ذكرياتــي مع الشَّيخ مُحمَّد نَاصِر الدِّين الأَلبَانــي
بقلم :
بقلم :
الشَّيخ الدكتور أبي عبد الباري رضا بن خالد بوشامة - حفظه الله
أستاذ بكلية العلُّوم الإسلامية - بجامعة الجزائر.
بسم الله الرحمن الرحيم
كان ذلك في أيَّام حجِّ سنة 1410 هـــ وهي السَّنة الَّتي أنهيت فيها دراستــي الثَّانوية بالمعهد الثَّانوي بالجامعة الإسلاميَّة ، وهي أوَّل حجَّة حججتها .
بعد أن وصلت إلى مكَّة المكَّرمة - شرَّفها الله – استضافني أحد الطَّلبة الجزائريِّين في مسكنه الجامعي بالعزيزيَّة فتركت عنده أغراضي استعدادًا للسَّفر الحجِّ .
وكان طرق مسامعنا أنَّ الشَّيخ الألباني حاجٌّ هذه السنَّة .
وفي اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة انطلقت إلى منـى ضحى ، وقدَّر الله أن التقيت زميلي الدُّكتور جمال عزون وكان آنذاك طالبًا في كليَّة الحديث الشَّريف .
فنمى إليَّ أو نميت إليه خبر قدوم الشَّيخ وكلانا يبحث عن مكان وجوده
لكن لا أحد منَّا اهتدى إلى ذلك ، إلاَّ أنَّ الأخ جمالاً كان في حوزته رقم هاتف أحد أصهار الشَّيخ فبحثنا عن هاتف عمومي [ ولم يكن يومئذ جوَّالات ] فاتَّصل فأخبرونا أنَّ الشَّيخ في مكان يسمَّى الرّبوة في منًى ، ومنَى كلُّها فِجاج .
فبدأنا رحلة البحث عن الشَّيخ ، نسأل هنا وهناك ، ونتسمَّع أصوات المدرِّسين والمرشدين في الخيم لعلنَّا نظفر بصوت يشبه صوت الشَّيخ .
فمن ضحى ذاك اليوم ونحن نبحث إلى أن وصلنا إلى المكان الَّذي يسمَّى الرّبوة بعد المغرب ، فالتقينا ببعض الشَّباب من طلبة العلم من أهل المدينة كنت على معرفة بهم فسألناهم عن الشَّيخ ، فوجَّهونا إلى مكان وجوده .
فعند اقترابنا من المخيِّم إذا بصوت الشَّيخ ينبعث منه فتذكَّرت تلك الأشرطة الَّتي كنَّا نستمع إليها قبل جلوسنا عنده ، وتعجَّبت من أولئك الشَّباب الَّذين بَقَوْا في مخيِّمهم وهم على علم بمكان الشَّيخ ، إلاَّ أنَّهم لم يكونوا على معرفة بقدره وفضله وعلمه .
دخلنا المخيَّم فإذا بالشَّيخ جالس على كرسي يلقي درسًا على حجَّاج ذاك المخيَّم ، فجلسنا نستمع إلى كلامه ، وكلنَّا فرح وسرور بلقائه ، خاصَّة إذا أيقنت حقيقةً لا خيالاً أنَّك تحجُّ حجَّتك الأولى مع عالم زمانه ومحدِّث عصره ، وسترى تطبيق ما كتبه عن المناسك تطبيقًا فعليًّا عسى أن تحظى بحجَّة كما حجَّها النَّبــيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
بعد أن أنهى الشَّيخ كلمته أجاب عن الأسئلة ، ثمَّ دخل خيمته المخصَّصة له داخل الخيمة الكبيرة ، وهي محتوية على سرير وفراش للشَّيخ وبعض الأمور الَّتي يستعين بها على الوضوء وغيره .
تشاورت مع أخي جمال وقلنا لابدَّ من البقاء مع الشَّيخ طوال حجَّة .
فما كان إلاَّ أن استئذنَّا في البقاء مع أهل المخيَّم وغالبهم من الأردن أن لم يكن كلَّهم ، وكان برفقة الشَّيخ مجموعة من تلاميذه من أهل الأردن وغيرهم ، فأذنوا بذلك جزاهم الله خيرًا ، ففرحنا بذلك وبقينا في المخيَّم نتعرَّف على بعض طلاَّب العلم من طلبة الشَّيخ ، وممَّن تعرفنَّا عليه وقرَّبنا إليه مسجِّلُ أشرطة الشَّيخ أبو ليلى الأثري ، فكان يسجِّل للشَّيخ تلك الحلقات ، وكنت أحمل معي أيضًا مسجِّلاً فصرت أسجل للشَّيخ كما يسجِّل .
وفي اليوم التَّالي وهو يوم عرفة ، بدأ التَّهيُّؤ للصعود إلى عرفة ركب الشَّيخ سيَّارة خاصَّة مع صهره وأبي ليلي ، وركبنا حافلة صغيرة مع طلبة الشَّيخ ، ولـمَّا وصلنا إلى عرفة أخذ كلٌّ منَّا مكانه في الخيمة المخصَّصة للحملة ، وجلست قريبًا من الشَّيخ أرقب ما يصنع في هذا اليوم ، فرأيت فيه الاتِّباع للسُّنَّة والاجتهاد في العبادة ما لم نكن نسمعه عن الشَّيخ ، فلم يزل يذكر الله تعالى ويكبره ويعظمه ، بل قد يستلقي أحدنا من شدَّة التَّعب والحرارة [ ولم يكن يومئذ مكيِّفات في الخيم ] والشَّيخ باق على ذكره ، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويرشد المخطئ ، إذا رأى شخصًا يقرأ في كتاب الله نصحه بالذِّكر الوارد في هذا اليوم لأنَّه أفضل من قراءة القرآن ، ويأتيه السَّائل يسأله فيجيب الشَّيخ عن سؤاله ، وأذكر أنَّه جاءه أحد العمَّال المصريِّين وكان يشتغل في نصب خيام الحجاج ، وبدا له أن يحجَّ في ذاك اليوم ، فاستفسر منه الشَّيخ هل النِّيَّة عقدها ذاك اليوم أم قبله ؟ فأجابه بأنَّه لما رأى الحجيج أراد أن يحجَّ ونواه ، فأمره الشَّيخ أن يلبِّــي بالحجِّ ويحرم من مكانه .
وكان الشَّيخ يؤتــي له في بعض الأحيان بالحلو البارد [ البطِّيخ ] فكان يطعمني منه - جزاه الله خيرًا – لأنَّني كنت أقرب النَّاس مجلسًا منه في ذاك اليوم ، ويعلم الله كم تأثَّرت بكثرة عبادته وذكره ، خلاف ما يشاع عنه أنَّه يعني فقط الأسانيد ولا اجتهاد له في العبادة ، { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }[ فاطر :28 ] .
وفي مغرب ذاك اليوم وعند النُّفرة ركب الشَّيخ سيارته وركبنا معه الحافلة المخصَّصة لنا ، وكان الزِّحام شديدًا ، فالتقينا ببعض أهل اليمن يركبون حافلة لهم فبلَّغوا سلام الشَّيخ مقبل رحمه الله للشَّيخ الألباني وهو بدوره أمرهم بتبليغ سلامه للشَّيخ مقبل كثيرًا .
وفي اليوم التَّالي وهو يوم النَّفر من مزدلفة إلى منى فقدنا سيارة الشَّيخ فافترقنا ، وقمنا بإعمال الحجِّ في ذاك اليوم دون أن نكون مع الشَّيخ وتحسَّرنا كما تحسَّر من كان معنا من تلامذته .
وبعد أن أدينا المناسك رجعنا إلى الخيمة في منى والتقينا بالشَّيخ مرَّة أخرى ، فرحب كعادته وسأل عن أوضاعنا وحجّنا جزاه الله خيرًا .
وفي اليوم الأوَّل من أيَّام التَّشريق رَافَقْنَا الشَّيخ إلى المذبح لأداء نسك الذَّبح مع صهره بسيَّارته الخاصَّة ورافقنا أبو ليلي ورجل من أهل مكَّة ممَّن يعرف الشَّيخ ، وذبح الشَّيخ كبشًا أقرن أملح من أجود الغنم وهو ما يسمَّى بالحرِّي ، أمَّا أنا وأخي جمال فبحكم كوننا من طلبة الجامعة الإسلاميَّة اكتفينا بأقلِّ الغنم ثمنًا ، ولما رآهما الشَّيخ دعا لنا بالبركة فيهما .
وفي موضع النَّحر دخلنا مع الشَّيخ وصهره والرَّجل المكِّي ، وحدث أن شرد جمل بين الإبل كاد أن يصدمنا فتفرَّق النَّاس يمينًا وشمالاً ، ولــمَّا رجعت إلى الشَّيخ أصابت ثيابي دماء النَّحر والذَّبح فلمَّا رآني الشَّيخ تمثَّل لي بالمثل السُّوري : " يلِّي بدو يلعب مع القط بدو يتحمل خراميشو "
وعند العودة إلى المخيَّم اغتنمت فرصة الانفراد بالشَّيخ ، فأخبرته أنَّني أحبُّه في الله ، فردَّ عليَّ بما جاءت به السُّنَّة .
وفي اليوم ذاته أرسلت ابنة الشَّيخ وهي من أهل جدَّة – فيما أذكر – كبد الشَّاة الَّتي ذبحها ، فأطعمنا منها بيده وشرب من مرقها وكان يحبُّه .
وفي أيَّام التَّشريق كان الشَّيخ يصلِّي بنا ويدرس بعد الفجر ، ويبقى في درسه حتَّى يرى بعض الرُّؤوس تتطأطأ ، فهنا يوقف درسه ويتَّجه إلى خيمته الخاصَّة ، وكنت أجلس بجانبه أستمع لدروسه وفوائده ، ثمَّ بعد ذلك يُؤذن لنا بدخول الخيمة الخاصَّة أنا وأخي جمال إذ أصبحنا من خاصَّته ، ويتوافد عليه الكثير ممَّن سمع بالشَّيخ من الدَّكاترة والمشايخ وأهل العلم ، فكانت لقاءات ومناقشات داخل خيمته ولا يؤذن إلاَّ للبعض ، أمَّا أنا وجمال فلم نكن نحتاج إلى إذن ، خاصَّة أنَّنا بقينا مع الشَّيخ من اليوم الثَّامن ، فَعَرَفَنَا – جزاه الله خيرًا - ، وعرفنا من كان يقوم على خدمته أمثال أبي ليلي الَّذي كان كالحاجب إلاَّ أنَّه يُغلب على أمره من كثرة الزُّوار ، حتَّى قال له الشَّيخ مرَّةً : إنَّا وضعناك حاجب النَّاس ، لكن لم تقدر على ذلك أو كلمةً نحوها ، ويسأل أين الحاج من كثرة الزِّحام عليه فلا يكاد يتخلَّص منهم إلاَّ بعد عناءٍ ومشقَّةٍ .
بل طلب منِّــي أبو ليلى مساعدته في خدمة الشَّيخ ، وكنت سعيدًا جدًّا بذلك ، حيث جلست عن يسار الشَّيخ وأبو ليلى عن يمينه ، فيقبض بيدي وأقبض بيده والشَّيخ متَّكئ على ساعدي وساعده ، ويحدث النَّاس ويجيب عن أسئلتهم واستفساراتهم ، فيبقى الوقت الطَّويل على ذلك ، كنت أحسُّ بثقل في ساعدي ويدي لكن لم أتمكَّن من إظهار ذلك احترامًا للشَّيخ وتقديرًا له .
ومرَّت الأيَّام الثَّلاثة على ذلك ، دروس بعد الفجر لأهل الحملة ، حتَّى إذا شَعَرَ الشَّيخ أنَّ بتعب جلسائه وحاجتهم إلى النَّوم ، استأذن ودخل خيمته ، فأفاد فيها من يأتيه من الزُّوَّار
وأذكر في هذه الأيَّام أنِّي رأيت عجبًا من حلم الشَّيخ وصبره ، إذ أتاه رجل كبير السِّنِّ عليه مظاهر البداوة أمسك الشَّيخ من ثوبه ليسأله ، فتلطَّف الشَّيخ معه وقال له : اصبر عليَّ فالله ابتلاك بي ، ثمَّ أجابه عن سؤاله ، فذكَّرني بما كان عليه النَّبــي صلَّى الله عليه وسلَّم من حلم وأناة وصبر على جفاة الأعراب.
فتلك المواقف لا يمكن للإنسان نسيانها ، بل ينسى نفسه ليبقى فترة أطول يستفيد من علم الشَّيخ وسمته ، وهذا حصل لي ولأخي جمال ، فلم نستطيع في تلك الأيَّام مغادرة المكان حتَّى لا يفوتنا شيء ، فبقينا بإحرامنا ونحن حلال لِبُعْدِ المسافة الَّتي ظنَّ بعض من رآنا كذلك أنَّ للشَّيخ فتوى في البقاء على الإحرام أيَّام التَّشريق ، فبيَّنا لهم أن الأمر غير ذلك .
انتهت أيَّام التَّشريق فعاد الشَّيخ إلى بيت ابنته بجدَّة ، فما كان منَّا إلاَّ أن طفنا طواف الوداع ، واتَّجهنا نحو جدَّة فالتقينا مرَّة أخرى في المسجد ، فتعجَّب رحمه الله من صنيعنا وسلَّم علينا ودعا لنا جزاه الله عنَّا وعن المسلمين خير الجزاء على ما قدَّم .
المصدر: العدد الواحد والثَّلاثون من مجلَّة الإصلاح السَّلفية – الجزائر