النص التاريخي المُـوَثّـَق لغـزوة بـَدْر الكبرى
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن وقف زعماء مكة في وجه دعوته ، ونكلوا بأصحابه وأهدروا دمه ، وما إن وصل إلى المدينة حتى أرسلوا إلى أهل يثرب تهديداً يقولون فيه : ((إنكم آويتم صاحبنا ، وإِنَّا نُقْسِم بالله لتُقَاتِلُنَّه أو لَتُخْرِجُنَّه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا ، حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم ))(1).
أخذ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جانب الحَيطة والحذر فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه ، وكان جماعة من الصحابة يتناوبون على حراسة النبي صلى الله عليه وسلم باستمرار(2).
وفي هذه الظروف التي تهدد بقاء المجتمع الإسلامي الجديد أذن الله سبحانه للمسلمين بالقتال للدفاع عن أنفسهم من الخطر المحدق بهم(3) ، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بإرسال السرايا لإشعار المشركين واليهود والمنافقين بقوة المسلمين وقدرتهم على صد أي اعتداء يتعرضون له ، وتهديد قريش في مصدر ثروتها الرئيسي قوافلها التجارية إلى الشام ، واختبار قوة القبائل المحيطة بالمدينة ، ومحاولة كسبها بالموادعة أو المحالفة ..
حققت السرايا والغزوات قبيل بدر كثيراً من أهدافها، فقد حالف النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة جهينة أكبر القبائل المنتشرة غربي المدينة، وأدرك زعماء مكة أن تجارتهم الرئيسية أصبحت في خطر فصاروا يأخذون الحيطة كلما اقتربوا من المنطقة .
وفي جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة الموافق 623م خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائة وخمسين مقاتلاً لاعتراض قافلة كبيرة خرجت من مكة إلى الشام بقيادة أبي سفيان بن حرب ، حتى إذا وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي العُشَيْرَة(4) تبين له أن القافلة تجاوزت إلى الشام، فأقام فيها مدة وادع خلالها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضَمْرَة ورجع إلى المدينة(5) مترقباً عودة القافلة، وبعد مدة أرسل طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد يتحسسان خبرها.
أقامت القافلة في الشام إلى نهاية شعبان، ثم اتجهت إلى مكة، ولما اقتربت من الحجاز صار أبو سفيان رئيس القافلة يتحسس الأخبار ، ويسأل من لقي من الركبان ، فأبلغه بعضهم أن محمداً قد استنفر أصحابه للقافلة وهي ذاهبة إلى الشام، وأنهم الآن يترصدون عودتها للإيقاع بها ، فأرسل ضَمْضَم بن عمرو الغفاري إلى مكة يبلغ قادة قريش بالخطر المحدق بعيرهم طالباً منهم النجدة لإنقاذها(6).
وقبل وصول النذير إلى مكة رأت عاتكة بنت عبد المطلب في المنام أن راكباً أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ، ألا انفروا يا آل غُدَر لمصارعكم في ثلاث ، فاجتمع الناس إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ، فبينما هم حوله وقف به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها ، ألا انفروا يا آل غُدَر لمصارعكم في ثلاث ، ثم وقف به بعيره على جبل أبي قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل تفتتت وانتشرت أجزاؤها فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها قطعة منها .
فشا أمر هذه الرؤيا في مكة حتى تحدثت به قريش في أنديتها , وأصاب العباس بسببها أذى شديد ، حتى قال له أبو جهل مستهزئاً : يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم !!! لقد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يك حقاً ما تقول فسيكون ، وإلا نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب .
وفي اليوم الثالث من رؤيا عاتكة ، أقبل ضَمْضَم بن عمرو الغفاري ، وهو يصرخ في بطن الوادي واقفاً على بعيره قد حوّل رحله ، وشقّ قميصه ، ويقول : يا معشر قريش اللَّطِيْمَة اللَّطِيْمَة(7) أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث( .
فتجهز الناس سراعاً في يومين أو ثلاثة،(9) وأعان قويهم ضعيفهم ، ولم يتخلف أحد من أشرافهم سوى أبي لهب خوفاً من رؤيا عاتكة ، وبني عدي فلم يخرج منهم أحد(10) .
وأراد أمية بن خلف القعود لأن سعد بن معاذ قال له يوماً بمكة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنهم قاتلوك ، قال : بمكة ؟ قال له : لا أدري ، ففزع لذلك أمية وقال : والله لا أخرج من مكة أبداً ، فلم يزل به أبو جهل حتى خرج معهم(11) .
وأكرهوا رجالاً من بني هاشم على الخروج منهم العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وطالب بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب وغيرهم(12) .
وبعد أن تجهزت قريش للخروج تذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر من كنانة من الحرب ، وخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف إن هم خرجوا إلى بدر ، وكاد ذلك الأمر أن يثنيهم عن الخروج لولا أن تبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك ، وكان من أشراف كنانة وقال لهم : أنا جارٌ لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهون(13) .
عند ذلك تحرك جيش المشركين في ألف رجل(14)مئة فرس(15) وعدد كبير من الإبل يقودهم أبو جهل بن هشام ويحمل ألويتهم أبو عزيز بن عمير والنضر بن الحارث وطلحة بن أبي طلحة وكلهم من بني عبد الدار(16) ، ومعهم القيان والدفوف ، حتى إذا وصلوا إلى مر الظهران نحر لهم أبو جهل بن هشام عشراً من الإبل ، ثم انطلقوا في اليوم الثاني حتى إذا وصلوا إلى عسفان(17) نحر لهم أمية بن خلف تسعاً ، وفي قُديد(1نحر لهم سهيل بن عمرو عشراً ، ثم مالوا من قديد إلى مياه نحو البحر أقاموا بها يوماً فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعاً ثم أصبحوا بالجحفة(19) فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشراً(20) وحتى ذلك الوقت لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم شيء من أمر المشركين أو القافلة ،فطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد اللذين أرسلهما يتحسسان خبر القافلة وصلا إلى التجبار من أرض الحوراء(21)، فنزلا على كشد الجهني فأجارهما وأنزلهما في خباء ، وبقيا عنده حتى مرت العير ، وهما ينظران إليها ، وجعل أهل العير يقولون : يا كشد هل رأيت أحداً من عيون محمد ؟ فيقول : وأنى لعيون محمد في التجبار ، فلما راحت العير ، باتا حتى أصبحا ثم خرجا ليخبرا النبي صلى الله عليه وسلم(22).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استبطأ خبرهما ، فأرسل بَسْبَس بن عمرو(23) وعدي ابن أبي الزغباء يتسقطان أخبار القافلة ، فسارا حتى أتيا حياً من جهينة قريباً من ساحل البحر فسألوهم عن العير وعن تجار قريش فأخبروهما بقرب وصولها ، فرجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبراه(24) فندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين للخروج وقال: (( إن لنا طَلِبَة فمن كان ظهره حاضراً فليركب معنا ))(25) فاستأذنه بعض الصحابة أن يجلبوارواحلهم من بعض مناطق المدينة فلم يأذن له(26) واستأذنته أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث في الخروج معه فقال لها:(( قري فإن الله عز وجل يهدي لك شهادة))(27) ، ثم خرج صلى الله عليه وسلم يوم السبت الثاني عشر من رمضان(2،ومعه ثلاثمائة وبضعة عشررجلاً من أصحابه(29) ، واستعمل على الصلاة بالناس عبد الله ابن أم مكتوم ، ولما وصل إلى بئر أبي عنبة توقف(30) واستعرض الجيش فرد من لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره، ومن هؤلاء عبد الله بن عمر والبراء بن عازب(31) وزيد بن ثابت(32) وعمير بن أبي وقاص . فبكى عمير رضي الله عنه فأجازه صلى الله عليه وسلم (33).
ووزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الألوية ، فأعطى اللواء العام لمصعب بن عمير ، ولواء المهاجرين لعلي بن أبي طالب ، ولواء الأنصار لسعد بن معاذ ، وجعل على المؤخرة قيس بن أبي صَعْصَعة النجاري(34) ، وأرسل بسبس بن عمرو الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني طلائع أمامه(35)، وانطلق بجيشه جهة بدر يعتقبون سبعين بعيراً(36) وفرسين ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذلك قائلاً (( اللهم إنهم حفاة فاحملهم ، اللهم إنهم عراة فاكسهم ، اللهم إنهم جياع فأطعمهم )) (37) فخرجوا من نقب المدينة(3 ، وفي حرة الوبرة لحق بالمسلمين رجل صاحب نجدة وجرأة ففرح الصحابة رضي الله عنهم حين رأوه ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئت لأتبعك وأصيب معك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أتؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا قال : فارجع فلن نستعين بمشرك ، ثم تابع النبي صلى الله عليه وسلم سيره على العَقِيق(39) ثم على ذي الحُلَيْفَة(40) ، وهناك أدركه الرجل نفسه ، فقال له كما قال أول مرة ، فرده النبي صلى الله عليه وسلم وقال : فارجع فلن أستعين بمشرك ، ثم تابع النبي صلى الله عليه وسلم سيره حتى إذا كان بأُولات الجيش(41) ، أدركه الرجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : نعم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : فانطلق (42) ومروا بعد ذلك على تُرْبان(43) ، ثم على مَلَل(44) ، ثم على غَمِيس الحمام(45) ، ثم على صُخَيرات اليَمَام(46) ، ثم على السَّيَالة(47) ، ثم على فَجّ الرَّوحَاء(4 ، ثم على شَنُوكَة(49) ، حتى إذا كانوا بعرق الظُبْية(50) لقوا رجلاً من الأعراب ، فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبراً، فقال له بعض الصحابة : سَلِّمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أو فيكم رسول الله ؟ قالوا : نعم ، فسلم عليه ، ثم قال : إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه ، قال له سلمة بن سلامة بن وقش : لا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عليّ فأنا أخبرك بذلك ، نزوت عليها ، ففي بطنها منك سخلة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه ، أفحشت على الرجل ، وأعرض عن سلمة (51).
أما بسبس وعدي ، فانطلقا حتى نزلا بدراً فأخذا شناً لهما يستقيان فيه، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء ، فسمعا جاريتين على الماء تطالب إحداهما الأخرى بدرهم لها عليها ، فقالت لها : إنما العير غداً أو بعد غد فأعمل لهم ثم أقضيك .
قال مجدي : صدقت ، ثم خلص بينهما ، فلما سمع بسبس وعدي ذلك انطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى لقياه بعرق الظبية فأخبراه الخبر(52) .
فتابع النبي صلى الله عليه وسلم سيره جهة بدر ، وفي الطريق نزل عند بئر الروحاء (سَجْسَج ) (53) وهناك رد أبا لبابة واستعمله على المدينة ، ثم تابع سيره حتى إذا كان بالمُنْصَرَف(54) ترك طريق مكة يساراً واتجه يميناً على النَّازِية يريد بدراً(55) وبعد أن سار في ناحية منها قطع وادي رُحْقان(56)بين النَّازية(57) ومضيق الصَّفْراء(5 ، ثم سار على المضيق ثم انصب منه ،فلما استقبل الصَّفْراء(59) وهي قرية بين جبلين سأل عن جبليها ما اسمهما ؟ فقالوا : يقال لأحدهما هذا مسلح وللآخر : هذا مخرئ ، وسأل عن أهلهما فقيل : بنو النار وبنو حراق بطنان من غفار ، فكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما ، وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسار وسلك ذات اليمين على وادي ذَفِرَان(60) فمشى فيه مسافة ثم توقف(61).
وبينما كان جيش مكة يتحرك نحو بدر كان أبو سفيان يواصل سيره بحذر وترقب . وفي اليوم الثاني من وصول بَسْبَس وعدي ماء بدر(62) تقدم أبو سفيان العير حذراً حتى ورد الماء فقال لمجدي بن عمرو : هل أحسست أحداً ؟ فقال : ما رأيت أحداً أنكره إلا أني رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مُناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى ، فقال : هذه والله علائف يثرب ، فرجع إلى أصحابه مسرعاً ، وحول اتجاه القافلة نحو الساحل غرباً،تاركاً بدراً على يساره،(63) حتى إذا اجتاز المنطقة أيقن أنه أفلت من قبضة المسلمين ، فأرسل قيس بن امرئ القيس إلى قريش يخبرهم بنجاة العير ويأمرهم بالرجوع(64).
وصلت رسالة أبي سفيان إلى جيش المشركين وهم بالجُحْفَة والتي يقول فيها : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع أبداً حتى نرد بدراً فنقيم عليه ثلاثاً ، فننحر الجُزُر ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، ويسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها(65).
لكن الأخنس بن شُرَيق حليف بني زهرة قال لهم : يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله ، فاجعلوا جبنها بي وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة لا ما يقول هذا ، يعني أبا جهل ، فرجعوا من الجُحْفة(66) وأرادت بنو هاشم الرجوع معهم فاشتد عليهم أبو جهل ، وقال : والله لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع(67) وتابعت قريش مسيرها إلى بدر ، حتى إذا كانوا بالأبواء نحر لهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشراً ، وفي الطريق بين الأبواء وبدر توقف الجيش ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشراً، وعلى ماء بدر(6 نحر لهم أبو البختري عشراً ، كما نحر لهم مقيس الجمحي في اليوم الذي يليه تسعاً(69).
أما النبي صلى الله عليه وسلم فبعد أن نزل في ذفران أتاه الخبر بإفلات القافلة ومسير قريش إلى بدر ، فاستشار أصحابه ، وكان جماعة من الصحابة كرهوا القتال ، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى : ((كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون )) (70)إلا أن كبار قادة المسلمين وقفوا موقفاً شجاعاً، فقد قام أبو بكر فقال وأحسن ،ثم قام عمر فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله: امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون )) (71) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت إلى بِرْك الغِمَاد(72) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.(73) وأشرق وجه النبي صلى الله عليه وسلم وسرّه قوله ودعا له بخير ، ثم قال صلى الله عليه وسلم أشيروا عليّ أيها الناس , وهو يريد أن يعرف موقف الأنصار ، الذين يمثلون الأغلبية ، وبيعة العقبة لا تلزمهم بالقتال خارج ديارهم(74) وفطن إلى ذلك قائد الأنصار سعد بن معاذرضي الله عنه فقال : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل . فقال : قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فنحن معك ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصُبرٌ في الحرب ، صُدُق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسرْ بنا على بركة الله(75).
سر الرسول صلى الله عليه وسلم بقول سعد ثم قال : سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم(76).
ثم تابع النبي صلى الله عليه وسلم سيره من ذفران إلى بدر فسلك على ثنايا الأصافِر(77) ثم انحط منها إلى الدَّبَّة(7 وترك كثيب الحَنَّان(79) على يمينه ثم نزل قريباً من بدر(80).
وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ، لاستكشاف المنطقة ، حتى وقف على شيخ من العرب(81) فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم ، فقال الشيخ : لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك ، قال : أو ذاك بذاك ؟ قال : نعم : قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به المسلمون ، وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش ، ثم قال : ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن من ماء ، ثم رجع إلى أصحابه ، والشيخ يقول : ما من ماء ؟ أمن ماء العراق (82)؟
وفي المساء بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من الصحابة إلى ماء بدر يلتمسون له أخبار العدو ، فوجدوا على الماء غلماناً يستقون الماء لقريش فأخذوا اثنين منهما وفر الباقون ، فسألوهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فقالا : نحن سقاة قريش ، فكره القوم ذلك ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما حتى اضطر الغلامان أن يقولا : نحن لأبي سفيان ، فتركوهما ، ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاته قال : إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموها ، صدقا والله إنهما لقريش ، ثم سألهما النبي صلى الله عليه وسلم عن قريش قالا : هم والله وراء هذا الكثيب الذي بالعدوة القصوى ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : كم القوم ؟ قالا: كثير ، قال : وما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القوم فيما بين التسعمائة والألف ، ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش : قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وغيرهم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه مكة ألقت إليكم أفلاذ كبدها (83). وفي تلك الليلة أنزل الله عز وجل مطراً كان على المسلمين رحمة طهرهم به ، وعبد لهم الأرض ، وربط به على قلوبهم ، وكان على المشركين وابلاً شديداً أعاقهم عن التقدم(84) .
وفي اليوم التالي تقدم النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه ، فنزل أول ماء من مياه بدر ، فقال الحباب بن المنذر : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، قال : يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي ، فنهض النبي صلى الله عليه وسلم بالجيـش وصنع ما أشــار به الحبــاب (85) . وبعد أن استقر المسلمون في المكان ، قال سعد بن معاذ : يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا ، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك ، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير(86) وبنى المســلمون عريشـاً من جريد (87) في مكان مرتفع يشرف على ساحة المعركة ، ومشى الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى ساحة المعركة ، وجعل يضع يده على الأرض ويقول : هذا مصرع فلان ، هذا مصرع فلان ، قال : فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم(8.
بات النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة قائماً يصلي إلى جذع شجرة يدعو ويبكي حتى أصبح(89) بينما غشي الصحابة النعاس أمنة منه سبحانه(90)، وأخذوا من الراحة قسطهم .
أما قريش فقضت ليلتها في معسكرها بالعدوة القصوى ، ثم أقبلت في الصباح ، ونزلت من الكثيب إلى الوادي ، فلما رآها صلى الله عليه وسلم قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحْنِهم الغداة(91).
وبينما قريش تنزل من الكثيب رأى الرسول صلى الله عليه وسلم عُتْبَة بن رَبِيعة على جمل أحمر فقال : إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشــدوا(92) .
وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف المسلمين ، وبيده قدح(93) ، فمر بسَوَاد بن غَزِيَّة حليف بني عدي ، وهو متقدم على الصف فطعن في بطنه بالقدح ، وقال : استو يا سواد فقال : يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني ، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال : استقد ، فاعتنقه وقبل بطنه ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال يا رسول الله : حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك ، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بخير(94).
ولما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من تعديل الصفوف أمر أصحابه ألا يحملوا على المشركين حتى يأمرهم(95) ، و قال : إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل(96) ، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم ، ونهاهم عن قتل رجال من قريش وقال لهم : إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله ، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرهاً(97).
رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العريش مع أبي بكر يدعو ربه ويقول : اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم (9 ، وقام سعد بن معاذ في جماعة على باب العريش يحرسونه صلى الله عليه وسلم. أما قريش فبعد أن أخذت موقعها بعثت عمير بن وهب الجمحي للتعرف على جيش المسلمين، فدار عمير بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال : هم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون ، ولكن أمهلوني أنظر أللقوم كمين أو مدد ؟ فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئاً فرجع إليهم فقال : ما وجدت شيئاً ولكني رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا ،نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يَقتَل رجلاً منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العــيش بعد ذلك فرَوْارأيكم. (99)، ولما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى إلى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها ، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر .قال : وما ذلك يا حكيم ؟ قال : ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي ، قال : قد فعلت ، إنما هو حليفي فعلي عقله ، وما أصيب من ماله ، فأت ابن الحنظلية (100) فإني لا أخشى أن يشجر(101) أمر الناس غيره ، يعني أبا جهل بن هشام ، ثم قام عتبة بن ربيعة خطيباً، فقال : يا معشر قريش ، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً ، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه ، أو ابن خاله ، أو رجلاً من عشيرته ، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا(102) منه ما تريدون. (103).
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن وقف زعماء مكة في وجه دعوته ، ونكلوا بأصحابه وأهدروا دمه ، وما إن وصل إلى المدينة حتى أرسلوا إلى أهل يثرب تهديداً يقولون فيه : ((إنكم آويتم صاحبنا ، وإِنَّا نُقْسِم بالله لتُقَاتِلُنَّه أو لَتُخْرِجُنَّه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا ، حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم ))(1).
أخذ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جانب الحَيطة والحذر فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه ، وكان جماعة من الصحابة يتناوبون على حراسة النبي صلى الله عليه وسلم باستمرار(2).
وفي هذه الظروف التي تهدد بقاء المجتمع الإسلامي الجديد أذن الله سبحانه للمسلمين بالقتال للدفاع عن أنفسهم من الخطر المحدق بهم(3) ، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بإرسال السرايا لإشعار المشركين واليهود والمنافقين بقوة المسلمين وقدرتهم على صد أي اعتداء يتعرضون له ، وتهديد قريش في مصدر ثروتها الرئيسي قوافلها التجارية إلى الشام ، واختبار قوة القبائل المحيطة بالمدينة ، ومحاولة كسبها بالموادعة أو المحالفة ..
حققت السرايا والغزوات قبيل بدر كثيراً من أهدافها، فقد حالف النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة جهينة أكبر القبائل المنتشرة غربي المدينة، وأدرك زعماء مكة أن تجارتهم الرئيسية أصبحت في خطر فصاروا يأخذون الحيطة كلما اقتربوا من المنطقة .
وفي جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة الموافق 623م خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائة وخمسين مقاتلاً لاعتراض قافلة كبيرة خرجت من مكة إلى الشام بقيادة أبي سفيان بن حرب ، حتى إذا وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي العُشَيْرَة(4) تبين له أن القافلة تجاوزت إلى الشام، فأقام فيها مدة وادع خلالها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضَمْرَة ورجع إلى المدينة(5) مترقباً عودة القافلة، وبعد مدة أرسل طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد يتحسسان خبرها.
أقامت القافلة في الشام إلى نهاية شعبان، ثم اتجهت إلى مكة، ولما اقتربت من الحجاز صار أبو سفيان رئيس القافلة يتحسس الأخبار ، ويسأل من لقي من الركبان ، فأبلغه بعضهم أن محمداً قد استنفر أصحابه للقافلة وهي ذاهبة إلى الشام، وأنهم الآن يترصدون عودتها للإيقاع بها ، فأرسل ضَمْضَم بن عمرو الغفاري إلى مكة يبلغ قادة قريش بالخطر المحدق بعيرهم طالباً منهم النجدة لإنقاذها(6).
وقبل وصول النذير إلى مكة رأت عاتكة بنت عبد المطلب في المنام أن راكباً أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ، ألا انفروا يا آل غُدَر لمصارعكم في ثلاث ، فاجتمع الناس إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ، فبينما هم حوله وقف به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها ، ألا انفروا يا آل غُدَر لمصارعكم في ثلاث ، ثم وقف به بعيره على جبل أبي قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل تفتتت وانتشرت أجزاؤها فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها قطعة منها .
فشا أمر هذه الرؤيا في مكة حتى تحدثت به قريش في أنديتها , وأصاب العباس بسببها أذى شديد ، حتى قال له أبو جهل مستهزئاً : يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم !!! لقد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يك حقاً ما تقول فسيكون ، وإلا نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب .
وفي اليوم الثالث من رؤيا عاتكة ، أقبل ضَمْضَم بن عمرو الغفاري ، وهو يصرخ في بطن الوادي واقفاً على بعيره قد حوّل رحله ، وشقّ قميصه ، ويقول : يا معشر قريش اللَّطِيْمَة اللَّطِيْمَة(7) أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث( .
فتجهز الناس سراعاً في يومين أو ثلاثة،(9) وأعان قويهم ضعيفهم ، ولم يتخلف أحد من أشرافهم سوى أبي لهب خوفاً من رؤيا عاتكة ، وبني عدي فلم يخرج منهم أحد(10) .
وأراد أمية بن خلف القعود لأن سعد بن معاذ قال له يوماً بمكة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنهم قاتلوك ، قال : بمكة ؟ قال له : لا أدري ، ففزع لذلك أمية وقال : والله لا أخرج من مكة أبداً ، فلم يزل به أبو جهل حتى خرج معهم(11) .
وأكرهوا رجالاً من بني هاشم على الخروج منهم العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وطالب بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب وغيرهم(12) .
وبعد أن تجهزت قريش للخروج تذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر من كنانة من الحرب ، وخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف إن هم خرجوا إلى بدر ، وكاد ذلك الأمر أن يثنيهم عن الخروج لولا أن تبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك ، وكان من أشراف كنانة وقال لهم : أنا جارٌ لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهون(13) .
عند ذلك تحرك جيش المشركين في ألف رجل(14)مئة فرس(15) وعدد كبير من الإبل يقودهم أبو جهل بن هشام ويحمل ألويتهم أبو عزيز بن عمير والنضر بن الحارث وطلحة بن أبي طلحة وكلهم من بني عبد الدار(16) ، ومعهم القيان والدفوف ، حتى إذا وصلوا إلى مر الظهران نحر لهم أبو جهل بن هشام عشراً من الإبل ، ثم انطلقوا في اليوم الثاني حتى إذا وصلوا إلى عسفان(17) نحر لهم أمية بن خلف تسعاً ، وفي قُديد(1نحر لهم سهيل بن عمرو عشراً ، ثم مالوا من قديد إلى مياه نحو البحر أقاموا بها يوماً فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعاً ثم أصبحوا بالجحفة(19) فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشراً(20) وحتى ذلك الوقت لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم شيء من أمر المشركين أو القافلة ،فطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد اللذين أرسلهما يتحسسان خبر القافلة وصلا إلى التجبار من أرض الحوراء(21)، فنزلا على كشد الجهني فأجارهما وأنزلهما في خباء ، وبقيا عنده حتى مرت العير ، وهما ينظران إليها ، وجعل أهل العير يقولون : يا كشد هل رأيت أحداً من عيون محمد ؟ فيقول : وأنى لعيون محمد في التجبار ، فلما راحت العير ، باتا حتى أصبحا ثم خرجا ليخبرا النبي صلى الله عليه وسلم(22).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استبطأ خبرهما ، فأرسل بَسْبَس بن عمرو(23) وعدي ابن أبي الزغباء يتسقطان أخبار القافلة ، فسارا حتى أتيا حياً من جهينة قريباً من ساحل البحر فسألوهم عن العير وعن تجار قريش فأخبروهما بقرب وصولها ، فرجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبراه(24) فندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين للخروج وقال: (( إن لنا طَلِبَة فمن كان ظهره حاضراً فليركب معنا ))(25) فاستأذنه بعض الصحابة أن يجلبوارواحلهم من بعض مناطق المدينة فلم يأذن له(26) واستأذنته أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث في الخروج معه فقال لها:(( قري فإن الله عز وجل يهدي لك شهادة))(27) ، ثم خرج صلى الله عليه وسلم يوم السبت الثاني عشر من رمضان(2،ومعه ثلاثمائة وبضعة عشررجلاً من أصحابه(29) ، واستعمل على الصلاة بالناس عبد الله ابن أم مكتوم ، ولما وصل إلى بئر أبي عنبة توقف(30) واستعرض الجيش فرد من لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره، ومن هؤلاء عبد الله بن عمر والبراء بن عازب(31) وزيد بن ثابت(32) وعمير بن أبي وقاص . فبكى عمير رضي الله عنه فأجازه صلى الله عليه وسلم (33).
ووزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الألوية ، فأعطى اللواء العام لمصعب بن عمير ، ولواء المهاجرين لعلي بن أبي طالب ، ولواء الأنصار لسعد بن معاذ ، وجعل على المؤخرة قيس بن أبي صَعْصَعة النجاري(34) ، وأرسل بسبس بن عمرو الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني طلائع أمامه(35)، وانطلق بجيشه جهة بدر يعتقبون سبعين بعيراً(36) وفرسين ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذلك قائلاً (( اللهم إنهم حفاة فاحملهم ، اللهم إنهم عراة فاكسهم ، اللهم إنهم جياع فأطعمهم )) (37) فخرجوا من نقب المدينة(3 ، وفي حرة الوبرة لحق بالمسلمين رجل صاحب نجدة وجرأة ففرح الصحابة رضي الله عنهم حين رأوه ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئت لأتبعك وأصيب معك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أتؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا قال : فارجع فلن نستعين بمشرك ، ثم تابع النبي صلى الله عليه وسلم سيره على العَقِيق(39) ثم على ذي الحُلَيْفَة(40) ، وهناك أدركه الرجل نفسه ، فقال له كما قال أول مرة ، فرده النبي صلى الله عليه وسلم وقال : فارجع فلن أستعين بمشرك ، ثم تابع النبي صلى الله عليه وسلم سيره حتى إذا كان بأُولات الجيش(41) ، أدركه الرجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : نعم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : فانطلق (42) ومروا بعد ذلك على تُرْبان(43) ، ثم على مَلَل(44) ، ثم على غَمِيس الحمام(45) ، ثم على صُخَيرات اليَمَام(46) ، ثم على السَّيَالة(47) ، ثم على فَجّ الرَّوحَاء(4 ، ثم على شَنُوكَة(49) ، حتى إذا كانوا بعرق الظُبْية(50) لقوا رجلاً من الأعراب ، فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبراً، فقال له بعض الصحابة : سَلِّمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أو فيكم رسول الله ؟ قالوا : نعم ، فسلم عليه ، ثم قال : إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه ، قال له سلمة بن سلامة بن وقش : لا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عليّ فأنا أخبرك بذلك ، نزوت عليها ، ففي بطنها منك سخلة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه ، أفحشت على الرجل ، وأعرض عن سلمة (51).
أما بسبس وعدي ، فانطلقا حتى نزلا بدراً فأخذا شناً لهما يستقيان فيه، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء ، فسمعا جاريتين على الماء تطالب إحداهما الأخرى بدرهم لها عليها ، فقالت لها : إنما العير غداً أو بعد غد فأعمل لهم ثم أقضيك .
قال مجدي : صدقت ، ثم خلص بينهما ، فلما سمع بسبس وعدي ذلك انطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى لقياه بعرق الظبية فأخبراه الخبر(52) .
فتابع النبي صلى الله عليه وسلم سيره جهة بدر ، وفي الطريق نزل عند بئر الروحاء (سَجْسَج ) (53) وهناك رد أبا لبابة واستعمله على المدينة ، ثم تابع سيره حتى إذا كان بالمُنْصَرَف(54) ترك طريق مكة يساراً واتجه يميناً على النَّازِية يريد بدراً(55) وبعد أن سار في ناحية منها قطع وادي رُحْقان(56)بين النَّازية(57) ومضيق الصَّفْراء(5 ، ثم سار على المضيق ثم انصب منه ،فلما استقبل الصَّفْراء(59) وهي قرية بين جبلين سأل عن جبليها ما اسمهما ؟ فقالوا : يقال لأحدهما هذا مسلح وللآخر : هذا مخرئ ، وسأل عن أهلهما فقيل : بنو النار وبنو حراق بطنان من غفار ، فكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما ، وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسار وسلك ذات اليمين على وادي ذَفِرَان(60) فمشى فيه مسافة ثم توقف(61).
وبينما كان جيش مكة يتحرك نحو بدر كان أبو سفيان يواصل سيره بحذر وترقب . وفي اليوم الثاني من وصول بَسْبَس وعدي ماء بدر(62) تقدم أبو سفيان العير حذراً حتى ورد الماء فقال لمجدي بن عمرو : هل أحسست أحداً ؟ فقال : ما رأيت أحداً أنكره إلا أني رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مُناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى ، فقال : هذه والله علائف يثرب ، فرجع إلى أصحابه مسرعاً ، وحول اتجاه القافلة نحو الساحل غرباً،تاركاً بدراً على يساره،(63) حتى إذا اجتاز المنطقة أيقن أنه أفلت من قبضة المسلمين ، فأرسل قيس بن امرئ القيس إلى قريش يخبرهم بنجاة العير ويأمرهم بالرجوع(64).
وصلت رسالة أبي سفيان إلى جيش المشركين وهم بالجُحْفَة والتي يقول فيها : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع أبداً حتى نرد بدراً فنقيم عليه ثلاثاً ، فننحر الجُزُر ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، ويسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها(65).
لكن الأخنس بن شُرَيق حليف بني زهرة قال لهم : يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله ، فاجعلوا جبنها بي وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة لا ما يقول هذا ، يعني أبا جهل ، فرجعوا من الجُحْفة(66) وأرادت بنو هاشم الرجوع معهم فاشتد عليهم أبو جهل ، وقال : والله لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع(67) وتابعت قريش مسيرها إلى بدر ، حتى إذا كانوا بالأبواء نحر لهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشراً ، وفي الطريق بين الأبواء وبدر توقف الجيش ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشراً، وعلى ماء بدر(6 نحر لهم أبو البختري عشراً ، كما نحر لهم مقيس الجمحي في اليوم الذي يليه تسعاً(69).
أما النبي صلى الله عليه وسلم فبعد أن نزل في ذفران أتاه الخبر بإفلات القافلة ومسير قريش إلى بدر ، فاستشار أصحابه ، وكان جماعة من الصحابة كرهوا القتال ، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى : ((كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون )) (70)إلا أن كبار قادة المسلمين وقفوا موقفاً شجاعاً، فقد قام أبو بكر فقال وأحسن ،ثم قام عمر فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله: امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون )) (71) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت إلى بِرْك الغِمَاد(72) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.(73) وأشرق وجه النبي صلى الله عليه وسلم وسرّه قوله ودعا له بخير ، ثم قال صلى الله عليه وسلم أشيروا عليّ أيها الناس , وهو يريد أن يعرف موقف الأنصار ، الذين يمثلون الأغلبية ، وبيعة العقبة لا تلزمهم بالقتال خارج ديارهم(74) وفطن إلى ذلك قائد الأنصار سعد بن معاذرضي الله عنه فقال : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل . فقال : قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فنحن معك ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصُبرٌ في الحرب ، صُدُق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسرْ بنا على بركة الله(75).
سر الرسول صلى الله عليه وسلم بقول سعد ثم قال : سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم(76).
ثم تابع النبي صلى الله عليه وسلم سيره من ذفران إلى بدر فسلك على ثنايا الأصافِر(77) ثم انحط منها إلى الدَّبَّة(7 وترك كثيب الحَنَّان(79) على يمينه ثم نزل قريباً من بدر(80).
وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ، لاستكشاف المنطقة ، حتى وقف على شيخ من العرب(81) فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم ، فقال الشيخ : لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك ، قال : أو ذاك بذاك ؟ قال : نعم : قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به المسلمون ، وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش ، ثم قال : ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن من ماء ، ثم رجع إلى أصحابه ، والشيخ يقول : ما من ماء ؟ أمن ماء العراق (82)؟
وفي المساء بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من الصحابة إلى ماء بدر يلتمسون له أخبار العدو ، فوجدوا على الماء غلماناً يستقون الماء لقريش فأخذوا اثنين منهما وفر الباقون ، فسألوهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فقالا : نحن سقاة قريش ، فكره القوم ذلك ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما حتى اضطر الغلامان أن يقولا : نحن لأبي سفيان ، فتركوهما ، ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاته قال : إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموها ، صدقا والله إنهما لقريش ، ثم سألهما النبي صلى الله عليه وسلم عن قريش قالا : هم والله وراء هذا الكثيب الذي بالعدوة القصوى ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : كم القوم ؟ قالا: كثير ، قال : وما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القوم فيما بين التسعمائة والألف ، ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش : قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وغيرهم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه مكة ألقت إليكم أفلاذ كبدها (83). وفي تلك الليلة أنزل الله عز وجل مطراً كان على المسلمين رحمة طهرهم به ، وعبد لهم الأرض ، وربط به على قلوبهم ، وكان على المشركين وابلاً شديداً أعاقهم عن التقدم(84) .
وفي اليوم التالي تقدم النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه ، فنزل أول ماء من مياه بدر ، فقال الحباب بن المنذر : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، قال : يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي ، فنهض النبي صلى الله عليه وسلم بالجيـش وصنع ما أشــار به الحبــاب (85) . وبعد أن استقر المسلمون في المكان ، قال سعد بن معاذ : يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا ، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك ، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير(86) وبنى المســلمون عريشـاً من جريد (87) في مكان مرتفع يشرف على ساحة المعركة ، ومشى الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى ساحة المعركة ، وجعل يضع يده على الأرض ويقول : هذا مصرع فلان ، هذا مصرع فلان ، قال : فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم(8.
بات النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة قائماً يصلي إلى جذع شجرة يدعو ويبكي حتى أصبح(89) بينما غشي الصحابة النعاس أمنة منه سبحانه(90)، وأخذوا من الراحة قسطهم .
أما قريش فقضت ليلتها في معسكرها بالعدوة القصوى ، ثم أقبلت في الصباح ، ونزلت من الكثيب إلى الوادي ، فلما رآها صلى الله عليه وسلم قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحْنِهم الغداة(91).
وبينما قريش تنزل من الكثيب رأى الرسول صلى الله عليه وسلم عُتْبَة بن رَبِيعة على جمل أحمر فقال : إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشــدوا(92) .
وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف المسلمين ، وبيده قدح(93) ، فمر بسَوَاد بن غَزِيَّة حليف بني عدي ، وهو متقدم على الصف فطعن في بطنه بالقدح ، وقال : استو يا سواد فقال : يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني ، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال : استقد ، فاعتنقه وقبل بطنه ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال يا رسول الله : حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك ، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بخير(94).
ولما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من تعديل الصفوف أمر أصحابه ألا يحملوا على المشركين حتى يأمرهم(95) ، و قال : إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل(96) ، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم ، ونهاهم عن قتل رجال من قريش وقال لهم : إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله ، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرهاً(97).
رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العريش مع أبي بكر يدعو ربه ويقول : اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم (9 ، وقام سعد بن معاذ في جماعة على باب العريش يحرسونه صلى الله عليه وسلم. أما قريش فبعد أن أخذت موقعها بعثت عمير بن وهب الجمحي للتعرف على جيش المسلمين، فدار عمير بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال : هم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون ، ولكن أمهلوني أنظر أللقوم كمين أو مدد ؟ فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئاً فرجع إليهم فقال : ما وجدت شيئاً ولكني رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا ،نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يَقتَل رجلاً منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العــيش بعد ذلك فرَوْارأيكم. (99)، ولما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى إلى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها ، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر .قال : وما ذلك يا حكيم ؟ قال : ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي ، قال : قد فعلت ، إنما هو حليفي فعلي عقله ، وما أصيب من ماله ، فأت ابن الحنظلية (100) فإني لا أخشى أن يشجر(101) أمر الناس غيره ، يعني أبا جهل بن هشام ، ثم قام عتبة بن ربيعة خطيباً، فقال : يا معشر قريش ، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً ، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه ، أو ابن خاله ، أو رجلاً من عشيرته ، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا(102) منه ما تريدون. (103).
تعليق