ترجمة الإمام ابن قدامة المقدسي[1] - رحمه الله -
اسمه ونسبه: هو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجمَّاعيلي شيخ المذهب الإمام بحر علوم الشريعة المطهرة - رحمه الله - وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة آمين ـ.
مولده ونشأته:
ولد - رحمه الله - بجمَّاعيل من عمل نابلس في فلسطين سنة 541 هـ، وقدم دمشق مع أهله.
وصفه:
قال الضياء - رحمه الله -: كان تام الخلقة أبيض مشرق الوجه أدعج كأن النور يخرج من وجهه لحسنه واسع الجبين طويل اللحية قائم الأنف مقرون الحاجبين صغير الرأس لطيف اليدين والقدمين نحيف الجسم ممتعاً بحواسه.
طلبه للعلم:
حفظ القرآن دون سن البلوغ وحفظ مختصر الخرقي، وكتبَ الخط المليح، وقرأ على مشايخ دمشق، ثم سافر إلى بغداد هو وابن خالته الحافظ عبدالغني المقدسي - رحمه الله - سنة إحدى وستين، وأقاما بها أربع سنوات يدرس على شيوخها.
شيوخه:
بلغ شيوخه - رحمه الله - 32 شيخاً منهم:
1. أحمد بن محمد بن قدامة والده بدمشق
2. الشيخ عبد القادر بن عبد الله الجيلى
3. الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي ببغداد.
4. الشيخ أبو الفتح نصر بن فتيان بن مطر ابن المَنِّيّ ببغداد.
5. الشيخ أبو المكارم بن هلال بدمشق.
6. الشيخ أبو الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي بالموصل.
7. الشيخ المبارك بن الطباخ [2] بمكة ـ حرسها الله ـ.
8. خديجة بنت أحمد بن الحسن النهروانية ببغداد.
نبذه عن حياته:
لما رجع الإمام الموفق من بغداد إلى دمشق تصدر في جامع دمشق مدة طويلة، وبعد موت أخيه أبي عمر صار هو الذي يؤم المصلين بالجامع المظفري ويخطب يوم الجمعة إذا حضر، وهو إمام محراب الحنابلة بجامع دمشق [3] فيصلى فيه الموفق إذا كان في البلد.
قال ابن كثير - رحمه الله -: كان يتنفل بين العشاءين بالقرب من محرابه، فإذا صلى العشاء انصرف إلى منزله بدرب الدّولَعِيّ بالرصيف، وأخذ معه من الفقراء من تيسر، يأكلون معه من طعامه وكان منزله الأصلي بقاسيون.
، كان لا يناظر أحداً إلا وهو يبتسم، حتى قال بعض الناس: هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسمه.
وقيل أنه ناظر ابن فضلان الشافعي ـ الذي كان يضرب به المثل في المناظرة ـ فقطعه.
وقال الضياء: كان حسن الأخلاق لا يكاد يراه أحد إلا مبتسماً يحكي الحكايات ويمزح وسمعت البهاء يقول: كان الشيخ يمازحنا وينبسط، وكان لا ينافس أهل الدنيا، ولا يكاد يشكو، وربما كان أكثر حاجة من غيره، وكان يؤثر.
وسمعت البهاء يصفه بالشجاعة، وقال: كان يتقدم للعدو وجرح في كفه وكان يرامي العدو.
وجاءه مرة الملك العزيز ابن العادل يزوره فصادفه يصلي فجلس بالقرب منه إلى أن فرغ من صلاته ثم اجتمع به، ولم يجوز في صلاته.
قال السبط بن الجوزي - رحمه الله -: كان صحيح الاعتقاد مبغضاً للمشبهة، وقال: من شرط التشبيهات أن يرى الشيء ثم يشبهه، من رأى الله - تعالى - حتى يشبهه لنا؟!!.
وقال ابن رجب - رحمه الله -: لم يكن يرى الخوض مع المتكلمين في دقائق الكلام وكان كثير المتابعة للمنقول في باب الأصول وغيره، ولا يرى إطلاق ما لم يؤثر من العبارات.
قال السبط بن الجوزي: شاهدت من الشيخ أبي عمر وأخيه الموفق ونسيبه العماد ما نرويه عن الصحابة والأولياء الأفراد فأنساني حالهم أهلي وأوطاني ثم عدت إليهم على نية الإقامة عسى أن أكون معهم في دار المقامة [4].
وله ـ رضي الله عنه ـ أخبار كثيرة ومآثر مشهورة ونكتفي بما قدمناه.
نماذج من شعره:
أبعد بياض الشعر أعمر مسكناً *** سوى القبر إني إن فعلت لأحمق
يخبرني شيبي بأني ميت *** وشيكاً وينعاني إلي فيصدق
تخرق عمري كل يوم وليلة *** فهل مستطيع رفق ما يتخرق
كأني بجسمي فوق نعشي ممدداً *** فمن ساكت ومعول يتحرق
إذا سئلوا عني أجابوا وأعولوا *** وأدمعهم تنهل: هذا الموفق
وغيبت في صدعٍ من الأرض ضيق *** وأودعت لحداً فوقه الصخر مطبق
ويحثو علي الترب أوثق صاحب *** ويسلمني للقبر من هو مشفق
فيا رب كن لي مؤنساً يوم وحشتي *** فإني لما أنزلته لمصدق
وما ضرني إني إلى الله صائر *** ومن هو من أهلي أبر وأرفق
طلابه:
تفقه علي يديه الكثير من أهل العلم منهم
1. الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد الواسطي - رحمه الله -.
2. أحمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي ابن العماد - رحمه الله -.
3. أحمد بن سلامة بن أحمد النجار - رحمه الله -.
4. الحافظ أبو العباس أحمد بن عيسى بن عبد الله ابن قدامة حفيده - رحمهما الله - .
5. إسماعيل بن عبد الرحمن بن عمرو المرداوي ابن الفراء - رحمه الله -.
6. خليل بن أبي بكر بن صديق المراغي - رحمه الله -.
7. الحافظ محمد بن عبد الواحد بن أحمد السعدي المقدسي ضياء الدين - رحمه الله -.
8. عبد الحافظ بن بدران بن شبل بن طرخان - رحمه الله -.
9. عبد الرحمن بن محمد بن أحمد ابن قدامة - رحمه الله - شارح المقنع.
10. الحافظ محمد بن سعيد بن يحي ابن الدبيثي الشافعي.
11. الحافظ محمد بن محمود بن الحسن ابن النَّجَّار - رحمه الله -.
مؤلفاته:
له مؤلفات كثيرة ذكرها ابن رجب وغيرها منها:
1. العمدة.
2. المقنع.
3. الكافي.
4. المغني، وهو أكبر كتبه ومن كتب الإسلام المعدودة.
5. الاستبصار، في الأنساب.
6. الاعتقاد.
7. التوابين.
8. ذم التأويل
9. ذم الوسواس.
10. روضة الناضر وجنة المناظر.
11. فضائل الصحابة
12. القدر.
13. لمعة الاعتقاد.
14. مسألة في تحريم النظر في علم الكلام.
15. مناسك الحج.
قال الشيخ يحي الصرصيري - رحمه الله -:
وفي عصرنا كان الموفق حجة *** على فقهه يثبت الأصول محولي
كفى الخلق بالكافي وأقنع طالباً *** بمقنع فقه عن كتاب مطّول
وأغنى بمغني الفقه من كان باحثاً *** وعمدته من يعتمدها يحصل
وروضته ذات الأصول كروضةٍ *** أماستْ بها الأزهار أنفاس شمْأَل
تدل على المنطوق أوفى دلالة *** وتحمل في المفهوم أحسن محمل
عقبه:
1. عيسى
2. محمد
3. يحي
4. صفية
5. فاطمة
ومات أولاده الثلاثة في حياته ولم يعقب إلا عيسى خلف ولدين صالحين وماتا وانقطع عقبه، وكان قد تزوج من بنت عمه مريم بنت أبي بكر المقدسي ثم تزوج عزِّيَّة وماتت قبله، وتسرى بجاريتن.
وفاته:
توفي - رحمه الله - يوم السبت في يوم عيد الفطر عام 620هـ ودفن من الغد في جبل قاسيون خالف الجامع المظفري.
ومما قيل في رثائه - رحمه الله -
قال الشيخ صلاح الدين أبي عيسى موسى بن محمد بن راجح المقدسي - رحمه الله -:
لم يبق لي بعد الموفق رغبة *** في العيش إن العيش سم مقنع
صدر الزمان وعينه وطرازه *** ركن الأنام الزاهد المتورع
بحر العلوم أبو الفضائل كلها *** شمل الشريعة بعد لا يجتم
كان ابن أحمد في مقام محمد *** إن هالهم أمر إليه يفزعوا
فيبين مشكله ويوضح سره *** ويذب عن دين الإله ويدفع
ببصيرة يجلو الظلام ضياؤها *** يبدي العجائب نورها يتشعشع
فاليوم قد أضحى الزمان وأهله *** غرضاً لكل بلية تتنوع
والعلم قد أمسى كأن بواكياً *** تبكي عليه وحبله يتقطع
وتعطلت تلك المجالس وانقضت *** تلك المحافل ليتها لو ترجع
هيهات بعدك يا موفق يرتجى *** للناس خير أو مقال يسمع
لله درك كم لشخصك من يد *** بيضاء في كل الفضائل ترتع
قد كنت عبداً طائعاً لا تنثني *** عن باب ربك في العبادة توسع
كم ليلة أحييتها وعمرتها *** والله ينظر والخلائق هجع
تتلو كتاب الله في جنح الدجى *** كزبور داود النبي ترجع
لو كان يمكن من فدائك رخصة *** لفدتك أفئدة عليك تقطع
منقول
_________[1] ترجم له الكثيرون فهو شيخ المذهب: مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي 8/627، معجم البلدان لياقوت الحموي 2/113، سير أعلام النبلاء للذهبي 22/165، ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/133، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 6/256، شذرات الذهب 5/88، المقصد الأرشد 2/15، الدر للعليمي 1/346، تسهيل السابلة برقم: 1131، علماء الحنابلة برقم: 1233، وقد أفرد الضياء المقدسي سيرة شيخه الموفق في جزأين وكذلك أفردها الذهبي - رحمهم الله - .
[2] كذا ذكر اسمه الذهبي - رحمه الله - وقال محقق المغني: المبارك بن علي البغدادي إمام الحنابلة في الحرم.
[3] وهذه بدعة منكرة، وتفرقة بين المسلمين، وكانت موجودة في الحرم المكي ـ حرسه الله ـ حتى أنهاها بعض أهل العلم جزاهم الله خيراً.
[4] قلت: اللهم أجمعنا جميعنا بهم في دار المقامة مع عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن قال آمين.