بسم الله الرحمن الرحيم
الأحاديث والآثار الواردة في أول من أرخ بالتاريخ بالهجري
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقد جاء التأريخ بالهجري من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وجاء من فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن فعل غيره، وسأذكر ما وقفت عليه من أحاديث وآثار في هذا الباب مع تخريجها والكلام عليها بما تقتضيه قواعد الصنعة الحديثية مع تحليتها بأقوال المحدثين.
عن سهل بن سعد قال: (ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته ما عدوا إلا من مقدمه المدينة).
أخرج البخاري في ((الصحيح)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله قال في ((فتح الباري)): ((وأفاد السهيلي أن الصحابة أخذوا التاريخ بالهجرة من قوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم}، لأنه من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقا فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام وعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ربه آمنا وابتدأ بناء المسجد فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى: {من أول يوم}، أنه أول أيام التاريخ الإسلامي كذا قال؛ والمتبادر أن معنى قوله: {من أول يوم}، أي: دخل فيه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه المدينة، والله أعلم)) اهـ.
أما ما جاء من أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
أخرج الحاكم في ((الإكليل)) وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) من طريق أبي عاصم النبيل عن ابن جريج عن أبي سلمة عن ابن شهاب الزهري (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأول).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله قال في ((فتح الباري)): ((وهذا معضل والمشهور خلافه كما سيأتي وأن ذلك كان في خلافة عمر)) اهـ.
وجاء بلفظ آخر موقوفا على الزهري رحمه الله أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) من طريق ابن وهب عن ابن جريج عن ابن شهاب أنه قال: التاريخ من يوم قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا.
قال ابن وهب سألت مالكا عن التاريخ من متى؟
قال من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة.
قال ابن عساكر رحمه الله: ((كذا في حديث أبي عاصم وجزم ابن وهب عن ابن جريج أصوب لأنه ذكر ابتداء التاريخ لم يبين من أمر به)) اهـ.
وأخرج ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) عن أبي زرعة قال: أملا علينا عبد الأعلى بن مسهر ما صح من التاريخ وما العمل عليه وحدثنا: (أن التاريخ منذ نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وتوفي سنة عشر لتمامها من التاريخ).
وأخرج ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) عن أبي جعفر قال: (نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا ففيه أوقع أصحابه تسمية السنين من مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقام بمكة اثنتي عشرة سنة).
فكل ما سبق يبين أن التأريخ كان من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهجرته إليها، وما جاء من أمره عليه الصلاة والسلام لا يصح.
وأخرج البخاري في ((تاريخ الصغير)) حدثني سعيد بن أبي مريم قال أنبأنا يعقوب بن إسحاق حدثني محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان التاريخ في السنة التي قدم فيها النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وفيها ولد عبد الله بن الزبير).
وقد ورد عن عمر الفاروق رضي الله عنه جملة من الآثار أذكر ما وقفت عليه منها:
أولا: سعيد بن المسيب.
عن رافع عن ابن المسيب قال: فأول من كتب التاريخ عمر لسنتين ونصف من خلافته فكتبه لست عشرة من المحرم بمشورة علي بن أبي طالب.
أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق))، وإسناده ضعيف جدا فيه محمد بن عمر وهو: الواقدي متروك مع سعة علمه كما في ((التقريب)) وابن أبي سبرة وهو: أبو بكر بن عبد الله قال الإمام أحمد في ((العلل)): كان يكذب ويضع الحديث.
وعن سعيد بن المسيب قال: جمع عمر بن الخطاب من المهاجرين والأنصار فقال: متى نكتب التاريخ.
فقال له علي بن أبي طالب: منذ خرج النبي الله (صلى الله عليه وسلم) من أرض الشرك يعني يوم هاجر.
قال: فكتب ذلك عمر بن الخطاب.
أخرجه البخاري في ((تاريخ الكبير)) و((تاريخ الصغير)) ومن طريقه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) وأخرجه ابن شبة في ((تاريخ المدينة)).
هذا الأثر فيه عبد العزيز بن محمد بن عثمان بن رافع لم أجد فيه جرحا ولا تعديلا.
ثانيا: عامر بن شراحيل الشعبي.
عن الشعبي قال كتب أبو موسى إلى عمر إنه يأتينا من قبلك كتب ليس لها تاريخ فأرخ فاستشار عمر في ذلك.
فقال بعضهم: أرخ لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: لوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل.
قال: فأرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)).
هذا الأثر إسناده ضعيف فيه حبان بن علي العنزي وهو ضعيف كما في ((التقريب)) الشعبي ولد لست سنين خلت من خلافة عمر بن الخطاب، على المشهور، ولم يأت له سمع من عمر وأبي موسى كما في ترجمته في ((تهذيب الكمال)) في ((التهذيب)).
ثالثا: محمد بن سيرين.
عن محمد بن سيرين قال: قدم رجل من أهل اليمن على عمر فقال: لم لا تؤرخون؟
قال: كيف؟
قال: تكتبون من شهر كذا في سنة كذا.
فنظر القوم في ذلك فأرادوا أن يؤرخوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قالوا: من وفاته ثم ارادوا من الهجرة
فقالوا: من أي شيء؟
فهموا من رمضان ثم بدا لهم أن يجعلوه من المحرم.
أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) ومحمد بن سيرين ولم يأت له سمع من عمر كما في ترجمته في ((التهذيب)).
وفيه عمر بن عبد الله بن عمر لم يتبين حاله وله شاهد أخرجه أيضا ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) قال: أخبرنا أبو غالب بن أحمد وأبو عبد الله يحيى ابنا الحسن قالا نا محمد بن أحمد بن محمد الآبنوسي أنا أبو بكر أحمد بن عبيد بن الفضل إجازة أنا أبو عبد الله الزعفراني أنا ابن أبي خيثمة أنا علي بن محمد عن قرة بن خالد عن ابن سيرين أن رجلا من المسلمين قدم من أرض اليمن فقال لعمر رأيت باليمن شيئا يسمونه التاريخ يكتبون من عام كذا وشهر كذا.
فقال عمر: إن هذا لحسن فأرخوا.
فلما أجمع على أن يؤرخ شاور.
فقال قائل مولد النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال قوم من المبعث وقال قائل حين خرج مهاجرا من مكة وقال قائل الوفاة حين توفي.
فقال أرخوا خروجه من مكة إلى المدينة.
ثم قال: بأي شهر نبدأ فنصيره أول السنة؟
فقالوا: رجب فإن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه.
وقال آخرون: شهر رمضان.
وقال بعضهم: ذو الحجة فيه الحج.
وقال آخرون: الشهر الذي خرج فيه من مكة إلى المدينة.
وقال آخرون: الشهر الذي قدم فيه.
فقال عثمان: أرخوا المحرم أول السنة وهو شهر حرام وهو أول الشهور في العدة وهو منصرف الناس عن الحج.
فصيروا أول السنة المحرم فكان أول ما أرخ في الإسلام من مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال الناس سنة إحدى وسنة اثنتين إلى يومنا هذا أو كان التاريخ في سبع عشرة ويقال في سنة ست عشرة في ربيع الأول.
أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)).
رابعا: ميمون بن مهران.
عن ميمون بن مهران قال وقع إلى عمر رضي الله تعالى عنه صك محله في شعبان فقال عمر أي شعبان هذا الذي مضى أو الذي هو آت أو الذي نحن فيه ثم جمع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال لهم ضعوا للناس شيئا يعرفونه فقال قائل اكتبوا على تاريخ الروم فقيل إنه يطول وإنهم يكتبون من عدد ذي القرنين وقال قائل اكتبوا على تاريخ فارس فقيل إن الفرس كلما قام ملك طرح ما كان قبله فاجتمع رأيهم أن ينظروا كم أقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة فوجدوه أقام بها عشر سنين فكتب أو يكتب التاريخ على هجرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) وسناده فيه ضعف ميمون بن مهران روايته عن عمر مرسله كما في ترجمته في ((تهذيب الكمال)) وفي ((التهذيب)).
خامسا: عبد الرحمن بن المغيرة.
عن عبد الرحمن بن المغيرة قال: كتب عمر التاريخ في شهر ربيع الأول سنة ست عشرة من الهجرة بمشورة علي بن أبي طالب وكان عمر بن الخطاب استشار في التاريخ.
فقال قائل: من النبوة.
وقال قائل: من الهجرة.
وقال قائل: من الوفاة.
أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)).
هذا الأثر فيه أحمد بن سليمان الطوسي لم أجد فيه جرحا ولا تعديلا، وعبد الرحمن بن المغيرة ولم يأت له سمع من عمر وأبي موسى كما في ترجمته في ((تهذيب الكمال)) في ((التهذيب)).
سادسا: محمد بن عمر.
عن محمد بن عمر قال: حج عمر في سنة ست عشرة وخلف على المدينة زيد بن ثابت وفيها كتب التاريخ في شهر ربيع الأول يعني أن في ربيع الأول كتب التاريخ لا أنه جعل ابتداء التاريخ من ربيع الأول وإنما جعل من المحرم.
أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) هذا الأثر إسناده ضعيف محمد بن عمر لم أجد له سماعا من عمر.
سابعا: أبي الزياد.
عن ابن أبي الزياد عن أبيه قال استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة.
أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)).
وعن ابن أبي الزياد عن أبيه أن عمر شاور في التاريخ.
فقائل يقول: من النبوة.
وقائل يقول: من الهجرة.
وقائل يقول: من الوفاة فأجمعوا على الهجرة.
هذا ما وقفت عليه من آثار عن أمير المومنيين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكلها لا تخلو من كلام، غير أنه هذا ما عليه أكثر أهل العلم، ولعل هذه الآثار السبعة يشهد بعضها لبعض.
أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)).
وهذان الأثران في إسنادهما ضعف ابن أبي الزياد وهو يزيد الهاشمي ضعيف.
وقد جاء عن يعلى بن أمية أثرا فيه ضعف أنه من شرع في تأريخ.
أخرج الحاكم في ((المستدرك)) ومن طريقه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) عن عمرو بن دينار قال: (أول من أرخ الكتب يعلى بن أمية وهو باليمن فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في شهر ربيع الأول وأن الناس أرخوا لأول السنة وإنما أرخ الناس لمقدم النبي صلى الله عليه وسلم).
هذا الأثر إسناده ضعيف.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((فتح الباري)): ((وقيل أول من أرخ التاريخ يعلى بن أمية حيث كان باليمن أخرجه أحمد بن حنبل بإسناد صحيح لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلى)) اهـ.
قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله في ((تاريخ دمشق)): ((والمحفوظ أن الآمر بالتاريخ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه)) اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في ((البداية والنهاية)): ((والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الاسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم.
وهذا هو قول جمهور الائمة)) اهـ.
الملخص:
فيما وقفت لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في التأريخ شيء وكل وما وجدت حديثا واحدا، وعن عمر الفاروق وقفت على سبعة آثار لا تخلوا من مقال وبمجموعها يشد بعضها بعضا ويستأنس بما ذهب إليه بعض أهل العلم بأن أول من أرخ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه واتفقوا على التأريخ من السنة الهجرية في شهر المحرم بعدما حصل التشاور وتبادل الآراء وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن التاريخ كان في السنة التي قدم فيها النبي صلى الله عليه وسلم المدينة؛ كما وقفت على أثار يتيم ليعلى بن أمية على ضعف فيه.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه: عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الأربعاء 5 المحرم سنة 1441 هـ
الموافق لـ: 4 سبتمبر سنة 2019 ف
طرابلس الغرب: يوم الأربعاء 5 المحرم سنة 1441 هـ
الموافق لـ: 4 سبتمبر سنة 2019 ف