قال الشيخ تقي الدين المقريزي رحمه الله في كتابه °° المواعظ والاعتبار°°
الحال في عقائد أهل الإسلام
منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية
اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا رسولا إلى الناس جميعا، وصف لهم ربهم سبحانه وتعالى، بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه الروح الأمين وبما أوحى إليه ربه تعالى، فلم يسأله أحد من العرب بأسرهم،قرويهم وبدريهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه أمر ونهي،وكما سألوه عن أحوال القيامة والجنة والنار، إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب،وأحوال القيامة والملاحم والفتن،ونحوذلك مما تضمنته كتب الحديث، معاجمها مسانيدها وجوامعها، ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي، ووقف على الآثار السلفية، علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم، أنه سأل رسول الله عن معنى شيء مما وصف الرب، سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه محمد، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقا واحدا. وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك، مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وعلى إثبات نبوة محمد، سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئا من الطرق الكلامية ولامسائل الفلسفة، فمضى عصر الصحابة رضي الله عنهم على هذا إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر، وأن الأمر أنفة، أي أن الله تعالى لم يقدر على خلقه شيئا مما هم عليه.وكان أول من قال بالقدر في الإسلام، معبد بن خالد الجهني، وكان يجالس الحسن بن الحسين البصري، فتكلم في القدر بالبصرة، وهلك أهل البصرة مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله ،وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه، ويعرف بالإسواري، فلما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان سنة ثمانين، ولما بلغ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مقالة معبد في القدر تبرأمن القدرية،واقتدى بمعبد في بدعته هذه جماعة،وأخذ السلف رحمهم الله في ذم القدرية،وحذروا منهم كما هو معروف في كتب الحديث، وكان عطاء بن يسار قاضيا يرى القدر، وكان يأتي هو ومعبد الجهني إلى الحسن البصري فيقولان له: إن هؤلاء يسفكون الدماء ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال: كذب أعداء الله، فطعن عليه بهذا، ومثله. وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب الخوارج، وصرحوا بالتكفير بالذنب والخروج على الإمام وقتاله، فناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلم يرجعوا إلى الحق، وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل منهم جماعة كما هو معروف في كتب الأخبار، ودخل في دعوة الخوارج خلق كثير، ورمى جماعة من أئمة الإسلام بأنهم يذهبون إلى مذهبهم، وعد منهم غير واحد من رواة الحديث كماهو معروف عند أهله، وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب التشيع لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه،والغلوفية،فلما بلغه ذلك أنكره وحرق بالنارجماعة ممن غلا فيه وأنشد:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... اججت ناري ودعوت قنبرا.
وقام في زمنه رضي الله عنه عبد الله بن وهب بن سبأ،المعروف بابن السوداء السبأي، وأحدث القول بوصية رسول الله لعلي بالإمامة من بعده، فهو وصي رسول الله وخليفته على أمته من بعده بالنص،وأحدث القول برجعة علي بعد موته إلى الدنيا،وبرجعة رسول الله أيضا، وزعم أن عليا لم يقتل، وأنه حي وأن فيه الجزء الإلهي، وأنه هو الذي يجيء في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه،وأنه لا بد أن ينزل إلى الأرض فيملأها عدلا كما ملئت جورا. ومن ابن سبأ هذا تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة،وصاروا يقولون بالوقف، يعنون أن الإمامة موقوفة على أناس معينين،كقول الإمامية بأنها في الأئمة الإثني عشر، وقول الإسماعلية بأنها في ولد إسماعيل بن جعفر الصادق، وعنه أيضا أخذوا القول بفيئة الإمام، والقول برجعته بعد الموت إلى الدنيا، كما تعتقده الإمامية إلى اليوم في صاحب السرداب، وهو القول بتناسخ الأرواح، وعنه أخذوا أيضا القول بأن الجزء الإلهي يحل في الأئمة بعد علي بن أبي طالب، وأنهم بذلك استحقوا الإمامة بطريق الوجوب، كما استحق آدم عليه السلام سجود الملائكة، وعلى هذا الرأي كان إعتقاد دعاة الخلفاء الفاطميين ببلاد مصر، وابن سبأ هذا هو الذي أثار فتنة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتل: كما ذكر في ترجمة ابن سبأ من كتاب التاريخ الكبير المقفى وكان له عدة أتباع في عامة الأمصار، وأصحاب كثيرون في معظم الأقطار، فكثرت لذلك الشيعةوصاروا ضدا للخوارج، وما زال امرهم يقوى وعددهم يكثر.
ثم حدث بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، مذهب جهم بن صفوان ببلاد المشرق، فعظمت الفتنة به.فإنه نفى أن يكون لله تعالى صفة، وأورد على أهل الإسلام شكوكا أثر في الملة الإسلامية آثارا قبيحة، تولد عنها بلاء كبير. وكان قبيل المائة من سني الهجرة، فكثر أتباعه على أقواله التي تؤول إلى التعطيل، فأكبر أهل الإسلام بدعته وتمالؤا على إنكارها وتضليل أهلها. وحذروا من الجهمية وعادوهم في الله وذموا من جلس إليهم، وكتبوا في الرد عليهم ما هو معروف عند أهله، وفي أثناء ذلك حدث مذهب الإعتزال، منذ زمن الحسن بن الحسين البصري رحمه الله، بعد المائتين من سني الهجرة، وصنفوا فيه مسائل في العدل والتوحيد وإثبات أفعال العباد، وأن الله تعالى لا يخلق الشر وجهلوا بأن الله لا يرى في الآخرة، وأنكروا عذاب القبر على البدن، وأعلنوا بأن القرآن مخلوق محدث، إلى غير ذلك من مسائلهم، فتبعهم خلائق في بدعهم، وأكثروا من التصنيف في نصرة مذهبهم بالطرق الجدلية، فنهى أئمة الإسلام عن مذهبهم، وذموا علم الكلام، وهجروا من ينتحله، ولم يزل أمر المعتزلة يقوى وأتباعهم تكثر ومذهبهم ينتشر في الأرض.ثم حدث مذهب التجسيم المضاد لمذهب الإعتزال، فظهر محمد بن كرام بن عراق بن حزابة، أبو عبد الله السجستاني، زعيم الطائفة الكرامية بعد المائتين من سني الهجرة، وأثبت الصفات حتى انتهى فيها إلى التجسيم والتشبيه، وحج وقدم الشام ومات بزغرة، في صفر سنة ست وخمسين ومائتين، فدفن بالمقدس، وكان هناك من أصحابه زيادة على عشرين ألفا على التعبد والتقشف، سوى من كان منهم ببلاد المشرق، وهم لا يحصون لكثرتهم، وكان إماما لطائفتي الشافعية والحنفية، وكانت بين الكرامية بالمشرق وبين المعتزلة مناظرات ومناكرات وفتن كثيرة متعددة أزماتها. هذا وأمر الشيعة يفشو في الناس حتى حدث مذهب القرامطة، المنسوبين إلى حمدان الأشعث المعروف بقرمط، من أجل قصر قامته وقصر رجليه وتقارب خطوه، وكان ابتداء أمر قرمط هذا في سنة أربع وستين ومائتين، وكان ظهوره بسواد الكوفة فاشتهر مذهبه بالعراق، وقام من القرامطة ببلاد الشام صاحب الحال والمدثر والمطوق، وقام بالبحرين منهم أبو سعيد الجنابي من أهل جنابة، وعظمت دولته ودولة بنيه من بعده، حتى أوقعوا بعساكر بغداد وأخافوا خلفاء بني العباس، وفرضوا الأموال التي تحمل إليهم في كل سنة على أهل بغداد وخراسان والشام ومصر واليمن،وغزوا بغداد والشام ومصر والحجاز، وانتشرت دعاتهم بأقطار الأرض، فدخل جماعات من الناس في دعوتهم ومالوا إلى قولهم الذي سموه علم الباطن، وهو تأويل شرائع الإسلام وصرفها عن ظواهرها إلى أمور زعموها من عند أنفسهم، وتأويل آيات القرآن ودعوا هم فيها تأويلا بعيدا انتحلوا القول به بدعا ابتدعوها بأهوائهم، فضلوا وأضلوا عالما كثيرا.هذا وقد كان المأمون عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس ببغداد، لماشغف بالعلوم القديمة. بعث إلى بلاد الروم من عرب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين من سني الهجرة، فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس، واشتهرت كتبهم بعامة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، فانجر على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع وزادتهم كفرا إلى كفرهم. فلما قامت دولة بني بويه ببغداد في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة واستمروا إلى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وأظهروا مذهب التشيع، قويت بهم الشيعة وكتبوا على أبواب المساجد في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من أغضب فاطمة، ومن منع الحسن أن يدفن عند جده، ومن نفى أبا ذر الغفاري، ومن أخرج العباس من الشورى. فلما كان الليل حكه بعض الناس، فأشار الوزير المهلبي أن يكتب بإذن معز الدولة، لعن الله الظالمين لأهل البيت، ولا يذكر أحد في اللعن غير معاوية. ففعل ذلك وكثرت ببغداد الفتن بين الشيعة والسنية، وجهر الشيعة في الأذان بحي على خير العمل في الكرخ،وفشا مذهب الإعتزال بالعراق وخراسان وما وراء النهر،وذهب إليه جماعة من مشاهير الفقهاء،وقوى مع ذلك أمرالخلفاء الفاطميين بأفريقية وبلادالمغرب،وجهروا بمذهب الإسماعيلية وبثوا دعاتهم بأرض مصر، فاستجاب لهم خلق كثير من أهلها، ثم ملكوها سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وبعثوا بعساكرهم إلى الشام فانتشرت مذاهب الرافضة في عامة بلاد المغرب ومصر والشام وديار بكر والكوفة والبصرة وبغداد، وجميع العراق، وبلاد خراسان، وما وراء النهر مع بلاد الحجاز واليمن والبحرين، وكانت بينهم وبين أهل السنة من الفتن والحروب والمقاتل ما لا يمكن حصره لكثرته، واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية، حتى ملأت الأرض، وما منهم إلا من نظر في الفلسفة وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره،فلم تبق مصرمن الأمصارولا قطر من الأقطار، إلا وفيه طوائف كثيرة ممن ذكرنا.وكان أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري قد أخذ عن أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، ولازمه عدة أعوام، ثم بدا له فترك مذهب الإعتزال وسلك طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر، وقال بالفاعل المختار،وترك القول بالتحسين والتقبيح العقليين،وما قيل في مسائل الصلاح والأصلح،وأثبت أن العقل لا يوجب المعارف قبل الشرع، وأن العلوم وإن حصلت بالعقل فلا تجب به،ولا يجب البحث عنها إلا بالسمع، وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء، وأن النبوات من الجائزات العقلية والواجبات السمعية إلى غير ذلك من مسائله التي هي موضوع أصول الدين.وجهروا بمذهب الإسماعيلية وبثوا دعاتهم بأرض مصر، فاستجاب لهم خلق كثير من أهلها، ثم ملكوها سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وبعثوا بعساكرهم إلى الشام فانتشرت مذاهب الرافضة في عامة بلاد المغرب ومصر والشام وديار بكر والكوفة والبصرة وبغداد، وجميع العراق، وبلاد خراسان، وما وراء النهر مع بلاد الحجاز واليمن والبحرين، وكانت بينهم وبين أهل السنة من الفتن والحروب والمقاتل ما لا يمكن حصره لكثرته، واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية، حتى ملأت الأرض، وما منهم إلا من نظر في الفلسفة وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره،فلم تبق مصرمن الأمصارولا قطر من الأقطار، إلا وفيه طوائف كثيرة ممن ذكرنا.وكان أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري قد أخذ عن أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، ولازمه عدة أعوام، ثم بدا له فترك مذهب الإعتزال وسلك طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر، وقال بالفاعل المختار،وترك القول بالتحسين والتقبيح العقليين،وما قيل في مسائل الصلاح والأصلح،وأثبت أن العقل لا يوجب المعارف قبل الشرع، وأن العلوم وإن حصلت بالعقل فلا تجب به،ولا يجب البحث عنها إلا بالسمع، وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء، وأن النبوات من الجائزات العقلية والواجبات السمعية إلى غير ذلك من مسائله التي هي موضوع أصول الدين.
وحقيقة مذهب الأشعري: رحمه الله، أنه سلك طريقا بين النفي الذي هو مذهب الإعتزال، وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم، وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه، فمال إليه جماعة وعولوا على رأيه، منهم القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الأسفرايني، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، والشيخ أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، والإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وغيرهم ممن يطول ذكره، ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه واستدلوا له في مصنفات لا تكاد تحصر، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام، فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر،كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني على هذا المذهب، قد نشآ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري،وحملوا في أيام مواليهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب،ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك، واتفق مع ذلك توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزالي مذهب الأشعري، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لقفها عنه عامتهم،ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن علي الميسي، وتلقب بأمير المؤمنين،وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعدمدة سنين، وتسموا بالموحدين، فلذلك صارت دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهدي المعصوم، فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلا الله خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ، فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب، وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه،فإنهم كانوا على ماكان عليه السلف،لايرون تأويل ماورد من الصفات، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحكم بن عبد السلام بن تيمية الحراني،فتصدى للانتصار لمذهب السلف وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة، وعلى الصوفية، فافترق الناس فيه فريقان،فريق يقتدي به ويعول على أقواله ويعمل برأيه،ويرى أنه شيخ الإسلام وأجل حفاظ أهل الملة الإسلامية.وفريق يبدعه ويضلله ويزري عليه بإثباته الصفات،وينتقد عليه مسائل منها ما له فيه سلف، ومنها ما زعموا أنه خرق فيه الإجماع، ولم يكن له فيه سلف، وكانت له ولهم خطوب كثيرة،وحسابه وحسابهم على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وله إلى وقتنا هذاعدةأتباع بالشام وقليل بمصر.هذا وبين الأشاعرة والماتريدية أتباع أبي منصورمحمد بن محمد بن محمود الماتريدي،وهم طائفة الفقهاء الحنفية مقلدو الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت،وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحضرمي،ومحمدبن الحسن الشيباني رضي الله عنهم، من الخلاف في العقائد ما هو مشهور في موضعه، وهو إذ تتبع يبلغ بضع عشرة مسألة، كان بسببها في أول الأمر تباين وتنافر، وقدح كل منهم في عقيدة الآخر، إلا أن الأمرآل آخرا إلى الإغضاء، ولله الحمد.فهذا أعز الله بيان ما كانت عليه عقائد الأمة من ابتداء الأمر إلى وقتنا هذا، قد فصلت فيه ما أجمله أهل الأخبار، وأجملت ما فصلوا، فدونك طالب العلم تناول ما قد بذلت فيه جهدي وأطلت بسببه سهري وكدي في تصفح دواوين الإسلام وكتب الأخبار، فقد وصل إليك صفوا ونلته عفوا بلا تكلف مشقة ولا بذل مجهول، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده
انتهى
كلام يكتب بماء الذهب
الحال في عقائد أهل الإسلام
منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية
اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا رسولا إلى الناس جميعا، وصف لهم ربهم سبحانه وتعالى، بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه الروح الأمين وبما أوحى إليه ربه تعالى، فلم يسأله أحد من العرب بأسرهم،قرويهم وبدريهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه أمر ونهي،وكما سألوه عن أحوال القيامة والجنة والنار، إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب،وأحوال القيامة والملاحم والفتن،ونحوذلك مما تضمنته كتب الحديث، معاجمها مسانيدها وجوامعها، ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي، ووقف على الآثار السلفية، علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم، أنه سأل رسول الله عن معنى شيء مما وصف الرب، سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه محمد، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقا واحدا. وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك، مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وعلى إثبات نبوة محمد، سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئا من الطرق الكلامية ولامسائل الفلسفة، فمضى عصر الصحابة رضي الله عنهم على هذا إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر، وأن الأمر أنفة، أي أن الله تعالى لم يقدر على خلقه شيئا مما هم عليه.وكان أول من قال بالقدر في الإسلام، معبد بن خالد الجهني، وكان يجالس الحسن بن الحسين البصري، فتكلم في القدر بالبصرة، وهلك أهل البصرة مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله ،وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه، ويعرف بالإسواري، فلما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان سنة ثمانين، ولما بلغ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مقالة معبد في القدر تبرأمن القدرية،واقتدى بمعبد في بدعته هذه جماعة،وأخذ السلف رحمهم الله في ذم القدرية،وحذروا منهم كما هو معروف في كتب الحديث، وكان عطاء بن يسار قاضيا يرى القدر، وكان يأتي هو ومعبد الجهني إلى الحسن البصري فيقولان له: إن هؤلاء يسفكون الدماء ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال: كذب أعداء الله، فطعن عليه بهذا، ومثله. وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب الخوارج، وصرحوا بالتكفير بالذنب والخروج على الإمام وقتاله، فناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلم يرجعوا إلى الحق، وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل منهم جماعة كما هو معروف في كتب الأخبار، ودخل في دعوة الخوارج خلق كثير، ورمى جماعة من أئمة الإسلام بأنهم يذهبون إلى مذهبهم، وعد منهم غير واحد من رواة الحديث كماهو معروف عند أهله، وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب التشيع لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه،والغلوفية،فلما بلغه ذلك أنكره وحرق بالنارجماعة ممن غلا فيه وأنشد:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... اججت ناري ودعوت قنبرا.
وقام في زمنه رضي الله عنه عبد الله بن وهب بن سبأ،المعروف بابن السوداء السبأي، وأحدث القول بوصية رسول الله لعلي بالإمامة من بعده، فهو وصي رسول الله وخليفته على أمته من بعده بالنص،وأحدث القول برجعة علي بعد موته إلى الدنيا،وبرجعة رسول الله أيضا، وزعم أن عليا لم يقتل، وأنه حي وأن فيه الجزء الإلهي، وأنه هو الذي يجيء في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه،وأنه لا بد أن ينزل إلى الأرض فيملأها عدلا كما ملئت جورا. ومن ابن سبأ هذا تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة،وصاروا يقولون بالوقف، يعنون أن الإمامة موقوفة على أناس معينين،كقول الإمامية بأنها في الأئمة الإثني عشر، وقول الإسماعلية بأنها في ولد إسماعيل بن جعفر الصادق، وعنه أيضا أخذوا القول بفيئة الإمام، والقول برجعته بعد الموت إلى الدنيا، كما تعتقده الإمامية إلى اليوم في صاحب السرداب، وهو القول بتناسخ الأرواح، وعنه أخذوا أيضا القول بأن الجزء الإلهي يحل في الأئمة بعد علي بن أبي طالب، وأنهم بذلك استحقوا الإمامة بطريق الوجوب، كما استحق آدم عليه السلام سجود الملائكة، وعلى هذا الرأي كان إعتقاد دعاة الخلفاء الفاطميين ببلاد مصر، وابن سبأ هذا هو الذي أثار فتنة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتل: كما ذكر في ترجمة ابن سبأ من كتاب التاريخ الكبير المقفى وكان له عدة أتباع في عامة الأمصار، وأصحاب كثيرون في معظم الأقطار، فكثرت لذلك الشيعةوصاروا ضدا للخوارج، وما زال امرهم يقوى وعددهم يكثر.
ثم حدث بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، مذهب جهم بن صفوان ببلاد المشرق، فعظمت الفتنة به.فإنه نفى أن يكون لله تعالى صفة، وأورد على أهل الإسلام شكوكا أثر في الملة الإسلامية آثارا قبيحة، تولد عنها بلاء كبير. وكان قبيل المائة من سني الهجرة، فكثر أتباعه على أقواله التي تؤول إلى التعطيل، فأكبر أهل الإسلام بدعته وتمالؤا على إنكارها وتضليل أهلها. وحذروا من الجهمية وعادوهم في الله وذموا من جلس إليهم، وكتبوا في الرد عليهم ما هو معروف عند أهله، وفي أثناء ذلك حدث مذهب الإعتزال، منذ زمن الحسن بن الحسين البصري رحمه الله، بعد المائتين من سني الهجرة، وصنفوا فيه مسائل في العدل والتوحيد وإثبات أفعال العباد، وأن الله تعالى لا يخلق الشر وجهلوا بأن الله لا يرى في الآخرة، وأنكروا عذاب القبر على البدن، وأعلنوا بأن القرآن مخلوق محدث، إلى غير ذلك من مسائلهم، فتبعهم خلائق في بدعهم، وأكثروا من التصنيف في نصرة مذهبهم بالطرق الجدلية، فنهى أئمة الإسلام عن مذهبهم، وذموا علم الكلام، وهجروا من ينتحله، ولم يزل أمر المعتزلة يقوى وأتباعهم تكثر ومذهبهم ينتشر في الأرض.ثم حدث مذهب التجسيم المضاد لمذهب الإعتزال، فظهر محمد بن كرام بن عراق بن حزابة، أبو عبد الله السجستاني، زعيم الطائفة الكرامية بعد المائتين من سني الهجرة، وأثبت الصفات حتى انتهى فيها إلى التجسيم والتشبيه، وحج وقدم الشام ومات بزغرة، في صفر سنة ست وخمسين ومائتين، فدفن بالمقدس، وكان هناك من أصحابه زيادة على عشرين ألفا على التعبد والتقشف، سوى من كان منهم ببلاد المشرق، وهم لا يحصون لكثرتهم، وكان إماما لطائفتي الشافعية والحنفية، وكانت بين الكرامية بالمشرق وبين المعتزلة مناظرات ومناكرات وفتن كثيرة متعددة أزماتها. هذا وأمر الشيعة يفشو في الناس حتى حدث مذهب القرامطة، المنسوبين إلى حمدان الأشعث المعروف بقرمط، من أجل قصر قامته وقصر رجليه وتقارب خطوه، وكان ابتداء أمر قرمط هذا في سنة أربع وستين ومائتين، وكان ظهوره بسواد الكوفة فاشتهر مذهبه بالعراق، وقام من القرامطة ببلاد الشام صاحب الحال والمدثر والمطوق، وقام بالبحرين منهم أبو سعيد الجنابي من أهل جنابة، وعظمت دولته ودولة بنيه من بعده، حتى أوقعوا بعساكر بغداد وأخافوا خلفاء بني العباس، وفرضوا الأموال التي تحمل إليهم في كل سنة على أهل بغداد وخراسان والشام ومصر واليمن،وغزوا بغداد والشام ومصر والحجاز، وانتشرت دعاتهم بأقطار الأرض، فدخل جماعات من الناس في دعوتهم ومالوا إلى قولهم الذي سموه علم الباطن، وهو تأويل شرائع الإسلام وصرفها عن ظواهرها إلى أمور زعموها من عند أنفسهم، وتأويل آيات القرآن ودعوا هم فيها تأويلا بعيدا انتحلوا القول به بدعا ابتدعوها بأهوائهم، فضلوا وأضلوا عالما كثيرا.هذا وقد كان المأمون عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس ببغداد، لماشغف بالعلوم القديمة. بعث إلى بلاد الروم من عرب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين من سني الهجرة، فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس، واشتهرت كتبهم بعامة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، فانجر على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع وزادتهم كفرا إلى كفرهم. فلما قامت دولة بني بويه ببغداد في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة واستمروا إلى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وأظهروا مذهب التشيع، قويت بهم الشيعة وكتبوا على أبواب المساجد في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من أغضب فاطمة، ومن منع الحسن أن يدفن عند جده، ومن نفى أبا ذر الغفاري، ومن أخرج العباس من الشورى. فلما كان الليل حكه بعض الناس، فأشار الوزير المهلبي أن يكتب بإذن معز الدولة، لعن الله الظالمين لأهل البيت، ولا يذكر أحد في اللعن غير معاوية. ففعل ذلك وكثرت ببغداد الفتن بين الشيعة والسنية، وجهر الشيعة في الأذان بحي على خير العمل في الكرخ،وفشا مذهب الإعتزال بالعراق وخراسان وما وراء النهر،وذهب إليه جماعة من مشاهير الفقهاء،وقوى مع ذلك أمرالخلفاء الفاطميين بأفريقية وبلادالمغرب،وجهروا بمذهب الإسماعيلية وبثوا دعاتهم بأرض مصر، فاستجاب لهم خلق كثير من أهلها، ثم ملكوها سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وبعثوا بعساكرهم إلى الشام فانتشرت مذاهب الرافضة في عامة بلاد المغرب ومصر والشام وديار بكر والكوفة والبصرة وبغداد، وجميع العراق، وبلاد خراسان، وما وراء النهر مع بلاد الحجاز واليمن والبحرين، وكانت بينهم وبين أهل السنة من الفتن والحروب والمقاتل ما لا يمكن حصره لكثرته، واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية، حتى ملأت الأرض، وما منهم إلا من نظر في الفلسفة وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره،فلم تبق مصرمن الأمصارولا قطر من الأقطار، إلا وفيه طوائف كثيرة ممن ذكرنا.وكان أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري قد أخذ عن أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، ولازمه عدة أعوام، ثم بدا له فترك مذهب الإعتزال وسلك طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر، وقال بالفاعل المختار،وترك القول بالتحسين والتقبيح العقليين،وما قيل في مسائل الصلاح والأصلح،وأثبت أن العقل لا يوجب المعارف قبل الشرع، وأن العلوم وإن حصلت بالعقل فلا تجب به،ولا يجب البحث عنها إلا بالسمع، وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء، وأن النبوات من الجائزات العقلية والواجبات السمعية إلى غير ذلك من مسائله التي هي موضوع أصول الدين.وجهروا بمذهب الإسماعيلية وبثوا دعاتهم بأرض مصر، فاستجاب لهم خلق كثير من أهلها، ثم ملكوها سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وبعثوا بعساكرهم إلى الشام فانتشرت مذاهب الرافضة في عامة بلاد المغرب ومصر والشام وديار بكر والكوفة والبصرة وبغداد، وجميع العراق، وبلاد خراسان، وما وراء النهر مع بلاد الحجاز واليمن والبحرين، وكانت بينهم وبين أهل السنة من الفتن والحروب والمقاتل ما لا يمكن حصره لكثرته، واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية، حتى ملأت الأرض، وما منهم إلا من نظر في الفلسفة وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره،فلم تبق مصرمن الأمصارولا قطر من الأقطار، إلا وفيه طوائف كثيرة ممن ذكرنا.وكان أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري قد أخذ عن أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، ولازمه عدة أعوام، ثم بدا له فترك مذهب الإعتزال وسلك طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر، وقال بالفاعل المختار،وترك القول بالتحسين والتقبيح العقليين،وما قيل في مسائل الصلاح والأصلح،وأثبت أن العقل لا يوجب المعارف قبل الشرع، وأن العلوم وإن حصلت بالعقل فلا تجب به،ولا يجب البحث عنها إلا بالسمع، وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء، وأن النبوات من الجائزات العقلية والواجبات السمعية إلى غير ذلك من مسائله التي هي موضوع أصول الدين.
وحقيقة مذهب الأشعري: رحمه الله، أنه سلك طريقا بين النفي الذي هو مذهب الإعتزال، وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم، وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه، فمال إليه جماعة وعولوا على رأيه، منهم القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الأسفرايني، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، والشيخ أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، والإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وغيرهم ممن يطول ذكره، ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه واستدلوا له في مصنفات لا تكاد تحصر، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام، فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر،كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني على هذا المذهب، قد نشآ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري،وحملوا في أيام مواليهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب،ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك، واتفق مع ذلك توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزالي مذهب الأشعري، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لقفها عنه عامتهم،ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن علي الميسي، وتلقب بأمير المؤمنين،وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعدمدة سنين، وتسموا بالموحدين، فلذلك صارت دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهدي المعصوم، فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلا الله خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ، فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب، وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه،فإنهم كانوا على ماكان عليه السلف،لايرون تأويل ماورد من الصفات، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحكم بن عبد السلام بن تيمية الحراني،فتصدى للانتصار لمذهب السلف وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة، وعلى الصوفية، فافترق الناس فيه فريقان،فريق يقتدي به ويعول على أقواله ويعمل برأيه،ويرى أنه شيخ الإسلام وأجل حفاظ أهل الملة الإسلامية.وفريق يبدعه ويضلله ويزري عليه بإثباته الصفات،وينتقد عليه مسائل منها ما له فيه سلف، ومنها ما زعموا أنه خرق فيه الإجماع، ولم يكن له فيه سلف، وكانت له ولهم خطوب كثيرة،وحسابه وحسابهم على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وله إلى وقتنا هذاعدةأتباع بالشام وقليل بمصر.هذا وبين الأشاعرة والماتريدية أتباع أبي منصورمحمد بن محمد بن محمود الماتريدي،وهم طائفة الفقهاء الحنفية مقلدو الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت،وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحضرمي،ومحمدبن الحسن الشيباني رضي الله عنهم، من الخلاف في العقائد ما هو مشهور في موضعه، وهو إذ تتبع يبلغ بضع عشرة مسألة، كان بسببها في أول الأمر تباين وتنافر، وقدح كل منهم في عقيدة الآخر، إلا أن الأمرآل آخرا إلى الإغضاء، ولله الحمد.فهذا أعز الله بيان ما كانت عليه عقائد الأمة من ابتداء الأمر إلى وقتنا هذا، قد فصلت فيه ما أجمله أهل الأخبار، وأجملت ما فصلوا، فدونك طالب العلم تناول ما قد بذلت فيه جهدي وأطلت بسببه سهري وكدي في تصفح دواوين الإسلام وكتب الأخبار، فقد وصل إليك صفوا ونلته عفوا بلا تكلف مشقة ولا بذل مجهول، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده
انتهى
كلام يكتب بماء الذهب
تعليق