بسم الله الرحمن الرحيم ,الحمد لله الذي أكرم هذه الامة بسلاطين علماء جمعوا بين الولايتين الدينية المتمثلة في العلم الشرعي وما يتعلق به , والولاية الدنيوية المتعلقة بالامارة وسياسة الناس ,فجمعوا بين المكرمتين فاستحقوا ان يكونوا ممن قال الله فيهم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال كثير من المفسرين هم العلماء والامراء
فكيف من جمع بين الامارة والعلم ...
وصلى الله على نبينا محمد امام المتقين وخاتم المرسلين القائل ((خَيْرُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ يُبْغِضُونَكُمْ وَتُبْغِضُونَهُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ))
أما بعد
فمن نعم الله جل وعلا على هذا البلد الطيب - المغرب الحبيب - أن تولى حكمه و تداول امارته سلاطين علماء حكماء ساسوا اهله بسياسة شرعية ,ساروا في السرية وعدلوا في الاقضية,ورفعوا راية الجهاد عالية شامخة ضد اعداء الدين والملة من كفرة ومنافقين ومبتدعة مبطلين ,فكانوا حقا حماة الدين والعقيدة ,واستحقوا وصف:حامي حمى الوطن والدين
ومن هذه السلسلة المباركة ,من ملوك هذه الدولة العلوية الشريفة - أدام الله عزها - السلطان محمد بن عبد الله العلوي
هو:أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الله بن اسماعيل العلوي - ويلقب بمحمد الثالث-المولد سنة:1120 هـ الموافق ل 1710 م
سلطان المغرب الأقصى، عالم السلاطين، وسلطان العلماء في وقته، إمام جليل، وجهبذ نبيل، أحيا من العلم مآثره، وجدد الدولة العلوية بعد أن كانت داثرة، جال بنفسه في المغرب، وتقرى قبائله، وعرف دخائله، وأيقن أن الدين قد كان أن يذهب من أهله باستيلاء الجهل على بطونه وقبائله، فألف لهم تأليفه على نسق رسالة ابن أبي زيد تسهيلا على العوام، ليصلوا من ضروريات دينهم إلى المرام، وهي عندي موجودة ومن ذخائري معدودة.
كان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله محبا للعلماء وأهل الخير مقربا لهم لا يغيبون عن مجلسه في أكثر الأوقات وكان يحضر عنده جماعة من أعلام الوقت وأئمته منهم الفقيه العلامة المشارك أبو عبد الله محمد ابن الإمام سيدي عبد الله الغربي الرباطي والفقيه العلامة المحقق أبو عبد الله سيدي محمد المير السلاوي والفقيه الدراكة أبو عبد الله محمد الكامل الرشيدي والفقيه السيد أبو زيد عبد الرحمن المدعو بأبي خريص هؤلاء هم أهل مجلسه الذين كانوا يسردون له كتب الحديث ويخوضون في معانيها ويؤلفون له ما يستخرجه منها على مقتضى إشارته وكانت له عناية كبيرة بذلك وجلب من بلاد المشرق كتبا نفيسة من كتب الحديث لم تكن بالمغرب مثل مسند الإمام أحمد ومسند أبي حنيفة وغيرهما وألف رحمه الله في الحديث تآليف بإعانة الفقهاء الذين ذكرناهم آنفا منها كتاب مسانيد الأئمة الأربعة وهو كتاب نفيس في مجلد ضخم التزم فيه أن يخرج من الأحاديث ما اتفق على روايته الأئمة الأربعة أو ثلاثة منهم أو اثنان فإذا انفرد بالحديث إمام واحد أو رواه غيرهم لم يخرجه وهذا المنوال لم يسبق إليه رحمه الله وكان كثيرا ما يجلس بعد صلاة الجمعة في مقصورة الجامع بمراكش مع فقهائها ومن يحضره من علماء فاس وغيرهما للمذاكرة في الحديث الشريف وتفهمه ويحصل له بذلك النشاط التام وكان كثيرا ما يتأسف أثناء ذلك ويقول والله لقد ضيعنا عمرنا في البطالة ويتحسر على ما فاته من قراءة العلم أيام الشباب ولما فاته الاشتغال بفنون العلم في حال الصغر اعتكف أولا على سرد كتب التاريخ وأخبار الناس وأيام العرب ووقائعها إلى أن تملى من ذلك وبلغ فيه الغاية القصوى وكاد يحفظ ما في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني من كلام العرب وشعراء الجاهلية والإسلام ولما ولاه الله أمر المسلمين بعد وفاة والده زهد في التاريخ والأدب بعد التضلع منهما وأقبل على سرد كتب الحديث والبحث عن غريبها وجلبها من أماكنها ومجالسة العلماء والمذاكرة معهم فيها ورتب رحمه الله لذلك أوقاتا مضبوطة لا تنخرم حذا بها حذو المنصور السعدي في أوقاته المرسومة عند الفشتالي في مناهل الصفا حتى أنه كان إذا خرج لزيارة أو صيد أو نزهة أيام الربيع وأقام الأسبوع ونحوه فإذا حانت الجمعة ودخل تحرى النزول بمنازل المنصور التي كان ينزل بها وقت خروجه لزيارة أغمات ونحوها ورجوعه ويقول هذه منازل المنصور رحمه الله وهو أستاذنا في مثل هذه الأمور ومن عجيب سيرته رحمه الله أنه كان يرى اشتغال طلبة العلم بقراءة المختصرات في فن الفقه وغيره وإعراضهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة تضييع للأعمار في غير طائل وكان ينهى عن ذلك غاية ولا يترك من يقرأ مختصر خليل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما ويبالغ في التشنيع على من اشتغل بشيء من ذلك حتى كاد الناس يتركون قراءة مختصر خليل وإنما كان يحض على كتاب الرسالة والتهذيب وأمثالهما حتى وضع في ذلك كتابا مبسوطا أعانه عليه أبو عبد الله الغربي وأبو عبد الله المير وغيرهما من أهل مجلسه ولما أفضى الأمر إلى السلطان العادل المولى سليمان رحمه الله صار يحض الناس على التمسك بالمختصر ويبذل على حفظه وتعاطيه الأموال الطائلة والكل مأجور على نيته وقصده غير أنا نقول الرأي ما رأى السلطان سيدي محمد رحمه الله وقد نص جماعة من أكابر الأعلام النقاد مثل الإمام الحافظ أبي بكر بن العربي والشيخ النظار أبي إسحاق الشاطبي والعلامة الواعية أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون وغيرهم أن سبب نضوب ماء العلم في الإسلام ونقصان ملكة أهله فيه إكباب الناس على تعاطي المختصرات الصعبة الفهم وإعراضهم عن كتب الأقدمين المبسوطة المعاني الواضحة الأدلة التي تحصل لمطالعها الملكة في أقرب مدة ولعمري لا يعلم هذا يقينا إلا من جربه وذاقه وقد تقدم لنا في صدر هذا الكتاب أن ملوك بني عبد المؤمن كانوا يحملون الناس على الرجوع في الأحكام إلى الكتاب والسنة كل ذلك اعتناء بالعلم القديم ومحافظة على أصوله والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية رضي الله عنهم وكان يحض الناس على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل وكان يقول عن نفسه حسبما صرح به في آخر كتابه الموضوع في الأحاديث المخرجة من الأئمة الأربعة أنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا يعني أنه لا يرى الخوض في علم الكلام على طريقة المتأخرين وله في ذلك أخبار ومجريات قلت وهو مصيب أيضا في هذا فقد ذكر الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في كتاب الإحياء إن علم الكلام إنما هو بمنزلة الدواء لا يحتاج إليه إلا عند حدوث المرض فكذلك علم الكلام لا يحتاج إليه إلا عند حدوث البدعة في قطر وقد حرر الناس القدر المحتاج إليه في حق العامة وغيرهم والمبتدئين والمنتهين والأغبياء والأذكياء بما ليس هذا محل بسطه وكان السلطان سيدي محمد رحمه الله عالي الهمة يحب الفخر ويركب سنامه ويخاطب ملوك الترك مخاطبة الأكفاء ويخاطبونه مخاطبة السادة ويمدهم بالأموال والهدايا حتى علا صيته عندهم وحسبوه أكثر منهم مالا ورجالا وكان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر ويضع الأشياء مواضعها ويعرف مقادير الرجال ويؤدي حقوقهم ويتجاوز عن هفواتهم ويراعي لأهل السوابق سوابقهم ويتفقد أحوال خدامه في الصحة والمرض ولا يغفل عمن كان يعرفه قبل الملك وكان من الشجعان المذكورين في وقته يباشر الحروب بنفسه ويهزم الجيوش بهيبته وكان يقتني الرجال ويصطنعهم ويعدهم لأيام الكريهة وينادي كل واحد باسمه وقت اللقاء والحضور عنده ويوجه كل بطل منهم مع قبيلة أو كتيبة من كتائب الجند ويعمل بقواعد السياسة في الحروب وكان إذا وجه أحدا ممن يعرف نجدته وكفايته ينشد قول ابن دريد والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا وبالجملة فقد كان رحمه الله من عظماء الملوك وخلد آثارا كثيرة بالمغرب ...ورتب للأشراف بتافيلالت في كل سنة مائة ألف مثقال سوى ما ينعم به عليهم في أيام السنة متفرقا ورتب لأهل الحرمين الشريفين وشرفاء الحجاز واليمن مائة ألف مثقال أيضا في السنة ولشرفاء المغرب مائة ألف مثقال كذلك وأما الطلبة والمؤذنون والقراء وأئمة المساجد كانت تأتيهم صلاتهم في كل عيد وأما ما كان ينفقه في الجهاد على رؤساء البحر وطبجيته وما يضيره على المراكب الجهادية والآلات الحربية التي ملأ بها بلاد المغرب فشيء لا يحصيه الحصر وأما ما أنفقه من الأموال في فكاك أسرى المسلمين فأكثر من ذلك كله حتى لم يبق ببلاد الكفر أسير لا من المغرب ولا من المشرق ولقد بلغ عددهم في سنة مائتين وألف ثمانية وأربعين ألف أسير وزيادة وأوقافه بالحرمين الشريفين وكتبه العلمية المحبسة بهما لا زالت قائمة العين والأثر إلى الآن وأما اعتناؤه بالمراكب القرصانية فقد بلغ عددها في دولته عشرين كبارا من المربع وثلاثين من الفراكط والغلائط وبلغ رؤساء البحر عنده ستين رئيسا كلها بمراكبها وبحريتها وبلغ عسكر البحرية ألفا من المشارقة وثلاثة آلاف من المغاربة ومن الطبجية ألفين وبلغ عسكره من العبيد خمسة عشر ألفا ومن الأحرار سبعة آلاف وأما عسكر القبائل الذي كان يغزو من الجند فمن الحوز ثمانية آلاف ومن الغرب سبعة آلاف وكانت له هيبة عظيمة في مشوره وموكبه يتحدث الناس بها وهابته ملوك الفرنج وطواغيتهم ووفدت عليه رسلهم بالهدايا والتحف يطلبون مسالمته في البحر بلغ ذلك رحمه الله بسياسته وعلو همته حتى عمت مسالمته أجناس النصارى كلهم إلا المسكوب فإنه لم يسالمه لمحاربته للسلطان العثماني ولقد وجه رسله وهديته إلى طنجة فردها السلطان رحمه الله وأبى من مسالمته ووظف على الأجناس الوظائف فالتزموها وكانوا يؤدونها كل سنة واستمر ذلك من بعده إلى أن انقطع في هذه السنين المتأخرة وكانوا يستجلبون مرضاته بالهدايا والألطاف وكل ما يقدرون عليه ومهما كتب إلى طاغية في أمر سارع إليه ولو كان محرما في دينه ويحتال في قضاء الأغراض منهم بكل وجه أحبوا أم كرهوا وكان أعظم طواغيتهم طاغية النجليز وطاغية الفرنسيس فكانا يأنفون من أداء الضريبة علانية مثل غيرهم من الأجناس فكان رحمه الله يستخرجها منهم وأكثر منها بوجه لطيف وكان له عدة أولاد أكبرهم أبو الحسن علي والمأمون وهشام وعبد السلام هؤلاء لربة الدار المولاة فاطمة بنت عمه سليمان بن إسماعيل ثم عبد الرحمن أمه حره هوارية من هوارة السوس ثم يزيد ومسلمة أمهما علجة من سبي الإصبنيول ثم الحسن وعمر أمهما حرة من الأحلاف ثم عبد الواحد أمه حرة من أهل رباط الفتح ثم سليمان والطيب وموسى لحرة من الأحلاف أيضا ثم الحسن وعبد القادر لحرة من الأحلاف أيضا ثم عبد الله لحرة من عرب بني حسن ثم إبراهيم لعلجة رومية ومما مدح به السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله من الشعر أرجوزة الأديب البليغ أبي العباس أحمد الونان المعروفة بالشمقمقبية التي يقول في مطلعها مهلا على رسلك حادي الأينق ولا تكلفها بما لم تطق وهذه الأرجوزة مشهورة بين الناس وهي من الشعر الفائق والنظم البديع الرائق أبان منشئها عن باع كبير وإطلاع غزير على أخبار العرب وأيامها وحكمها وأمثالها بحيث أن من حفظها وعرف مقاصدها أغنته عن غيرها من كتب الأدب
واليك مؤلفاته بالتفصيل المطبوع منها والمخطوط:
- "مواهب المنان بما يتأكد على المعلمين تعليمه للصبيان "
يعتبر هذا الكتاب بمثابة مقرر دراسي وضعه السلطان رحمه الله لمدرسي الكتاتيب القرآنية , مع انه نافع لغيرهم من الشيوخ والكهول والشبان
وقد ضمنه مقدمة عقدية سلفية اقتطعها من رسالة ابن أبـي زيد القيرواني ثم أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة ثم ختمه بذكر ما ينبغي للمسلم أن يتحلى به من مكارم الأخلاق ويبتعد عنه من مساوئها
لهذا الكتاب نسختان مخطوطتان الأولى موجودة في الخزانة العامة بالرباط ونسخة بالخزانة العامة
طبع هذا الكتاب سنة 1414 هـ الموافق ل:1996 مـ وأشرف على طبعه وتصحيحه الأستاذ احمد العلوي العبداللوي بتقديم الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري وزير الأوقاف السابق
-" الفتوحات الإلهية فيما اجتمع من الأحاديث النبوية الشافية من للقلوب الصدية "
كتاب خاص بالعبادات ويسمى أيضا "الفتوحات الصغرى" توجد منه نسخة مخطوطة بالخزانة الحسنية بالرباط
- " الفتوحات الإلهية الكبرى "
كتاب حديثي طبع في المطبعة الملكية سنة 1364هـ بتقديم الأستاذ المدني بن الحسني
- " الجامع الصحيح الأسانيد المستخرج من ستة مسانيد"
كتاب حديثي يضم الصحيحين وموطأ مالك ومسند الشافعي ومسند احمد ومسند أبي حنيفة
لازال مخطوطا توجد نسخة منه بالخزانة الحسنية وأخرى بخزانة القرويين وهناك نسخة بالسعودية ( ذكر الدكتور عبد الكريم الخضير أن عنده نسخة مخطوطة جيدة من هذا الكتاب(في احد دروسه -المسجلة- على صحيح البخاري) . )
- " فتح الباري في اقتطاف أزهار المسانيد لتخريج أحاديث البخاري"
هذا كتاب حديثي مرتب على أبواب العبادات توجد منه نسخة واحدة بالخزانة الحسنية بالرباط
كتاب مرتب على ابواب الفقهطبع بالعرائش ( المغرب) مطبعة بوسكا سنة 1360 هـ بتحقيق الاستاذ فريد البستاني
-" بغية ذوي البصائر والألباب في الدرر المنتخبة من تأليف الإمام الحطاب "
كتاب عبادات غير مطبوع توجد نسخة منه في الخزانة الحسنية بالرباط
كتاب في الفقه , توجد منه نسخة مخطوطة بالقرويين
-" الإكسير في افتداء الأسير"
- "(ترويح القوب) ديوان في الشعر"
مطبوع بتحقيق و إشراف الأستاذة إلهام السوسي عبد اللوي
- "بغية الطلاب المعينة قارئها على عبادة العزيز الوهاب"
شرح لعقيدة ابن أبي زيد القيرواني . مخطوط بالخزانة الحسنية
وفاته رحمه الله:
وتوفي في طريقه إلى الرباط سنة 1204هـ الموافق ل 1790 م
ــــــــــ
مراجع:
1- الاستقصا لتاريخ المغرب الاقصى لمؤلفه احمد بن خالد النصري
2-الفكر السامي في تاريخ التشريع الاسلامي للحجوي
3- كتاب مواهب المنان فيما ينبغي على المعلمين تعليمه للصبيان بتحقيق الاستاذ:احمد العلوي العبداللوي طبعة 1414 وزارة الاوقاف
4- الاعلام للزركلي
فكيف من جمع بين الامارة والعلم ...
وصلى الله على نبينا محمد امام المتقين وخاتم المرسلين القائل ((خَيْرُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ يُبْغِضُونَكُمْ وَتُبْغِضُونَهُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ))
أما بعد
فمن نعم الله جل وعلا على هذا البلد الطيب - المغرب الحبيب - أن تولى حكمه و تداول امارته سلاطين علماء حكماء ساسوا اهله بسياسة شرعية ,ساروا في السرية وعدلوا في الاقضية,ورفعوا راية الجهاد عالية شامخة ضد اعداء الدين والملة من كفرة ومنافقين ومبتدعة مبطلين ,فكانوا حقا حماة الدين والعقيدة ,واستحقوا وصف:حامي حمى الوطن والدين
ومن هذه السلسلة المباركة ,من ملوك هذه الدولة العلوية الشريفة - أدام الله عزها - السلطان محمد بن عبد الله العلوي
هو:أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الله بن اسماعيل العلوي - ويلقب بمحمد الثالث-المولد سنة:1120 هـ الموافق ل 1710 م
سلطان المغرب الأقصى، عالم السلاطين، وسلطان العلماء في وقته، إمام جليل، وجهبذ نبيل، أحيا من العلم مآثره، وجدد الدولة العلوية بعد أن كانت داثرة، جال بنفسه في المغرب، وتقرى قبائله، وعرف دخائله، وأيقن أن الدين قد كان أن يذهب من أهله باستيلاء الجهل على بطونه وقبائله، فألف لهم تأليفه على نسق رسالة ابن أبي زيد تسهيلا على العوام، ليصلوا من ضروريات دينهم إلى المرام، وهي عندي موجودة ومن ذخائري معدودة.
كان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله محبا للعلماء وأهل الخير مقربا لهم لا يغيبون عن مجلسه في أكثر الأوقات وكان يحضر عنده جماعة من أعلام الوقت وأئمته منهم الفقيه العلامة المشارك أبو عبد الله محمد ابن الإمام سيدي عبد الله الغربي الرباطي والفقيه العلامة المحقق أبو عبد الله سيدي محمد المير السلاوي والفقيه الدراكة أبو عبد الله محمد الكامل الرشيدي والفقيه السيد أبو زيد عبد الرحمن المدعو بأبي خريص هؤلاء هم أهل مجلسه الذين كانوا يسردون له كتب الحديث ويخوضون في معانيها ويؤلفون له ما يستخرجه منها على مقتضى إشارته وكانت له عناية كبيرة بذلك وجلب من بلاد المشرق كتبا نفيسة من كتب الحديث لم تكن بالمغرب مثل مسند الإمام أحمد ومسند أبي حنيفة وغيرهما وألف رحمه الله في الحديث تآليف بإعانة الفقهاء الذين ذكرناهم آنفا منها كتاب مسانيد الأئمة الأربعة وهو كتاب نفيس في مجلد ضخم التزم فيه أن يخرج من الأحاديث ما اتفق على روايته الأئمة الأربعة أو ثلاثة منهم أو اثنان فإذا انفرد بالحديث إمام واحد أو رواه غيرهم لم يخرجه وهذا المنوال لم يسبق إليه رحمه الله وكان كثيرا ما يجلس بعد صلاة الجمعة في مقصورة الجامع بمراكش مع فقهائها ومن يحضره من علماء فاس وغيرهما للمذاكرة في الحديث الشريف وتفهمه ويحصل له بذلك النشاط التام وكان كثيرا ما يتأسف أثناء ذلك ويقول والله لقد ضيعنا عمرنا في البطالة ويتحسر على ما فاته من قراءة العلم أيام الشباب ولما فاته الاشتغال بفنون العلم في حال الصغر اعتكف أولا على سرد كتب التاريخ وأخبار الناس وأيام العرب ووقائعها إلى أن تملى من ذلك وبلغ فيه الغاية القصوى وكاد يحفظ ما في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني من كلام العرب وشعراء الجاهلية والإسلام ولما ولاه الله أمر المسلمين بعد وفاة والده زهد في التاريخ والأدب بعد التضلع منهما وأقبل على سرد كتب الحديث والبحث عن غريبها وجلبها من أماكنها ومجالسة العلماء والمذاكرة معهم فيها ورتب رحمه الله لذلك أوقاتا مضبوطة لا تنخرم حذا بها حذو المنصور السعدي في أوقاته المرسومة عند الفشتالي في مناهل الصفا حتى أنه كان إذا خرج لزيارة أو صيد أو نزهة أيام الربيع وأقام الأسبوع ونحوه فإذا حانت الجمعة ودخل تحرى النزول بمنازل المنصور التي كان ينزل بها وقت خروجه لزيارة أغمات ونحوها ورجوعه ويقول هذه منازل المنصور رحمه الله وهو أستاذنا في مثل هذه الأمور ومن عجيب سيرته رحمه الله أنه كان يرى اشتغال طلبة العلم بقراءة المختصرات في فن الفقه وغيره وإعراضهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة تضييع للأعمار في غير طائل وكان ينهى عن ذلك غاية ولا يترك من يقرأ مختصر خليل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما ويبالغ في التشنيع على من اشتغل بشيء من ذلك حتى كاد الناس يتركون قراءة مختصر خليل وإنما كان يحض على كتاب الرسالة والتهذيب وأمثالهما حتى وضع في ذلك كتابا مبسوطا أعانه عليه أبو عبد الله الغربي وأبو عبد الله المير وغيرهما من أهل مجلسه ولما أفضى الأمر إلى السلطان العادل المولى سليمان رحمه الله صار يحض الناس على التمسك بالمختصر ويبذل على حفظه وتعاطيه الأموال الطائلة والكل مأجور على نيته وقصده غير أنا نقول الرأي ما رأى السلطان سيدي محمد رحمه الله وقد نص جماعة من أكابر الأعلام النقاد مثل الإمام الحافظ أبي بكر بن العربي والشيخ النظار أبي إسحاق الشاطبي والعلامة الواعية أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون وغيرهم أن سبب نضوب ماء العلم في الإسلام ونقصان ملكة أهله فيه إكباب الناس على تعاطي المختصرات الصعبة الفهم وإعراضهم عن كتب الأقدمين المبسوطة المعاني الواضحة الأدلة التي تحصل لمطالعها الملكة في أقرب مدة ولعمري لا يعلم هذا يقينا إلا من جربه وذاقه وقد تقدم لنا في صدر هذا الكتاب أن ملوك بني عبد المؤمن كانوا يحملون الناس على الرجوع في الأحكام إلى الكتاب والسنة كل ذلك اعتناء بالعلم القديم ومحافظة على أصوله والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية رضي الله عنهم وكان يحض الناس على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل وكان يقول عن نفسه حسبما صرح به في آخر كتابه الموضوع في الأحاديث المخرجة من الأئمة الأربعة أنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا يعني أنه لا يرى الخوض في علم الكلام على طريقة المتأخرين وله في ذلك أخبار ومجريات قلت وهو مصيب أيضا في هذا فقد ذكر الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في كتاب الإحياء إن علم الكلام إنما هو بمنزلة الدواء لا يحتاج إليه إلا عند حدوث المرض فكذلك علم الكلام لا يحتاج إليه إلا عند حدوث البدعة في قطر وقد حرر الناس القدر المحتاج إليه في حق العامة وغيرهم والمبتدئين والمنتهين والأغبياء والأذكياء بما ليس هذا محل بسطه وكان السلطان سيدي محمد رحمه الله عالي الهمة يحب الفخر ويركب سنامه ويخاطب ملوك الترك مخاطبة الأكفاء ويخاطبونه مخاطبة السادة ويمدهم بالأموال والهدايا حتى علا صيته عندهم وحسبوه أكثر منهم مالا ورجالا وكان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر ويضع الأشياء مواضعها ويعرف مقادير الرجال ويؤدي حقوقهم ويتجاوز عن هفواتهم ويراعي لأهل السوابق سوابقهم ويتفقد أحوال خدامه في الصحة والمرض ولا يغفل عمن كان يعرفه قبل الملك وكان من الشجعان المذكورين في وقته يباشر الحروب بنفسه ويهزم الجيوش بهيبته وكان يقتني الرجال ويصطنعهم ويعدهم لأيام الكريهة وينادي كل واحد باسمه وقت اللقاء والحضور عنده ويوجه كل بطل منهم مع قبيلة أو كتيبة من كتائب الجند ويعمل بقواعد السياسة في الحروب وكان إذا وجه أحدا ممن يعرف نجدته وكفايته ينشد قول ابن دريد والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا وبالجملة فقد كان رحمه الله من عظماء الملوك وخلد آثارا كثيرة بالمغرب ...ورتب للأشراف بتافيلالت في كل سنة مائة ألف مثقال سوى ما ينعم به عليهم في أيام السنة متفرقا ورتب لأهل الحرمين الشريفين وشرفاء الحجاز واليمن مائة ألف مثقال أيضا في السنة ولشرفاء المغرب مائة ألف مثقال كذلك وأما الطلبة والمؤذنون والقراء وأئمة المساجد كانت تأتيهم صلاتهم في كل عيد وأما ما كان ينفقه في الجهاد على رؤساء البحر وطبجيته وما يضيره على المراكب الجهادية والآلات الحربية التي ملأ بها بلاد المغرب فشيء لا يحصيه الحصر وأما ما أنفقه من الأموال في فكاك أسرى المسلمين فأكثر من ذلك كله حتى لم يبق ببلاد الكفر أسير لا من المغرب ولا من المشرق ولقد بلغ عددهم في سنة مائتين وألف ثمانية وأربعين ألف أسير وزيادة وأوقافه بالحرمين الشريفين وكتبه العلمية المحبسة بهما لا زالت قائمة العين والأثر إلى الآن وأما اعتناؤه بالمراكب القرصانية فقد بلغ عددها في دولته عشرين كبارا من المربع وثلاثين من الفراكط والغلائط وبلغ رؤساء البحر عنده ستين رئيسا كلها بمراكبها وبحريتها وبلغ عسكر البحرية ألفا من المشارقة وثلاثة آلاف من المغاربة ومن الطبجية ألفين وبلغ عسكره من العبيد خمسة عشر ألفا ومن الأحرار سبعة آلاف وأما عسكر القبائل الذي كان يغزو من الجند فمن الحوز ثمانية آلاف ومن الغرب سبعة آلاف وكانت له هيبة عظيمة في مشوره وموكبه يتحدث الناس بها وهابته ملوك الفرنج وطواغيتهم ووفدت عليه رسلهم بالهدايا والتحف يطلبون مسالمته في البحر بلغ ذلك رحمه الله بسياسته وعلو همته حتى عمت مسالمته أجناس النصارى كلهم إلا المسكوب فإنه لم يسالمه لمحاربته للسلطان العثماني ولقد وجه رسله وهديته إلى طنجة فردها السلطان رحمه الله وأبى من مسالمته ووظف على الأجناس الوظائف فالتزموها وكانوا يؤدونها كل سنة واستمر ذلك من بعده إلى أن انقطع في هذه السنين المتأخرة وكانوا يستجلبون مرضاته بالهدايا والألطاف وكل ما يقدرون عليه ومهما كتب إلى طاغية في أمر سارع إليه ولو كان محرما في دينه ويحتال في قضاء الأغراض منهم بكل وجه أحبوا أم كرهوا وكان أعظم طواغيتهم طاغية النجليز وطاغية الفرنسيس فكانا يأنفون من أداء الضريبة علانية مثل غيرهم من الأجناس فكان رحمه الله يستخرجها منهم وأكثر منها بوجه لطيف وكان له عدة أولاد أكبرهم أبو الحسن علي والمأمون وهشام وعبد السلام هؤلاء لربة الدار المولاة فاطمة بنت عمه سليمان بن إسماعيل ثم عبد الرحمن أمه حره هوارية من هوارة السوس ثم يزيد ومسلمة أمهما علجة من سبي الإصبنيول ثم الحسن وعمر أمهما حرة من الأحلاف ثم عبد الواحد أمه حرة من أهل رباط الفتح ثم سليمان والطيب وموسى لحرة من الأحلاف أيضا ثم الحسن وعبد القادر لحرة من الأحلاف أيضا ثم عبد الله لحرة من عرب بني حسن ثم إبراهيم لعلجة رومية ومما مدح به السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله من الشعر أرجوزة الأديب البليغ أبي العباس أحمد الونان المعروفة بالشمقمقبية التي يقول في مطلعها مهلا على رسلك حادي الأينق ولا تكلفها بما لم تطق وهذه الأرجوزة مشهورة بين الناس وهي من الشعر الفائق والنظم البديع الرائق أبان منشئها عن باع كبير وإطلاع غزير على أخبار العرب وأيامها وحكمها وأمثالها بحيث أن من حفظها وعرف مقاصدها أغنته عن غيرها من كتب الأدب
واليك مؤلفاته بالتفصيل المطبوع منها والمخطوط:
- "مواهب المنان بما يتأكد على المعلمين تعليمه للصبيان "
يعتبر هذا الكتاب بمثابة مقرر دراسي وضعه السلطان رحمه الله لمدرسي الكتاتيب القرآنية , مع انه نافع لغيرهم من الشيوخ والكهول والشبان
وقد ضمنه مقدمة عقدية سلفية اقتطعها من رسالة ابن أبـي زيد القيرواني ثم أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة ثم ختمه بذكر ما ينبغي للمسلم أن يتحلى به من مكارم الأخلاق ويبتعد عنه من مساوئها
لهذا الكتاب نسختان مخطوطتان الأولى موجودة في الخزانة العامة بالرباط ونسخة بالخزانة العامة
طبع هذا الكتاب سنة 1414 هـ الموافق ل:1996 مـ وأشرف على طبعه وتصحيحه الأستاذ احمد العلوي العبداللوي بتقديم الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري وزير الأوقاف السابق
-" الفتوحات الإلهية فيما اجتمع من الأحاديث النبوية الشافية من للقلوب الصدية "
كتاب خاص بالعبادات ويسمى أيضا "الفتوحات الصغرى" توجد منه نسخة مخطوطة بالخزانة الحسنية بالرباط
- " الفتوحات الإلهية الكبرى "
كتاب حديثي طبع في المطبعة الملكية سنة 1364هـ بتقديم الأستاذ المدني بن الحسني
- " الجامع الصحيح الأسانيد المستخرج من ستة مسانيد"
كتاب حديثي يضم الصحيحين وموطأ مالك ومسند الشافعي ومسند احمد ومسند أبي حنيفة
لازال مخطوطا توجد نسخة منه بالخزانة الحسنية وأخرى بخزانة القرويين وهناك نسخة بالسعودية ( ذكر الدكتور عبد الكريم الخضير أن عنده نسخة مخطوطة جيدة من هذا الكتاب(في احد دروسه -المسجلة- على صحيح البخاري) . )
- " فتح الباري في اقتطاف أزهار المسانيد لتخريج أحاديث البخاري"
هذا كتاب حديثي مرتب على أبواب العبادات توجد منه نسخة واحدة بالخزانة الحسنية بالرباط
- " الفتح الرباني فيما اقتطفناه من مسانيد الأئمة وفقه الإمام الحطاب والشيخ ابن أبي زيد القيرواني "
-" بغية ذوي البصائر والألباب في الدرر المنتخبة من تأليف الإمام الحطاب "
كتاب عبادات غير مطبوع توجد نسخة منه في الخزانة الحسنية بالرباط
- "طبق الارطاب فيما اقتطفناه من مسانيد الائمة وكتب مشاهير المالكية وفقه الامام الحطاب"
-" الإكسير في افتداء الأسير"
- " الجواهر واللآلي في التنبيه على ما اشتمل عليه الإحياء للغزالي"
- "(ترويح القوب) ديوان في الشعر"
مطبوع بتحقيق و إشراف الأستاذة إلهام السوسي عبد اللوي
- "بغية الطلاب المعينة قارئها على عبادة العزيز الوهاب"
شرح لعقيدة ابن أبي زيد القيرواني . مخطوط بالخزانة الحسنية
وفاته رحمه الله:
وتوفي في طريقه إلى الرباط سنة 1204هـ الموافق ل 1790 م
ــــــــــ
مراجع:
1- الاستقصا لتاريخ المغرب الاقصى لمؤلفه احمد بن خالد النصري
2-الفكر السامي في تاريخ التشريع الاسلامي للحجوي
3- كتاب مواهب المنان فيما ينبغي على المعلمين تعليمه للصبيان بتحقيق الاستاذ:احمد العلوي العبداللوي طبعة 1414 وزارة الاوقاف
4- الاعلام للزركلي