ابن الحداد
الإمام ، شيخ المالكية أبو عثمان ، سعيد بن محمد بن صبيح بن الحداد المغربي ، صاحب سحنون وهو أحد المجتهدين ، وكان بحرا في الفروع ، ورأسا في لسان العرب ، بصيرا بالسنن .
وكان يذم التقليد ويقول : هو من نقص العقول ، أو دناءة الهمم .
ويقول : ما للعالم وملاءمة المضاجع .
وكان يقول : دليل الضبط الإقلال ، ودليل التقصير الإكثار .
وكان من رءوس السنة .
قال ابن حارث : له مقامات كريمة ، ومواقف محمودة في الدفع عن الإسلام ، والذب عن السنة ، ناظر فيها أبا العباس المعجوقي أخا أبي عبد الله الشيعي الداعي إلى دولة عبيد الله ، فتكلم ابن الحداد ولم يخف سطوة سلطانهم ، حتى قال له ولده أبو محمد : يا أبة ، اتق الله في نفسك ولا تبالغ . قال : حسبي من له غضبت ، وعن دينه ذببت .
وله مع شيخ المعتزلة الفراء مناظرات بالقيروان ، رجع بها عدد من المبتدعة .
وقيل : إنه صنف في الرد على " المدونة " وألف أشياء .
قال أبو بكر بن اللباد : بينا سعيد بن الحداد جالس أتاه رسول عبيد الله -يعني المهدي - قال : فأتيته وأبو جعفر البغدادي واقف ، فتكلمت بما حضرني ، فقال : اجلس . فجلست ، فإذا بكتاب لطيف ، فقال لأبي جعفر : اعرض الكتاب على الشيخ . فإذا حديث غدير خم . قلت : وهو صحيح ، وقد رويناه .
فقال عبيد الله : فما للناس لا يكونون عبيدنا ؟ قلت : أعز الله السيد ، لم يرد ولاية الرق ، بل ولاية الدين ، قال : هل من شاهد ؟ قلت : قال الله تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله فما لم يكن لنبي الله لم يكن لغيره . قال : انصرف لا ينالك الحر . فتبعني البغدادي فقال . اكتم هذا المجلس .
وقال موسى بن عبد الرحمن القطان : لو سمعتم سعيد بن الحداد في تلك المحافل -يعني مناظرته للشيعي - وقد اجتمع له جهارة الصوت ، وفخامة المنطق ، وفصاحة اللسان ، وصواب المعاني ، لتمنيتم أن لا يسكت .
وقيل : إن ابن الحداد تحول شافعيا من غير تقليد ، ولا يعتقد مسألة إلا بحجة . وكان حسن البزة ، لكنه كان يتقوت باليسير ، ولم يحج ، وكان كثير الرد على الكوفيين .
وقيل : إنه سار لتلقي أبي عبد الله الشيعي ، فقال له : يا شيخ ، بم كنت تقضي ؟ فقال إبراهيم بن يونس : بالكتاب والسنة . قال : فما السنة ؟ قال : السنة السنة . قال ابن الحداد : فقلت للشيعي : المجلس مشترك أم خاص ؟ قال : مشترك . فقلت : أصل السنة في كلام العرب المثال ، قال الشاعر :
تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب
أي : صورة وجه ومثاله . والسنة محصورة في ثلاث : الائتمار بما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- ، والانتهاء عما نهى عنه ، والائتساء بما فعل .
فقال الشيعي : فإن اختلف عليك النقل ، وجاءت السنة من طرق ؟ قلت : أنظر إلى أصح الخبرين ، كشهود عدول اختلفوا في شهادة ، قال : فلو استووا في الثبات ؟ قلت : يكون أحدهما ناسخا للآخر . قال : فمن أين قلتم بالقياس ؟ قلت : من كتاب الله يحكم به ذوا عدل منكم .
فالصيد معلومة عينه ، فالجزاء أمرنا أن نمثله بشيء من النعم ، ومثله في تثبيت القياس : لعلمه الذين يستنبطونه والاستنباط غير منصوص .
ثم عطف على موسى القطان فقال : أين وجدتم حد الخمر في كتاب الله ، تقول : اضربوه بالأردية وبالأيدي ثم بالجريد ؟ . فقلت أنا : إنما حد قياسا على حد القاذف ; لأنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى فأوجب عليه ما يئول إليه أمره . قال : أولم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : وأقضاكم علي . . فساق له موسى تمامه وهو : وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ ، وأرأفكم أبو بكر ، وأشدكم في دين الله عمر .
قال : كيف يكون أشدهم وقد هرب بالراية يوم خيبر ؟ قال موسى : ما سمعنا بهذا . فقلت : إنما تحيز إلى فئة فليس بفار .
وقال في : لا تحزن إن الله معنا إنما نهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حزنه ; لأنه كان مسخوطا . قلت : لم يكن قوله إلا تبشيرا بأنه آمن على رسول الله وعلى نفسه ، فقال أين نظير ما قلت ؟ قلت : قوله لموسى وهارون : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فلم يكن خوفهما من فرعون خوفا بسخط الله .
ثم قال : يا أهل البلدة : إنكم تبغضون عليا ؟ قلت : على مبغضه لعنة الله . فقال : صلى الله عليه . قلت : نعم ، ورفعت صوتي : صلى الله عليه وسلم ; لأن الصلاة في خطاب العرب الرحمة والدعاء . قال : ألم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ؟ قلت : نعم ، إلا أنه قال : إلا أنه لا نبي بعدي وهارون كان حجة في حياة موسى ، وعلي لم يكن حجة في حياة النبي ، وهارون فكان شريكا ، أفكان علي شريكا للنبي -صلى الله عليه وسلم- في النبوة ؟ ! وإنما أراد التقريب والوزارة والولاية .
قال : أوليس هو أفضل ؟ قلت : أليس الحق متفقا عليه ؟ قال : نعم . قلت : قد ملكت مدائن قبل مدينتنا ، وهي أعظم مدينة ، واستفاض عنك أنك لم تكره أحدا على مذهبك ، فاسلك بنا مسلك غيرنا ونهضنا .
قال ابن الحداد : ودخلت يوما على أبي العباس ، فأجلسني معه في مكانه وهو يقول لرجل : أليس المتعلم محتاجا إلى المعلم أبدا ؟ فعرفت أنه يريد الطعن على الصديق في سؤاله عن فرض الجدة فبدرت وقلت : المتعلم قد يكون أعلم من المعلم وأفقه وأفضل لقوله -عليه السلام- : رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه . . ثم معلم الصغار القرآن يكبر أحدهم ثم يصير أعلم من المعلم .
قال : فاذكر من عام القرآن وخاصه شيئا ؟ قلت : قال تعالى : ولا تنكحوا المشركات فاحتمل المراد بها العام ، فقال تعالى : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فعلمنا أن مراده بالآية الأولى خاص ، أراد : ولا تنكحوا المشركات غير الكتابيات من قبلكم حتى يؤمن ، قال : ومن هن المحصنات ؟ قلت : العفائف ، قال : بل المتزوجات .
قلت : الإحصان في اللغة : الإحراز ، فمن أحرز شيئا فقد أحصنه ، والعتق يحصن المملوك ; لأنه يحرزه عن أن يجري عليه ما على المماليك ، والتزويج يحصن الفرج ; لأنه أحرزه عن أن يكون مباحا ، والعفاف إحصان للفرج .
قال : ما عندي الإحصان إلا التزويج . قلت له : منزل القرآن يأبى ذلك ، قال : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها أي أعفته . وقال : محصنات غير مسافحات عفائف ، قال : فقد قال في الإماء : فإذا أحصن وهن عندك قد يكن عفائف .
قلت : سماهن بمتقدم إحصانهن قبل زناهن ، قال تعالى : ولكم نصف ما ترك أزواجكم وقد انقطعت العصمة بالموت ، يريد اللاتي كن أزواجكم ، قال : يا شيخ ، أنت تلوذ . قلت : لست ألوذ ; أنا المجيب لك ، وأنت الذي تلوذ بمسألة أخرى ، وصحت : ألا أحد يكتب ما أقول وتقول . قال : فوقى الله شره . وقال : كأنك تقول : أنا أعلم الناس .
قلت : أما بديني فنعم . قال : فما تحتاج إلى زيادة فيه ؟ قلت : لا ، قال : فأنت إذا أعلم من موسى إذ يقول : هل أتبعك على أن تعلمني قال : هذا طعن على نبوة موسى ، موسى ما كان محتاجا إليه في دينه ، كلا ; إنما كان العلم الذي عند الخضر دنياويا ; سفينة خرقها ، وغلاما قتله ، وجدارا أقامه ، وذلك كله لا يزيد في دين موسى ، قال : فأنا أسألك .
قلت : أورد وعلي الإصدار بالحق بلا مثنوية قال : ما تفسير الله ؟ قلت : ذو الإلهية ، قال : وما هي ؟ قلت : الربوبية ، قال : وما الربوبية ؟ قلت : المالك الأشياء كلها ، قال : فقريش في جاهليتها كانت تعرف الله ؟ قلت : لا ، قال : فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله .
قلت : لما أشركوا معه غيره قالوا ، وإنما يعرف الله من قال : إنه لا شريك له . وقال تعالى : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون فلو كانوا يعبدونه ما قال : لا أعبد ما تعبدون إلى أن قال : فقلت : المشركون عبدة الأصنام الذين بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم عليا ليقرأ عليهم سورة براءة . قال : وما الأصنام ؟ قلت : الحجارة . قال : والحجارة أتعبد ؟ قلت : نعم ، والعزى كانت تعبد وهي شجرة ، والشعرى كانت تعبد وهي نجم .
قال : فالله يقول : أمن لا يهدي إلا أن يهدى فكيف تقول : إنها الحجارة ؟ والحجارة لا تهتدي إذا هديت ; لأنها ليست من ذوات العقول . قلت : أخبرنا الله أن الجلود تنطق وليست بذوات عقول ، قال : نسب إليها النطق مجازا . قلت : منزل القرآن يأبى ذلك فقال : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم إلى أن قال : قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وما الفرق بين جسمنا والحجارة ؟ ولو لم يعقلنا لم نعقل ، وكذا الحجارة إذا شاء أن تعقل عقلت .
وقيل : لم ير أغزر دمعة من سعيد بن الحداد ، وكان قد صحب النساك ، وكان مقلا حتى مات أخ له بصقلية ، فورث منه أربعمائة دينار ، فبنى منها داره بمائتي دينار ، واكتسى بخمسين دينارا . وكان كريما حليما .
روى عنه ولده ، أبو محمد ، عبد الله شيخ ابن أبي زيد .
وكان يقول : القرب من السلطان في غير هذا الوقت حتف من الحتوف ، فكيف اليوم ؟
وقال : من طالت صحبته للدنيا وللناس فقد ثقل ظهره . خاب السالون عن الله ، المتنعمون بالدنيا . من تحبب إلى العباد بالمعاصي بغضه الله إليهم .
وقال : لا تعدلن بالوحدة شيئا ، فقد صار الناس ذئابا .
وقال : ما صد عن الله مثل طلب المحامد ، وطلب الرفعة .
وله :
بعد سبعين حجة وثمان قد توفيتها من الأزمان
يا خليلي قد دنا الموت مني فابكياني -هديتما- وانعياني
قال القاضي عياض : مات أبو عثمان سنة اثنتين وثلاثمائة وله ثلاث وثمانون سنة ، رحمه الله .
-----------------
سير أعلام النبلاء للدهبي