الشرح و الإبانة (الإبانة الصغرى)
كُلُّ هَذِهِ الِاضْطِرَابَاتِ وَالتَّنَاقُضَاتِ الَّتِي أَثَّرَتْ عَلَى الْحَيَاةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ قَدِ انْعَكَسَ ظِلُّهَا عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ الدِّينِيَّةِ، فَقَدْ وَرِثَ هَذَا الْقَرْنُ عَنِ الْقَرْنِ الَّذِي سَبَقَهُ الزَّنْدَقَةَ، بَلْ إِنَّهَا كَثُرَتْ فِيهِ جِدًّا وَلَيْسَ أَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا رَوَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ 311هـ فَقَالَ فَقَدْ أُحْرِقَ مِنْ كُتُبِ الزَّنَادِقَةِ عَلَى بَابِ الْعَامَّةِ مِائَتانِ وَأَرْبَعَةُ أَعْدَالٍ صَنَّفَهَا الْحَلَّاجُ وَغَيْرُهُ ، كَمَاقُتِلَ الْحَلَّاجُ أَمَامَ النَّاسِ فِي سَنَةِ 309هـ بَعْدَ أَنْ أَفْتَى الْعُلَمَاءُ وَالْقُضَاةُ بِسَفْكِ دَمِهِ لِمَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْكِتَابَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ.
وَمِنْ مَظَاهِرِ هَذَا الْعَصْرِ كَثْرَةُالْفِتَنِ بَيْنَ الْفِرَقِ الْمُنْتَمِيَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ الصِّرَاعُ فِيمَا بَيْنَهَا عَلَى أَشُدِّهِ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الرَّافِضَةِ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِي مَسْجِدِ (براش) فَيَنَالُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا يُصَلُّونَ الْجُمْعَةَ وَيُكَاتِبُونَ الْقَرَامِطَةَ وَيَدْعُونَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الَّذِي ظَهَرَ فِي الْكُوفَةِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنَ الْمُقْتَدِرِ وَمَنْتَبِعَهُ فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِهَدْمِ الْمَسْجِدِ فَهُدِمَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَوَادِثُ وَأَمْثَالُهَا دَاعِيَةً إِلَى اشْتِعَالِ نَارِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالرَّوَافِضِ، كَمَا قَوِيَ نُفُوذُ الشِّيعَةِ لِأَنَّ الْبُوَيْهِيِّينَ كَانُوا شِيعَةً مُتَعَصِّبِينَ، فَكَانَتِ الْفِتَنُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ تَحْدُثُ دَائِمًا فَفِي سَنَةِ 338هـ حَدَثَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَهُمَا نُهِبَتْ فِيهَاالْكَرْخُ، ثُمَّ تَجَدَّدَتِ الْفِتْنَةُ ثَانِيَةً وَقُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ ضَغَطَ الْبُوَيْهِيُّونَ عَلَى الْخَلِيفَةِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ،فَأَلْزَمَ أَهْلَ بَغْدَادَ بِالنَّوْحِ وَالْمَأْتَمِ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَمَرَ بِإِغْلَاقِ الْأَسْوَاقِ وَعُلِّقَتْ فِيهَا الْمُسُوحُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ 352هـ .
وَكَانَ لِلْقَرَامِطَةِ دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي إِذْكَاءِ نَارِالْفِتَنِ وَنَشْرِ الذُّعْرِ وَالرُّعْبِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ كَثُرَتْ غَارَاتُهُمْ عَلَى الْحَجِيجِ بِقِيَادَةِ زَعِيمِهِمْ أَبِي طَاهِرٍ الْجَنَّابِيِّ ، وَكَانُوا يَقْتُلُونَ الْحُجَّاجَ وَيَنْهَبُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَسْبُونَ ذَرَارِيَّهُمْ وَلِذَلِكَ فَقَدْ تَعَطَّلَ الْحَجُّ الْعِرَاقِيُّ عِدَّةَ مَرَّاتٍ. وَقَدِ اسْتَفْحَلَ أَمْرُ هَؤُلَاءِالْقَرَامِطَةِ فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنَ النِّسَاءِ فِيهَا وَهَرَبَ أَكْثَرُ النَّاسِ وَأَلْقَوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَمَكَثَ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ فِيهَا سَبْعَةَعَشَرَ يَوْمًا يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ مِنْ نِسَائِهَا وَذَرَارِيِّهَاوَيَأْخُذُونَ مَا يُعْجِبُهُمْ مِنْ أَمْوَالِهَا ثُمَّ عَادُوا إِلَى بَلْدَتِهِمْ هَجَرَ، وَقَدْ حَدَثَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ 311 هِـ كَمَا نَزَلَتِ الْقَرَامِطَةُ بَعْدَهَا إِلَى الْكُوفَةِ سَنَةَ 313 هِـ وَكَادُوا أَنْ يَدْخُلُوا بَغْدَادَ فَجُدِّدَتْ حَوْلَهَا الْخَنَادِقُ وَأَخِيرًا تَمَكَّنُوامِنْ دُخُولِ بَغْدَادَ وَحَدَثَتْ فِيهَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ.
وَأَقْسَى مَا فَعَلَهُ هَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةُ مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي سَنَةِ 317هـ حَيْثُ دَخَلُوا مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ وَقَتَلُوا الْحُجَّاجَ فِي الْحَرَمِ الشَّرِيفِ بِجِوَارِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ ثُمَّ أَلْقَوْا جُثَثَ هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى فِي بِئْرِ زَمْزَمَ، وَخَلَعُوا بَابَ الْكَعْبَةِوَأَخَذُوا كِسْوَتَهَا وَاقْتَلَعُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْ مَكَانِهِ وَأَخْذُوهُ مَعَهُمْ إِلَى بَلْدَتِهِمْ (هَجَرَ) وَبَقِيَ عِنْدَهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ عَامًا.
وَلَمْ يَقْتَصِرِ الْأَمْرُ عَلَى النِّزَّاعِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِوَالرَّافِضَةِ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ مِنْ مُظَاهِرِ هَذَا الْعَصْرِ أَيْضًا،ظُهُورُ الْخِلَافِ الشَّدِيدِ بَيْنَ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِوَظُهُورُالْفِتَنِ بَيْنَهُمْ لِأَبْسَطِ الْأَسْبَابِ،وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَدَثَ فِي سَنَةِ 317هـ
حَيْثُ وَقَعَتْ فِتْنَهٌ كَبِيرَةٌ بَيْنَ أَتْبَاعِ أَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ الْحَنْبَلِيِّ وَبَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَامَّةِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)،وَقَدْ كَانَ لِلتَّعَصُّبِ الْمَذْهَبِيِّ دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي انْقِسَامِ الْمُسْلِمِينَ وَانْتِشَارِالْفِتَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ،فَقَدْ طَعَنَ أَتْبَاعُ الْمَذَاهِبِ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ وَانْتَقَصَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ حَرَّمَ الْأَحْنَافُ زَوَاجَ الْحَنَفِيِّ مِنْ شَافِعِيَّةٍ، ثُمَّ تَسَاهَلُوا فَجَوَّزُوا ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَجَوِّزُوا زَوَاجَ الشَّافِعِيِّ مِنْ حَنَفِيَّةٍ .
كَمَا صَرَّحَ أَحَدُ الْقُضَاةِ الْأَحْنَافِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ بِيَدِهِ لَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَانَ مِنْ صُوَرِ هَذَاالتَّعَصُّبِ الْمَقِيتِ أَنِ امْتَنَعَ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ مِنَ الصَّلَاةِخَلْفَ بَعْضِهِمُ الْبَعْضَ، وَصَدَرَتِ الْفَتَاوَى فِي ذَلِكَ، وَكُتُبُ الْفِقْهِ قد حَفِظَتْ صُوَرًا مِنْ هَذِهِ الْفَتَاوَى.
وَقَدْ رَدَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْحَمَلَاتِ فَأَلَّفُوا كُتُبًايَنْتَقِصُونَ فِيهَا الْمَذْهَبَ الْحَنَفِيَّ وَيَطْعَنُونَ فِيهِ وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ "مُغِيثُ الْخَلْقِ فِي تَرْجِيحِ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ" لِأَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ "إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ" فَقَدْ شَنَّعَ فِيهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَدَى انْتِشَارِ رُوحِ الْعَدَاءِ وَالْبُغْضِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَإِذَا كَانَ قَدْ تَوَرَّطَ فِيأَتُونِ هَذِهِ الصِّرَاعَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ عُلَمَاءُ أَجِلَّاءُ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ هُوَ دُونَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْعَامَّةِ وَالسُّوقَةِ.
وَقَدْ أَدَّى هَذَا التَّعَصُّبُ الْمَقِيتُ إِلَى خَرَابِ الْبِلَادِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ يَاقُوتٌ الْحَموِيُّ عِنْدَ كَلَامِهِ عَنْ مَدِينَةِأَصْفَهَانَ فَقَدْ قَالَ وَقَدْ فَشَا فِيهَا الْخَرَابُ فِي نَوَاحِيهَا لِكَثْرَةِالْفِتَنِ وَالتَّعَصُّبِ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحُرُوبِ الْمُتَّصِلَةِ بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ فَكُلَّمَا ظَهَرَتْ طَائِفَةٌ نَهَبَتْ مَحَلَّةَ الْأُخْرَى وَأَحْرَقَتْهَا وَخَرَّبَتْهَا لَا يَأْخُذُهُمْ فِي ذَلِكَ إِلٌّ وَلَا ذِمَّةٌوَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي رَسَاتيقِها وَقُرَاهَا.
كَمَا كَانَ حَظُّ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَافِرًا فَقَدِ انْتَشَرَتِ الْبِدَعُ فِي أَوْسَاطِ الْمُتَدَيِّنِينَ وَدَخَلَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ وَزَحَمَتْ كَثِيرًا مِنَ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ لِتَحِلَّ مَحَلَّهَا، وَمِنْ هُنَا رَأَيْنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ قَامُوا بِبَيَانِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
-------------------------------------------
ثَالِثًا: الْأَحْوَالُ الدِّينِيَّةُ
كُلُّ هَذِهِ الِاضْطِرَابَاتِ وَالتَّنَاقُضَاتِ الَّتِي أَثَّرَتْ عَلَى الْحَيَاةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ قَدِ انْعَكَسَ ظِلُّهَا عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ الدِّينِيَّةِ، فَقَدْ وَرِثَ هَذَا الْقَرْنُ عَنِ الْقَرْنِ الَّذِي سَبَقَهُ الزَّنْدَقَةَ، بَلْ إِنَّهَا كَثُرَتْ فِيهِ جِدًّا وَلَيْسَ أَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا رَوَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ 311هـ فَقَالَ فَقَدْ أُحْرِقَ مِنْ كُتُبِ الزَّنَادِقَةِ عَلَى بَابِ الْعَامَّةِ مِائَتانِ وَأَرْبَعَةُ أَعْدَالٍ صَنَّفَهَا الْحَلَّاجُ وَغَيْرُهُ ، كَمَاقُتِلَ الْحَلَّاجُ أَمَامَ النَّاسِ فِي سَنَةِ 309هـ بَعْدَ أَنْ أَفْتَى الْعُلَمَاءُ وَالْقُضَاةُ بِسَفْكِ دَمِهِ لِمَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْكِتَابَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ.
وَمِنْ مَظَاهِرِ هَذَا الْعَصْرِ كَثْرَةُالْفِتَنِ بَيْنَ الْفِرَقِ الْمُنْتَمِيَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ الصِّرَاعُ فِيمَا بَيْنَهَا عَلَى أَشُدِّهِ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الرَّافِضَةِ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِي مَسْجِدِ (براش) فَيَنَالُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا يُصَلُّونَ الْجُمْعَةَ وَيُكَاتِبُونَ الْقَرَامِطَةَ وَيَدْعُونَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الَّذِي ظَهَرَ فِي الْكُوفَةِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنَ الْمُقْتَدِرِ وَمَنْتَبِعَهُ فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِهَدْمِ الْمَسْجِدِ فَهُدِمَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَوَادِثُ وَأَمْثَالُهَا دَاعِيَةً إِلَى اشْتِعَالِ نَارِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالرَّوَافِضِ، كَمَا قَوِيَ نُفُوذُ الشِّيعَةِ لِأَنَّ الْبُوَيْهِيِّينَ كَانُوا شِيعَةً مُتَعَصِّبِينَ، فَكَانَتِ الْفِتَنُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ تَحْدُثُ دَائِمًا فَفِي سَنَةِ 338هـ حَدَثَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَهُمَا نُهِبَتْ فِيهَاالْكَرْخُ، ثُمَّ تَجَدَّدَتِ الْفِتْنَةُ ثَانِيَةً وَقُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ ضَغَطَ الْبُوَيْهِيُّونَ عَلَى الْخَلِيفَةِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ،فَأَلْزَمَ أَهْلَ بَغْدَادَ بِالنَّوْحِ وَالْمَأْتَمِ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَمَرَ بِإِغْلَاقِ الْأَسْوَاقِ وَعُلِّقَتْ فِيهَا الْمُسُوحُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ 352هـ .
وَكَانَ لِلْقَرَامِطَةِ دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي إِذْكَاءِ نَارِالْفِتَنِ وَنَشْرِ الذُّعْرِ وَالرُّعْبِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ كَثُرَتْ غَارَاتُهُمْ عَلَى الْحَجِيجِ بِقِيَادَةِ زَعِيمِهِمْ أَبِي طَاهِرٍ الْجَنَّابِيِّ ، وَكَانُوا يَقْتُلُونَ الْحُجَّاجَ وَيَنْهَبُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَسْبُونَ ذَرَارِيَّهُمْ وَلِذَلِكَ فَقَدْ تَعَطَّلَ الْحَجُّ الْعِرَاقِيُّ عِدَّةَ مَرَّاتٍ. وَقَدِ اسْتَفْحَلَ أَمْرُ هَؤُلَاءِالْقَرَامِطَةِ فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنَ النِّسَاءِ فِيهَا وَهَرَبَ أَكْثَرُ النَّاسِ وَأَلْقَوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَمَكَثَ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ فِيهَا سَبْعَةَعَشَرَ يَوْمًا يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ مِنْ نِسَائِهَا وَذَرَارِيِّهَاوَيَأْخُذُونَ مَا يُعْجِبُهُمْ مِنْ أَمْوَالِهَا ثُمَّ عَادُوا إِلَى بَلْدَتِهِمْ هَجَرَ، وَقَدْ حَدَثَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ 311 هِـ كَمَا نَزَلَتِ الْقَرَامِطَةُ بَعْدَهَا إِلَى الْكُوفَةِ سَنَةَ 313 هِـ وَكَادُوا أَنْ يَدْخُلُوا بَغْدَادَ فَجُدِّدَتْ حَوْلَهَا الْخَنَادِقُ وَأَخِيرًا تَمَكَّنُوامِنْ دُخُولِ بَغْدَادَ وَحَدَثَتْ فِيهَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ.
وَأَقْسَى مَا فَعَلَهُ هَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةُ مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي سَنَةِ 317هـ حَيْثُ دَخَلُوا مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ وَقَتَلُوا الْحُجَّاجَ فِي الْحَرَمِ الشَّرِيفِ بِجِوَارِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ ثُمَّ أَلْقَوْا جُثَثَ هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى فِي بِئْرِ زَمْزَمَ، وَخَلَعُوا بَابَ الْكَعْبَةِوَأَخَذُوا كِسْوَتَهَا وَاقْتَلَعُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْ مَكَانِهِ وَأَخْذُوهُ مَعَهُمْ إِلَى بَلْدَتِهِمْ (هَجَرَ) وَبَقِيَ عِنْدَهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ عَامًا.
وَلَمْ يَقْتَصِرِ الْأَمْرُ عَلَى النِّزَّاعِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِوَالرَّافِضَةِ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ مِنْ مُظَاهِرِ هَذَا الْعَصْرِ أَيْضًا،ظُهُورُ الْخِلَافِ الشَّدِيدِ بَيْنَ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِوَظُهُورُالْفِتَنِ بَيْنَهُمْ لِأَبْسَطِ الْأَسْبَابِ،وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَدَثَ فِي سَنَةِ 317هـ
حَيْثُ وَقَعَتْ فِتْنَهٌ كَبِيرَةٌ بَيْنَ أَتْبَاعِ أَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ الْحَنْبَلِيِّ وَبَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَامَّةِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)،وَقَدْ كَانَ لِلتَّعَصُّبِ الْمَذْهَبِيِّ دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي انْقِسَامِ الْمُسْلِمِينَ وَانْتِشَارِالْفِتَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ،فَقَدْ طَعَنَ أَتْبَاعُ الْمَذَاهِبِ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ وَانْتَقَصَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ حَرَّمَ الْأَحْنَافُ زَوَاجَ الْحَنَفِيِّ مِنْ شَافِعِيَّةٍ، ثُمَّ تَسَاهَلُوا فَجَوَّزُوا ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَجَوِّزُوا زَوَاجَ الشَّافِعِيِّ مِنْ حَنَفِيَّةٍ .
كَمَا صَرَّحَ أَحَدُ الْقُضَاةِ الْأَحْنَافِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ بِيَدِهِ لَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَانَ مِنْ صُوَرِ هَذَاالتَّعَصُّبِ الْمَقِيتِ أَنِ امْتَنَعَ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ مِنَ الصَّلَاةِخَلْفَ بَعْضِهِمُ الْبَعْضَ، وَصَدَرَتِ الْفَتَاوَى فِي ذَلِكَ، وَكُتُبُ الْفِقْهِ قد حَفِظَتْ صُوَرًا مِنْ هَذِهِ الْفَتَاوَى.
وَقَدْ رَدَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْحَمَلَاتِ فَأَلَّفُوا كُتُبًايَنْتَقِصُونَ فِيهَا الْمَذْهَبَ الْحَنَفِيَّ وَيَطْعَنُونَ فِيهِ وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ "مُغِيثُ الْخَلْقِ فِي تَرْجِيحِ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ" لِأَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ "إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ" فَقَدْ شَنَّعَ فِيهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَدَى انْتِشَارِ رُوحِ الْعَدَاءِ وَالْبُغْضِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَإِذَا كَانَ قَدْ تَوَرَّطَ فِيأَتُونِ هَذِهِ الصِّرَاعَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ عُلَمَاءُ أَجِلَّاءُ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ هُوَ دُونَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْعَامَّةِ وَالسُّوقَةِ.
وَقَدْ أَدَّى هَذَا التَّعَصُّبُ الْمَقِيتُ إِلَى خَرَابِ الْبِلَادِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ يَاقُوتٌ الْحَموِيُّ عِنْدَ كَلَامِهِ عَنْ مَدِينَةِأَصْفَهَانَ فَقَدْ قَالَ وَقَدْ فَشَا فِيهَا الْخَرَابُ فِي نَوَاحِيهَا لِكَثْرَةِالْفِتَنِ وَالتَّعَصُّبِ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحُرُوبِ الْمُتَّصِلَةِ بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ فَكُلَّمَا ظَهَرَتْ طَائِفَةٌ نَهَبَتْ مَحَلَّةَ الْأُخْرَى وَأَحْرَقَتْهَا وَخَرَّبَتْهَا لَا يَأْخُذُهُمْ فِي ذَلِكَ إِلٌّ وَلَا ذِمَّةٌوَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي رَسَاتيقِها وَقُرَاهَا.
كَمَا كَانَ حَظُّ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَافِرًا فَقَدِ انْتَشَرَتِ الْبِدَعُ فِي أَوْسَاطِ الْمُتَدَيِّنِينَ وَدَخَلَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ وَزَحَمَتْ كَثِيرًا مِنَ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ لِتَحِلَّ مَحَلَّهَا، وَمِنْ هُنَا رَأَيْنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ قَامُوا بِبَيَانِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
-------------------------------------------
تعليق