبران موصولان أحدهما عن أم سلمة زعم موسى بن عبيدة أنه سمعه من ثابت مولى أم سلمة وموسى بن عبيدة ضعفه النسائي وابن المديني وابن عدي وجماعة.
وثابت المزعوم أنه مولى أم سلمة ليس له ذكر في كل ما رجعت إليه من كتب العلم فلم يذكر في تهذيب التهذيب ولا في تقريب التهذيب ولا في خلاصة تذهيب الكمال، بل لم أجده في (ميزان الاعتدال ) و( لسان الميزان ).
وذهبت إلى مجموعة أحاديث أم سلمة في مسند الإمام أحمد فقرأتها واحداً واحداً فلم أجد فيها هذا الخبر بل لم أجد لأم سلمة أي خبر ذكر فيه اسم مولى لها يدعى ثابت ، زد على كل هذا أن أم سلمة لم تقل في هذا الخبر ـ إن صح عنها ـ ولا سبيل إلى أن يصح عنها ـ إن الآية نزلت في الوليد بل قالت ـ أي قيل على لسانها ـ " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رجلا ) في صدقات بين المصطلق " .
والخبر الثاني الموصول رواه الطبري في التفسير عن ابن سعد عن أبيه عن عمه عن أبيه عن أبيه عن ابن عباس.
والطبري لم يلق ابن سعد ولم يأخذ عنه لأن ابن سعد لما توفي في بغداد سنة 23هـ كان الطبري طفلا في نحو السادسة من عمره ولم يخرج إلى ذلك الحين من بلده آمل في طبرستان لا إلى بغداد ولا لغيرها.
ثم تبين لي أن ابن سعد الذي روى عنه الطبري هو محمد بن سعد العوفي وقد وصف الشيخ أحمد شاكر سنده بأنه ( سند مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة ) انظر تفسير الطبري طبعة دار المعارف 1 :263).
فكل هذه الأخبار من أولها إلى آخرها لا يجوز أن يؤاخذ بها مجاهد كان موقع ثقة أبي بكر وعمر وقام بخدمات للإسلام يرجى له بها أعظم المثوبة إن شاء الله أضف إلى كل ما تقدم أنه في الوقت الذي حدث فيه لبني المصطلق الحادثة التي نزلت فيها الآية كان الوليد صغير السن كما سيأتي في الفقرة التالية .
وروى أحمد في مسنده ( 4 : 32 ) حول عمر الوليد بن عقبة يوم فتح مكة عن شيخ له هو فياض بن محمد الرقي عن جعفر بن برقان الرقي عن ثابت بن الحجاج الكلابي الرقي عن عبد الله الهمداني هو ( عبد الله بن مالك بن الحارث ) عن الوليد بن عقبة، والظاهر أن الوليد بن عقبة تحدث بهذا الحديث عندما اعتزل الناس في السنين الأخيرة من حياته واختار الإقامة في قرية له من أعمال الرقة ، فتسلسلت رواية الخبر في الرواة الرقيين، وأخذه الإمام أحمد عن شيخ له منهم وعبد الله الهمداني ثقة لكن التبس اسمه في غر هذه الرواية بهمداني آخر يكنى أبا موسى واسمه مالك بن الحارث ( أي على اسم والد عبد الله الهمداني ) وهو مجهول عند أهل الجرح والتعديل.
أما عبد الله الهمداني الذي ينتهي إليه الخبر في رواية الإمام أحمد فمعروف وموثوق به وعلى روايته وأمثالها اعتمد القاضي ابن العربي في الحكم على سن الوليد بن عقبة بأنه كان صبياً عند فتح مكة وأن الذي نزلت فيه آية ( إن جاءكم فاسق بنبأ ) هو شخص آخر.
ومن عجيب أمر الذين كان لهم هوى في تشويه سمعة هذا الصحابي الشاب المجاهد الطيب النفس الحسن السيرة في الناس أنهم حاولوا إدحاض حجة صغر سنه في ذلك الوقت بخبر آخر روي عن قدومه مع أخيه عمارة إلى المدينة في السنة السابعة للهجرة ليطلبا من النبي صلى الله عليه وسلم رد أختهما أم كلثوم إلى مكة.
وأصل هذا الخبر ـ إن صح ـ مقدم فيه اسم عمارة على اسم الوليد وهذا مما يستأنس به في أن عمارة هو الأصل في هذه الرحلة وأن الوليد جاء في صحبته.
وأي مانع يمنع قدوم الوليد صبياً بصحبة أخيه الكبير كما يقع مثل ذلك في كل زمان ومكان؟
فقول الوليد إنه كان في سنة الفتح صبياً ليس في خبر قدومه مع أخيه الكبير إلى المدينة في السنة السابعة ما يمنعه أو يناقضه.
فإذا تقرر عندك أن جميع الأخبار الواردة بشأن الوليد بن عقبة في سبب نزول آية {إن جاءكم فاسق بنبأ } لا يجوز علمياً أن يبنى عليها حكم شرعي أو تاريخي، وإذا أضفت إلى ذلك حديث مسند الإمام أحمد عن سن الوليد في سنة الفتح يتبين لك بعد ذلك :حكمة استعمال أبي بكر وعمر للوليد وثقتهما به، واعتمادهما عليه ،مع أنه كان لا يزال في صدر شبابه.
الوليد المجاهد الفاتح العادل
أما الوليد بن عقبة المجاهد الفاتح العادل المظلوم ( الذي كان منه لأمته كل ما استطاع من عمل طيب، ثم رأى بعينه كيف يبغي المبطلون على الصالحين وينفذ باطلهم فيهم، فاعتزل الناس بعد مقتل عثمان في ضيعة له منقطعة عن صخب المجتمع، وهي تبعد خمسة عشر ميلاً عن بلدة الرقة من أرض الجزيرة التي كان يجاهد فيها، ويدعو نصاراها إلى الإسلام في خلافة عمر.).
فقد آن لدسائس الكذابين فيه أن ينكشف عنها عوارها ؛ولا يضير هذا الرجل أن يتأخر انكشاف الحق فيه ثلاثة عشر قرناً ؛فإن الحق قديم ولا يؤثر في قدمه احتجابه.
أراد الوليد بن عقبة ـ منذ ولي الكوفة لأمير المؤمنين عثمان ـ أن يكون الحاكم المثالي في العدل والنبل والسيرة الطيبة مع الناس، كما كان المحارب المثالي في جهاده وقيامة للإسلام بما يليق بالذائدين عن دعوته، الحاملين لرايته؛ الناشرين لرسالته وقد لبث في إمارته على الكوفة خمس سنوات وداره ـ إلى اليوم الذي زايل فيه الكوفة ـ ليس لها باب يحول بينه وبين الناس ممن يعرف أولا يعرف، فكان يغشاها كل من شاء متى شاء من ليل أو نهار ،ولم يكن بالوليد حاجة لأن يستتر عن الناس...
فالستر دون الفاحشات *ولا يلقاك دون الخير من ستر..
وكان ينبغي أن يكون الناس كلهم محبين لأميرهم الطيب، لأنه أقام لغربائهم دور الضيافة؛ وأدخل على الناس خيراً حتى جعل يقسم المال للولائد والعبيد ، ورد على كل مملوك من فضول الأموال في كل شهر ما يتسعون به من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم، وبالفعل ؛كانت جماهير الشعب متعلقة بحب هذا الأمير المثالي طول مدة حكمه.
إلا أن فريقاً من الأشرار وأهل الفساد أصاب بنيهم سوط الشريعة بالعقاب على يد الوليد فوقفوا حياتهم على ترصد الأذى له.
ومن هؤلاء رجال يسمى أحدهم أبا زينب بن عوف الأزدي؛ وآخر يسمى أبا مورع ؛وثالث اسمه جندب أبو زهير.
قبضت السلطات على أبنائهم في ليلة نقبوا فيها على ابن الحيسمان داره وقتلوه ؛وكان نازلاً بجواره رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن أهل السابقة في الإسلام، وهو أبو شريح الخزاعي حامل راية رسول الل-ه صلى الله عليه وسلم- على جيش خزاعة يوم فتح مكة.
فجاء هو وابنه من المدينة ليسيرا مع أحد جيوش الوليد بن عقبة التي كان يواصل توجيهها نحو المشرق للفتوح ونشر دعوة الإسلام، فشهد هذا الصحابي وابنه في تلك الليلة سطو هؤلاء الأشرار على منزل ابن الحيسمان، وأدى شهادته هو وابنه على هؤلاء القتلة السفاحين.
فأنفذ الوليد فيهم حكم الشريعة على باب القصر في الرحبة ، فكتب آباؤهم العهد على أنفسهم للشيطان بأن يكيدوا لهذا الأمير الطيب الرحيم ؛وبثوا عليه العيون والجواسيس ليترقبوا حركاته.
وكان بيته مفتوحاً دائماً؛ وبينما كان عنده ذات يوم ضيف له من شعراء الشمال كان نصرانياً في أخواله من بني تغلب بأرض الجزيرة وأسلم على يد الوليد؛ فظن جواسيس الموتورين أن هذا الشاعر الذي كان نصرانياً لا بد أن يكون يشرب الخمر..
ولعل الوليد أن يكرمه بذلك ،فنادوا أبا زينب وأبا المورع وأصحابهما، فاقتحموا الدار على الوليد من ناحية المسجد ولم يكن لداره باب. فلما فوجئ بهم نحى شيئاً أدخله تحت السرير ، فأدخل بعضهم يده فأخرجه بلا إذن من صاحب الدار، فلما أخرج ذلك الشئ من تحت السرير إذا هو طبق عليه تفاريق عنب فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون من الخجل ، وسمع الناس بالحكاية فأقبلوا يسبونهم ويلعنونهم.
وقد ستر الوليد عليهم ذلك وطواه عن عثمان؛ وسكت عن ذلك وصبر، ثم تكررت مكايد جندب وأبي زينب وأبي المورع، وكانوا يغتنمون كل حادث فيسيئون تأويله ويفترون الكذب ،وذهب بعض الذين كانوا عمالا في الحكومة ونحاهم الوليد عن أعمالهم لسوء سيرتهم فقصدوا المدينة وجعلوا يشكون الوليد لأمير المؤمنين عثمان، ويطلبون منه عزله عن الكوفة ،وفيما كان هؤلاء في المدينة دخل أبو زينب وأبو المورع دار الإمارة بالكوفة مع من يدخلها من غمار الناس وبقيا فيها إلى أن تنحى الوليد ليستريح فخرج بقية القوم ، وثبت أبو زينب وأبو المورع إلى أن تمكنا من سرقة خاتم الوليد من داره وخرجا.
فلما استيقظ الوليد لم يجد خاتمه فسأل عنه زوجتيه ـ وكانتا في مخدع تريان منه زوار الوليد من وراء ستر ـ فقالتا إن آخر من بقي في الدار رجلان، وذكرن صفتيهما وحليتهما للوليد، فعرف أنهما أبو زينب وأبو المورع، وأدرك أنهما لم يسرقا الخاتم إلا لمكيدة بيتاها، فأرسل في طلبهما فلم يوجدا في الكوفة، وكان قد سافرا تواً إلى المدينة.
وتقدما شاهدين على الوليد بشرب الخمر (وأكبر ظني أنهما استلهما شهادتهما المزورة من تفاصيل الحادث الذي سبق وقوعه لقدامة بن مضعون في خلافة عمر (فقال كنا من غاشيته فدخلنا عليه وهو يقئ الخمر؛ فقال عثمان: ما يقئ الخمر إلا شاربها، فجئ بالوليد من الكوفة فحلف لعثمان وأخبره خبرهم، فقال عثمان : " نقيم الحدود ويبوء شاهد الزور بالنار ".
هذه قصة اتهام الوليد بالخمر كما في حوادث سنة 30 هـ من تاريخ الطبري وليس فيها ـ على تعدد مصادرها ـ شئ غير ذلك وعناصر الخبر عند الطبري أن الشهود على الوليد اثنان من الموتورين الذين تعادت شواهد غلهم عليه ، ولم يرد في الشهادة ذكر الصلاة من أصلها، فضلا عن أن تكون اثنتين أو أربعاً، وزيادة ذكر الصلاة هي الأخرى أمرها عجيب.
فقد نقل خبرها عن الحضين بن المنذر ( أحد أتباع علي ) أنه كان مع علي عند عثمان ساعة أقيم الحد على الوليد، وتناقل الناس عنه هذا الخبر فسجله مسلم في صحيحه ( كتاب الحدود ) بلفظ " شهدت عثمان ابن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ( ركعتين ) ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان بأنه تقياً أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد آخر أنه رآه يتقيأ ) فالشاهدان لم يشهدا بأن الوليد صلى الصبح ركعتين وقال أزيدكم؛ بل شهد أحدهما بأنه شرب الخمر وشهد الآخر بأنه تقيأ.
أما صلاة الصبح ركعتين وكلمة أزيدكم فهي من كلام حضين، ولم يكن حضين من الشهود، ولا كان في الكوفة في وقت الحادث المزعوم، ثم إنه لم يسند هذا العنصر من عناصر الاتهام إلى إنسان معروف.
ومن العجيب أن نفس الخبر الذي في صحيح مسلم وارد في ثلاثة مواضع من مسند أحمد مروياً عن حضين، والذي سمعه من حضين في صحيح مسلم هو الذي سمعه منه في مسند احمد بمواضعه الثلاثة.
فالموضعان الأول والثاني ( ج1 ص82 و140 ) ليس فيهما ذكر الصلاة عن لسان حضين فضلاً عن غيره، فلعل أحد الرواة من بعده أدرك أن الكلام عن الصلاة ليس من كلام الشهود فاقتصر على ذكر الحد.
وأما في الموضع الثالث من مسند أحمد ( ج1ص 144 ) فقد جاء على لسان حضين أن الوليد صلى بالناس الصبح أربعاً، وهو يعارض ما جاء على لسان حضين نفسه في صحيح مسلم ، ففي إحدى الروايتين تحريف [ و ] الله أعلم بسببه.
وفي الحالتين لا يخرج ذكر الصلاة عنه أنه كلام حضين وحضين ليس بشاهد ، ولم يرو عن شاهد ، فلا عبرة بهذا الجزء من كلامه.
وبعد أن علمت بأمر الموتورين فيما نقله الطبري عن شيوخه، أزيدك علماً بأمر حمران [ المذكور في الرواية ] وهو عبد من عبيد عثمان كان قد عصى الله قبل شهادته على الوليد فتزوج في مدينة الرسول- صلى الله عليه وسلم- امرأة مطلقة ودخل بها وهي في عدتها من زوجها الأول، فغضب عليه عثمان لهذا ولأمور أخرى قبله فطرده من رحابه وأخرجه من المدينة، فجاء الكوفة يعيث فيها فساداً، ودخل على العبد الصالح عامر بن عبد القيس فافترى عليه الكذب عند رجال الدولة وكان سبب تسييره إلى الشام.
وأنا أترك أمر هذا الشاهد والشاهدين الآخرين قبله إلى ضمير القارئ يحكم عليهم بما يشاء ، وفي اجتهادي أن مثل هؤلاء الشهود لا يقام بهم حد الله على ظنين من السوقة والرعاع ، فكيف بصحابي مجاهد وضع الخليفة في يده أمانة قطر وقيادة جيوش فكان عند الظن به من حسن السيرة في الناس وصدق الرعاية لأمانات الله ، وكان موضع الثقة عند ثلاثة من أكمل خلفاء الإسلام أبي بكر وعمر وعثمان.
وإن قرابة الوليد من عثمان التي يزعم الكذبة أنها سبب المحاباة منه لهم إنما كانت سبب التسامح من عثمان في عزلهم؛ يتسلون بأعراض الناس يتفكهون بأبيات ستة منسوبة إلى ماجن خسيس النفس وردت في ص85 من ديوانه ولا تحملهم سليقة النقد على الشعور بما في هذه الأبيات من التضارب والتعارض فأين مدحه فيها للوليد بقوله :
ورأوا شمائل ماجد أنف يعطي على الميسور والعسر
فنزعت مكذوباً عليك ولم تردد إلى عوز ولا فقر
من بقية الأبيات التي فيها :
نادى وقد تمت صلاتهم أأزيدكم ثملا وما يدري
فالذي يقول البيت الأخير لا يعقل أن يقول معه البيتين الأولين فيكون مادحاً وذاماً في قطعة واحدة لا تزيد على ستة أبيات : وقد كانت لي مقالة مطولة عن ( التخليط في الشعر ) ضربت فيها الأمثلة على دس الأبيات الغريبة في قصائد من وزنها ورويها لغير ناظمها .
وعلى كل حال ،فالشهود الذين شهدوا بين يدي عثمان لم يدّعوا حكاية الصلاة مع أنهم لم يكونوا ممن يخاف الله واليوم الاخر.
والآن أقولها لوجه الله صريحة ومدوية إن الوليد لو كان من رجال التاريخ الأوربي كالقديس لويس الذي أسرناه في دار ابن لقمان بالمنصورة؛ لعدوه قديساً لأن لويس التاسع لم يحسن إلى فرنسا كإحسان الوليد بن عقبة إلى أمته؛ ولم يفتح للنصرانية كفتح الوليد للإسلام.
والعجب لأمة تسئ إلى أبطالها وتشوه جمال تاريخها؛ وتهدم أمجادها كما يفعل الأشرار منا ، ثم ينتشر كيد هؤلاء الأشرار حتى يظن الأخيار أنه هو الحق» ا. هـ
[تعليقات الشيخ -رحمه الله على كتاب العواصم من القواصم هامش ص 102-109]..
منقول من سحاب
[[[[دفاع العلامة محب الدين الخطيب-رحمه الله تعالى عن الصحابي الوليد بن عقبة رضي الله عنه]]]]..
قال العلامة ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله:
[[وجزى الله خيراً محب الدين الخطيب لقد دافع على هذا الصحابي دفاعاً نسأل الله أن يثيبه عليه مارأيت أحدا دافع عن هذا الصحابي مثل محب الدين الخطيب رحمه الله ....
(درس معارج القبول4-6-1435.]]..
قال العلامة محب الدين الخطيب -رحمه الله -:
« كنت في ما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة ويسميه الله فاسقاً، ثم تبقى له في نفس خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر المكانة التي سجلها له التاريخ.. إن هذا التناقض ـ بين ثقة أبي بكر و عمر بالوليد بن عقبة وبين ما كان ينبغي أن يعامل به لو أن الله سماه فاسقاً ـ حملني على الشك في أن تكون الآية نزلت فيه..
وبعد أن ساورني هذا الشك أعدت النظر في الأخبار التي وردت عن سبب نزول الآية { إن جاءكم فاسق بنبأ . . . } فلما عكفت على دراستها وجدتها موقوفة على مجاهد، أو قتادة أو ابن أبي ليلى، أو يزيد بن رومان، ولم يذكر أحد منهما أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة أو أكثر مرت بين أيامهم وزمن الحادث، وهذه المائة من السنين حافلة بالرواة من مشارب مختلفة.
وإن الذين لهم هوى في تشويه سمعة مثل الوليد ومن هم أعظم مقاماً من الوليد قد ملأوا الدنيا أخباراً مريبة لها قيمة علمية.
وما دام رواة تلك الأخبار في سبب نزول الآية مجهولين من علماء الجرح والتعديل بعد الرجال الموقوفة هذه الأخبار عليهم وعلماء الجرح والتعديل لا يعرفون من أمرهم حتى ولا أسمائهم [ شيئاً ]، فمن غير الجائز شرعاً وتاريخاً الحكم بصحة هذه الأخبار المنقطعة التي لا نسب لها وترتيب الأحكام عليها.
وهنالك خبران موصولان أحدهما عن أم سلمة زعم موسى بن عبيدة أنه سمعه من ثابت مولى أم سلمة وموسى بن عبيدة ضعفه النسائي وابن المديني وابن عدي وجماعة.
وثابت المزعوم أنه مولى أم سلمة ليس له ذكر في كل ما رجعت إليه من كتب العلم فلم يذكر في تهذيب التهذيب ولا في تقريب التهذيب ولا في خلاصة تذهيب الكمال، بل لم أجده في (ميزان الاعتدال ) و( لسان الميزان ).
وذهبت إلى مجموعة أحاديث أم سلمة في مسند الإمام أحمد فقرأتها واحداً واحداً فلم أجد فيها هذا الخبر بل لم أجد لأم سلمة أي خبر ذكر فيه اسم مولى لها يدعى ثابت ، زد على كل هذا أن أم سلمة لم تقل في هذا الخبر ـ إن صح عنها ـ ولا سبيل إلى أن يصح عنها ـ إن الآية نزلت في الوليد بل قالت ـ أي قيل على لسانها ـ " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رجلا ) في صدقات بين المصطلق " .
والخبر الثاني الموصول رواه الطبري في التفسير عن ابن سعد عن أبيه عن عمه عن أبيه عن أبيه عن ابن عباس.
والطبري لم يلق ابن سعد ولم يأخذ عنه لأن ابن سعد لما توفي في بغداد سنة 23هـ كان الطبري طفلا في نحو السادسة من عمره ولم يخرج إلى ذلك الحين من بلده آمل في طبرستان لا إلى بغداد ولا لغيرها.
ثم تبين لي أن ابن سعد الذي روى عنه الطبري هو محمد بن سعد العوفي وقد وصف الشيخ أحمد شاكر سنده بأنه ( سند مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة ) انظر تفسير الطبري طبعة دار المعارف 1 :263).
فكل هذه الأخبار من أولها إلى آخرها لا يجوز أن يؤاخذ بها مجاهد كان موقع ثقة أبي بكر وعمر وقام بخدمات للإسلام يرجى له بها أعظم المثوبة إن شاء الله أضف إلى كل ما تقدم أنه في الوقت الذي حدث فيه لبني المصطلق الحادثة التي نزلت فيها الآية كان الوليد صغير السن كما سيأتي في الفقرة التالية .
وروى أحمد في مسنده ( 4 : 32 ) حول عمر الوليد بن عقبة يوم فتح مكة عن شيخ له هو فياض بن محمد الرقي عن جعفر بن برقان الرقي عن ثابت بن الحجاج الكلابي الرقي عن عبد الله الهمداني هو ( عبد الله بن مالك بن الحارث ) عن الوليد بن عقبة، والظاهر أن الوليد بن عقبة تحدث بهذا الحديث عندما اعتزل الناس في السنين الأخيرة من حياته واختار الإقامة في قرية له من أعمال الرقة ، فتسلسلت رواية الخبر في الرواة الرقيين، وأخذه الإمام أحمد عن شيخ له منهم وعبد الله الهمداني ثقة لكن التبس اسمه في غر هذه الرواية بهمداني آخر يكنى أبا موسى واسمه مالك بن الحارث ( أي على اسم والد عبد الله الهمداني ) وهو مجهول عند أهل الجرح والتعديل.
أما عبد الله الهمداني الذي ينتهي إليه الخبر في رواية الإمام أحمد فمعروف وموثوق به وعلى روايته وأمثالها اعتمد القاضي ابن العربي في الحكم على سن الوليد بن عقبة بأنه كان صبياً عند فتح مكة وأن الذي نزلت فيه آية ( إن جاءكم فاسق بنبأ ) هو شخص آخر.
ومن عجيب أمر الذين كان لهم هوى في تشويه سمعة هذا الصحابي الشاب المجاهد الطيب النفس الحسن السيرة في الناس أنهم حاولوا إدحاض حجة صغر سنه في ذلك الوقت بخبر آخر روي عن قدومه مع أخيه عمارة إلى المدينة في السنة السابعة للهجرة ليطلبا من النبي صلى الله عليه وسلم رد أختهما أم كلثوم إلى مكة.
وأصل هذا الخبر ـ إن صح ـ مقدم فيه اسم عمارة على اسم الوليد وهذا مما يستأنس به في أن عمارة هو الأصل في هذه الرحلة وأن الوليد جاء في صحبته.
وأي مانع يمنع قدوم الوليد صبياً بصحبة أخيه الكبير كما يقع مثل ذلك في كل زمان ومكان؟
فقول الوليد إنه كان في سنة الفتح صبياً ليس في خبر قدومه مع أخيه الكبير إلى المدينة في السنة السابعة ما يمنعه أو يناقضه.
فإذا تقرر عندك أن جميع الأخبار الواردة بشأن الوليد بن عقبة في سبب نزول آية {إن جاءكم فاسق بنبأ } لا يجوز علمياً أن يبنى عليها حكم شرعي أو تاريخي، وإذا أضفت إلى ذلك حديث مسند الإمام أحمد عن سن الوليد في سنة الفتح يتبين لك بعد ذلك :حكمة استعمال أبي بكر وعمر للوليد وثقتهما به، واعتمادهما عليه ،مع أنه كان لا يزال في صدر شبابه.
الوليد المجاهد الفاتح العادل
أما الوليد بن عقبة المجاهد الفاتح العادل المظلوم ( الذي كان منه لأمته كل ما استطاع من عمل طيب، ثم رأى بعينه كيف يبغي المبطلون على الصالحين وينفذ باطلهم فيهم، فاعتزل الناس بعد مقتل عثمان في ضيعة له منقطعة عن صخب المجتمع، وهي تبعد خمسة عشر ميلاً عن بلدة الرقة من أرض الجزيرة التي كان يجاهد فيها، ويدعو نصاراها إلى الإسلام في خلافة عمر.).
فقد آن لدسائس الكذابين فيه أن ينكشف عنها عوارها ؛ولا يضير هذا الرجل أن يتأخر انكشاف الحق فيه ثلاثة عشر قرناً ؛فإن الحق قديم ولا يؤثر في قدمه احتجابه.
أراد الوليد بن عقبة ـ منذ ولي الكوفة لأمير المؤمنين عثمان ـ أن يكون الحاكم المثالي في العدل والنبل والسيرة الطيبة مع الناس، كما كان المحارب المثالي في جهاده وقيامة للإسلام بما يليق بالذائدين عن دعوته، الحاملين لرايته؛ الناشرين لرسالته وقد لبث في إمارته على الكوفة خمس سنوات وداره ـ إلى اليوم الذي زايل فيه الكوفة ـ ليس لها باب يحول بينه وبين الناس ممن يعرف أولا يعرف، فكان يغشاها كل من شاء متى شاء من ليل أو نهار ،ولم يكن بالوليد حاجة لأن يستتر عن الناس...
فالستر دون الفاحشات *ولا يلقاك دون الخير من ستر..
وكان ينبغي أن يكون الناس كلهم محبين لأميرهم الطيب، لأنه أقام لغربائهم دور الضيافة؛ وأدخل على الناس خيراً حتى جعل يقسم المال للولائد والعبيد ، ورد على كل مملوك من فضول الأموال في كل شهر ما يتسعون به من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم، وبالفعل ؛كانت جماهير الشعب متعلقة بحب هذا الأمير المثالي طول مدة حكمه.
إلا أن فريقاً من الأشرار وأهل الفساد أصاب بنيهم سوط الشريعة بالعقاب على يد الوليد فوقفوا حياتهم على ترصد الأذى له.
ومن هؤلاء رجال يسمى أحدهم أبا زينب بن عوف الأزدي؛ وآخر يسمى أبا مورع ؛وثالث اسمه جندب أبو زهير.
قبضت السلطات على أبنائهم في ليلة نقبوا فيها على ابن الحيسمان داره وقتلوه ؛وكان نازلاً بجواره رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن أهل السابقة في الإسلام، وهو أبو شريح الخزاعي حامل راية رسول الل-ه صلى الله عليه وسلم- على جيش خزاعة يوم فتح مكة.
فجاء هو وابنه من المدينة ليسيرا مع أحد جيوش الوليد بن عقبة التي كان يواصل توجيهها نحو المشرق للفتوح ونشر دعوة الإسلام، فشهد هذا الصحابي وابنه في تلك الليلة سطو هؤلاء الأشرار على منزل ابن الحيسمان، وأدى شهادته هو وابنه على هؤلاء القتلة السفاحين.
فأنفذ الوليد فيهم حكم الشريعة على باب القصر في الرحبة ، فكتب آباؤهم العهد على أنفسهم للشيطان بأن يكيدوا لهذا الأمير الطيب الرحيم ؛وبثوا عليه العيون والجواسيس ليترقبوا حركاته.
وكان بيته مفتوحاً دائماً؛ وبينما كان عنده ذات يوم ضيف له من شعراء الشمال كان نصرانياً في أخواله من بني تغلب بأرض الجزيرة وأسلم على يد الوليد؛ فظن جواسيس الموتورين أن هذا الشاعر الذي كان نصرانياً لا بد أن يكون يشرب الخمر..
ولعل الوليد أن يكرمه بذلك ،فنادوا أبا زينب وأبا المورع وأصحابهما، فاقتحموا الدار على الوليد من ناحية المسجد ولم يكن لداره باب. فلما فوجئ بهم نحى شيئاً أدخله تحت السرير ، فأدخل بعضهم يده فأخرجه بلا إذن من صاحب الدار، فلما أخرج ذلك الشئ من تحت السرير إذا هو طبق عليه تفاريق عنب فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون من الخجل ، وسمع الناس بالحكاية فأقبلوا يسبونهم ويلعنونهم.
وقد ستر الوليد عليهم ذلك وطواه عن عثمان؛ وسكت عن ذلك وصبر، ثم تكررت مكايد جندب وأبي زينب وأبي المورع، وكانوا يغتنمون كل حادث فيسيئون تأويله ويفترون الكذب ،وذهب بعض الذين كانوا عمالا في الحكومة ونحاهم الوليد عن أعمالهم لسوء سيرتهم فقصدوا المدينة وجعلوا يشكون الوليد لأمير المؤمنين عثمان، ويطلبون منه عزله عن الكوفة ،وفيما كان هؤلاء في المدينة دخل أبو زينب وأبو المورع دار الإمارة بالكوفة مع من يدخلها من غمار الناس وبقيا فيها إلى أن تنحى الوليد ليستريح فخرج بقية القوم ، وثبت أبو زينب وأبو المورع إلى أن تمكنا من سرقة خاتم الوليد من داره وخرجا.
فلما استيقظ الوليد لم يجد خاتمه فسأل عنه زوجتيه ـ وكانتا في مخدع تريان منه زوار الوليد من وراء ستر ـ فقالتا إن آخر من بقي في الدار رجلان، وذكرن صفتيهما وحليتهما للوليد، فعرف أنهما أبو زينب وأبو المورع، وأدرك أنهما لم يسرقا الخاتم إلا لمكيدة بيتاها، فأرسل في طلبهما فلم يوجدا في الكوفة، وكان قد سافرا تواً إلى المدينة.
وتقدما شاهدين على الوليد بشرب الخمر (وأكبر ظني أنهما استلهما شهادتهما المزورة من تفاصيل الحادث الذي سبق وقوعه لقدامة بن مضعون في خلافة عمر (فقال كنا من غاشيته فدخلنا عليه وهو يقئ الخمر؛ فقال عثمان: ما يقئ الخمر إلا شاربها، فجئ بالوليد من الكوفة فحلف لعثمان وأخبره خبرهم، فقال عثمان : " نقيم الحدود ويبوء شاهد الزور بالنار ".
هذه قصة اتهام الوليد بالخمر كما في حوادث سنة 30 هـ من تاريخ الطبري وليس فيها ـ على تعدد مصادرها ـ شئ غير ذلك وعناصر الخبر عند الطبري أن الشهود على الوليد اثنان من الموتورين الذين تعادت شواهد غلهم عليه ، ولم يرد في الشهادة ذكر الصلاة من أصلها، فضلا عن أن تكون اثنتين أو أربعاً، وزيادة ذكر الصلاة هي الأخرى أمرها عجيب.
فقد نقل خبرها عن الحضين بن المنذر ( أحد أتباع علي ) أنه كان مع علي عند عثمان ساعة أقيم الحد على الوليد، وتناقل الناس عنه هذا الخبر فسجله مسلم في صحيحه ( كتاب الحدود ) بلفظ " شهدت عثمان ابن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ( ركعتين ) ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان بأنه تقياً أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد آخر أنه رآه يتقيأ ) فالشاهدان لم يشهدا بأن الوليد صلى الصبح ركعتين وقال أزيدكم؛ بل شهد أحدهما بأنه شرب الخمر وشهد الآخر بأنه تقيأ.
أما صلاة الصبح ركعتين وكلمة أزيدكم فهي من كلام حضين، ولم يكن حضين من الشهود، ولا كان في الكوفة في وقت الحادث المزعوم، ثم إنه لم يسند هذا العنصر من عناصر الاتهام إلى إنسان معروف.
ومن العجيب أن نفس الخبر الذي في صحيح مسلم وارد في ثلاثة مواضع من مسند أحمد مروياً عن حضين، والذي سمعه من حضين في صحيح مسلم هو الذي سمعه منه في مسند احمد بمواضعه الثلاثة.
فالموضعان الأول والثاني ( ج1 ص82 و140 ) ليس فيهما ذكر الصلاة عن لسان حضين فضلاً عن غيره، فلعل أحد الرواة من بعده أدرك أن الكلام عن الصلاة ليس من كلام الشهود فاقتصر على ذكر الحد.
وأما في الموضع الثالث من مسند أحمد ( ج1ص 144 ) فقد جاء على لسان حضين أن الوليد صلى بالناس الصبح أربعاً، وهو يعارض ما جاء على لسان حضين نفسه في صحيح مسلم ، ففي إحدى الروايتين تحريف [ و ] الله أعلم بسببه.
وفي الحالتين لا يخرج ذكر الصلاة عنه أنه كلام حضين وحضين ليس بشاهد ، ولم يرو عن شاهد ، فلا عبرة بهذا الجزء من كلامه.
وبعد أن علمت بأمر الموتورين فيما نقله الطبري عن شيوخه، أزيدك علماً بأمر حمران [ المذكور في الرواية ] وهو عبد من عبيد عثمان كان قد عصى الله قبل شهادته على الوليد فتزوج في مدينة الرسول- صلى الله عليه وسلم- امرأة مطلقة ودخل بها وهي في عدتها من زوجها الأول، فغضب عليه عثمان لهذا ولأمور أخرى قبله فطرده من رحابه وأخرجه من المدينة، فجاء الكوفة يعيث فيها فساداً، ودخل على العبد الصالح عامر بن عبد القيس فافترى عليه الكذب عند رجال الدولة وكان سبب تسييره إلى الشام.
وأنا أترك أمر هذا الشاهد والشاهدين الآخرين قبله إلى ضمير القارئ يحكم عليهم بما يشاء ، وفي اجتهادي أن مثل هؤلاء الشهود لا يقام بهم حد الله على ظنين من السوقة والرعاع ، فكيف بصحابي مجاهد وضع الخليفة في يده أمانة قطر وقيادة جيوش فكان عند الظن به من حسن السيرة في الناس وصدق الرعاية لأمانات الله ، وكان موضع الثقة عند ثلاثة من أكمل خلفاء الإسلام أبي بكر وعمر وعثمان.
وإن قرابة الوليد من عثمان التي يزعم الكذبة أنها سبب المحاباة منه لهم إنما كانت سبب التسامح من عثمان في عزلهم؛ يتسلون بأعراض الناس يتفكهون بأبيات ستة منسوبة إلى ماجن خسيس النفس وردت في ص85 من ديوانه ولا تحملهم سليقة النقد على الشعور بما في هذه الأبيات من التضارب والتعارض فأين مدحه فيها للوليد بقوله :
ورأوا شمائل ماجد أنف يعطي على الميسور والعسر
فنزعت مكذوباً عليك ولم تردد إلى عوز ولا فقر
من بقية الأبيات التي فيها :
نادى وقد تمت صلاتهم أأزيدكم ثملا وما يدري
فالذي يقول البيت الأخير لا يعقل أن يقول معه البيتين الأولين فيكون مادحاً وذاماً في قطعة واحدة لا تزيد على ستة أبيات : وقد كانت لي مقالة مطولة عن ( التخليط في الشعر ) ضربت فيها الأمثلة على دس الأبيات الغريبة في قصائد من وزنها ورويها لغير ناظمها .
وعلى كل حال ،فالشهود الذين شهدوا بين يدي عثمان لم يدّعوا حكاية الصلاة مع أنهم لم يكونوا ممن يخاف الله واليوم الاخر.
والآن أقولها لوجه الله صريحة ومدوية إن الوليد لو كان من رجال التاريخ الأوربي كالقديس لويس الذي أسرناه في دار ابن لقمان بالمنصورة؛ لعدوه قديساً لأن لويس التاسع لم يحسن إلى فرنسا كإحسان الوليد بن عقبة إلى أمته؛ ولم يفتح للنصرانية كفتح الوليد للإسلام.
والعجب لأمة تسئ إلى أبطالها وتشوه جمال تاريخها؛ وتهدم أمجادها كما يفعل الأشرار منا ، ثم ينتشر كيد هؤلاء الأشرار حتى يظن الأخيار أنه هو الحق» ا. هـ
[تعليقات الشيخ -رحمه الله على كتاب العواصم من القواصم هامش ص 102-109]..