صُلحُ الحُدَيبِية... الفَتحُ المُبِينُ
للشيخ أزهر سنيقرة
إنَّ حاجةَالمسلمينِ إلى أخذِ العبرِ والدُّروسِ من سيرة نَبِيِّهمـصلى الله عليه وسلمـتُعتبر من أُولَى الأَوَّلِيَّاتِ، خاصَّةً في مثل هذا الزَّمان، الَّذي عَزَّتْفيه القدوةُ الحسنةُ، وتَتَابَعَتْ على المسلمين فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيل المظلم،كان من أشدِّها تَكَالُبُ الأعداء عليهم على اختلاف مناهجهم وأديانهم، استوجبتْعليهم أن يُراجِعوا سيرةَ نبيِّهمـصلى الله عليه وسلمـويستحضرُوا مآثرَه تحقيقًا لقول اللهجلَّ وعلاحيث قال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَاللَّهَ كَثِيراً﴾[الأحزاب: 21]للشيخ أزهر سنيقرة
وإنَّ منأهمِّ أحداث السِّيرةِ التي كان لها الأثرُ البالغُ في حياة نبيِّناـصلى الله عليه وسلمـومنمعه من الصَّحابة الكرام حادثةَ الحُدَيْبِيَة، أو ما اصْطُلِحَ على تسميته بصُلْحِالحديبية، التي كانت بُشْرَى عظيمةً لنبيِّناـصلى اللهعليه وسلمـومن معه، والصُّلْحُ والإِصْلاَحُوالصَّلاَحُ مِن قِيَمِ الإسلام البارزة، بل هي دعوتُه.
والصُّلحهنا المقصودُ به الاتِّفاق على السِّلْمِ بين الطَّائفتين المُتحاربتين، وهذاسِلْمٌ خاصٌّ؛ لأنَّه بَيْنَ النَّبيِّـصلى الله عليهوسلمـوقومِه الَّذين أخرجوه من أحَبِّ البلاد إليهودارت بينه وبينهم حروبٌ، ورغم شِدَّة حبِّ الصحابةـرضيالله عنهمـ لمَهْجَرهم مع رسول اللهـصلى الله عليه وسلمـفإنَّمشاعرَ الشَّوْقِ إلى مكَّةَ لم تَخْمُدْ في قلوبهم، وما بَرحُوا ينتظرون اليومالَّذي تُتاح لهم فيه فرصةُ العودة إليها والطَّوافِ بِبَيْتِهَا العتيقِ، إلى أنجاء ذلك اليوم الَّذي بَرَزَ فيه النَّبيُّـصلى اللهعليه وسلمـإلى أصحابهليخبرَهم برؤياه الَّتيرأى فيها دخولَه إلى مكَّةَ وطوافَه بالبيتِ، فاستبشر المسلمون بهذه الرُّؤيالعِلمهم أنَّ رُؤْيَا الأنبياء حقٌّ، وتَهَيَّؤُوا لهذه الرِّحلةالعظيمة.
وفي يومالاثنين من هِلال ذي القعدة من السَّنَة السَّادسة للهجرة خرج الرَّسولـصلى الله عليه وسلمـ، يريدالعمرةَ ومعه ألفٌ وأربعمائةٍ من الصَّحابة، وليس معهم إلاَّ سلاحَ السَّفر،فأَحْرَمُوا بالعُمْرَة من ذي الحُلَيْفَة، فلمَّا اقتربوا من مكَّةَ بلَغَهم أنَّقريشًا جمعتِ الجموعَ لمقاتلتهم وصدِّهم عن البيت.
هذاالخروجُ المبَارَكُ وما تخلَّلَه من أحداث، قد أخرجه البخاريُّ في «صحيحه» في كتابالشُّروطمن حديث طويل برقم: (2700، 2701، 4252) نَجْتَزِئُ منه ماله صِلةٌ بالعِبَرِ والفوائدِ المذكورة لاحقًا، ولعلَّ أبرزَ فصولِ صُلْحِالحُدَيْبِيَةِ ما تَضَمَّنَهُ الكتابُ الَّذي كان بين النَّبيِّـصلى الله عليه وسلمـومُفَوَّضِ قريشسُهَيْل بنِ عَمْرٍو، بحضور ذلك الجَمع الحاشِدِ من صحابةِرسول اللهـصلى الله عليه وسلمـ، وهم يشهدون ويسمعون لتلك الشُّروط التي لم يكن منالسَّهل هَضْمُها ولا قَبُولها.
قالالبخاري: «قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لماجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِيُّـصلىالله عليه وسلمـ: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْأَمْرِكُمْ»، قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَسُهَيْل بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا،فَدَعَا النَّبِيُّـصلى الله عليه وسلمـالكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّـصلى الله عليه وسلمـ: «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِالرَّحِيمِ»،قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللهِمَا أَدْرِي مَا هُوَ! وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، كَمَا كُنْتَتَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللهِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّـصلى اللهعليه وسلمـ: «اكْتُبْ بِاسْمِكَاللَّهُمَّ»، ثُمَّ قَال:َ«هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌرَسُولُ الله»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَرَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ البَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّـصلىالله عليه وسلمـ: «وَاللهِ إِنِّي لَرَسُولُاللهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللهِ»؛ قَالَالزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِه:ِ«لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةًيُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»،فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّـصلى الله عليه وسلمـ:«عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَالبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَا تَتَحَدَّثُالعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةًـأيقَهرًاـوَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ،فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْكَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ المُسْلِمُونَ: سُبْحَانَاللهِ! كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَمُسْلِماً...«.
تعليق