السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن شرور أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده الخير بيده ملكوت كل شيء، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليمًا كثيرًا .
[وفي هذا الشهر - أعني: شهر ذي القعدة - من السنة السادسة من الهجرة خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة يريد العمرة ولم يعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته إلا في أشهر الحج فاعتمر في ذي القعدة ثلاث سنوات واعتمر مع حجه وكان قد أحرَمَ قارنًا في آخر ذي القعدة، فتكون عُمَرُه الأربع كلّها في شهر ذي القعدة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنة السادسة من الهجرة من المدينة إلى مكة يريد العمرة ومعه من أصحابه نحو ألف وأربعمائة فأحرَمَ من ذي الحليفة فلمّا علِمت قريش بذلك جمعوا له جموعًا ليصدّوه عن البيت ويقاتلوه على ذلك فسارَ النبي - صلى الله عليه وسلم - برعاية الله حتى إذا كان في الثّنيّة التي يهبط عليهم منها برَكَت ناقته وكان اسمها القصواء فزَجَرَها الناس، يقولون: « حَلْ حَلْ » بمنزلة قولنا: «حِيْ حِيْ» فزَجَرها الناس لتقوم فلم تقم فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء؛ أي: حَرَنت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بِخُلُق ولكنْ حبسها حابس الفيل، والذي نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زَجَرَها النبي - صلى الله عليه وسلم - فوثَبت فعدل عن قريش حتى نزل بأقصى الحديبية وفزعت قريش لنزوله عليهم فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ليخبرهم بِما يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه إنما يريد العمرة ما جاء يريد القتال ويدعوهم إلى الإسلام فبلّغ عثمان - رضي الله عنه - أبا سفيان وعظماء قريش ما بعثه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش لعثمان: إن شئتَ أن تطوف بالبيت فطُفْ به ؟ فقال عثمان رضي الله عنه: ما كنتُ لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتبست قريش عثمان عندها فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان قُتل فدعا صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى البيعة على القتال وألا يفرّوا إلى الموت وجلس تحت شجرة سَمُرَة في الحديبية فجعلوا يبايعونه وأخذ بيد نفسه فقال: هذه عن عثمان، وفي ذلك يقول الله عزَّ وجل: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (1 وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: 18-19]، وأخبَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يدخل النار أحدٌ بايَعَ تحت الشجرة .
الله أكبر ! ما أعظم هذه البشارة في كتاب الله، يُخبر الله - عزَّ وجل - أنه رضي عنهم إذْ يبايعونه تحت الشجرة ويُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يدخل النار أحَدٌ بايَعَ تحت الشجرة .
اللهم إنا نسألك أن تجمعنا بهم في جنّات النّعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين .
فبينما هم كذلك إذْ جاء بُديل بن ورقاء الخزاعي وكانت خزاعة ذوي نصح للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بِما أعدّت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنهم سيقاتلونه ويصدّونه عن البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم فإن شاؤوا ماددتهم مدّة ويُخلّوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جَمّوا وإن هم أبَوْا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفّذنّ الله أمره، فأخبر بُديل قريشًا بِما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال لقريش: إن هذا - يعني: النبي صلى الله عليه وسلم - قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته ؟ فقالوا: ائته، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يكلّم النبي صلى الله عليه وسلم، كلّما تكلّم بكلمة أخذ بلحية النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المغيرة بن شعبة بن أخ عروة قائمًا على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه السيف وعليه المغْفَر فكلّما أهوى عروة بيده ضربها المغيرة بنَعْل السيف وقال: أخّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفرّوا ويدعوك، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - لعروة: امصص بَظْر اللات، أنحن نَفِرّ عنه وندعه ؟ ثم جعل عروة يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فوالله ما تنخّم نخامة إلا وقعت في كف واحد منهم، فدلَكَ بها وجهه وجلْده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه؛ أي: على فضل ماء وضوئه وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده وما يُحدّون إليه النظر تعظيمًا له، فلمّا رجع عروة إلى قريش قال: واللهِ لقد وفدتُ على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي فما رأيت ملِكًا قط يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمدًا، ثم ذكر لهم ما شاهدَ من الصحابة وما كانوا يفعلونه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا قريش، إنه قد عرَضَ عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقام رجل من بني كنانة فقال: يا قريش، دعوني آته؛ يعني: آتِ النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ائته، فلمّا أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظّمون البُدْن؛ أي: يعظّمون الإبل المهداة إلى البيت، فابعثوها إليه فبعثوا بالإبل إلى هذا الرجل المقبل وأقبل الناس إليه يلبّون فقال: سبحان الله ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدّوا عن البيت، فلمّا رجع إلى قريش قال: رأيت البُدْن قد قلّدت وأُشعرت فما أرى أن يصدّوا عن البيت، ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو بن عبد شمس وكان خطيب قريش ليُصالح النبي صلى الله عليه وسلم، فلمّا وصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الكاتبَ ليكتب المعاهدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: اكتبُ باسمك اللهم؛ لأن قريشًا كانوا ينكرون اسم الرحمن، فقال المسلمون: واللهِ لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: واللهِ لو كنّا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكنْ اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: واللهِ إني لرسول الله وإن كذّبتموني، اكتب محمد بن عبد الله، وإنما تساهَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في موافقة سهيل لِمَا في ذلك من تعظيم حرمات الله بحقن الدماء الحاصل بهذا الصلح وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم جرى الصلح العظيم الذي سَمّاه الله فتحًا وهذه بنوده فاسمعوها: على ألا يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة هذا العام، وعلى أن يعتمر في العام المقبل فيخلّوا بينه وبين مكة ثلاثة أيام فقط ليس معه إلا سلاح الراكب والسيوف في القِرَب، وعلى أن مَن جاء من قريش إلى المسلمين ردّوه إلى قريش وإن كان مسلمًا ومَن جاء إلى قريش من المسلمين لم يردّوه، وعلى وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين، وعلى أن مَن أحب أن يدخل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - دخَلَ فيه ومَن أحب أن يدخل في عهد قريش دخَلَ فيه، فهذه خمسة شروط .
فراجع المسلمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فقال: نَعَم، إنه مَن ذهب منّا إليهم فأبعده الله ومَن جاء منهم فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا، وكان أشدّ مَن تكلّم في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ألَسْنا على الحق وعدوّنا على الباطل ؟ قال: بلى، قال: فلِمَ نعطي الدّنِيّة في ديننا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قال عمر: قلتُ أوَلَسْت كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى، ولكنْ قال له صلى الله عليه وسلم: فأخبرتك أنّا نأتيه العام؛ يعني: هل أخبرتك أنّا نأتيه هذه السنة ؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطّوف به، ثم ذهب عمر إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال له مثلما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فردّ عليه أبو بكر بمثل ما ردّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء بسواء وقال لعمر: استمسك بغرزه فواللهِ إنه على الحق، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأُعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلّمت به يومئذٍ حتى رجوت أن يكون خيرًا، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بعد هذا الصلح أن ينحروا ما معهم من الهدي وأن يحلقوا رؤوسهم، ونَحر هديه وأمر حالِقه فحلَقَ رأسه فلمّا رأى الصحابة ذلك قاموا فنحروا وحلق بعضهم بعضًا حتى كاد يقتل بعضهم بعضًا من الغَمّ مِمّا صنع بهم المشركون من صدّهم عن بيت الله الذي أولى الناس به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
وفي العام المقبل خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة معتمرًا في ذي القعدة وأمَرَ أصحابه أن يكشفوا عن المناكب اليمنى وأن يرملوا في طوافهم ليرى المشركون جلَدهم وقوّتهم وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب إغاظة المشركين بكل ما يستطيع.
ولقد كان في غزوة الحديبية من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان، فلقد شكا الصحابة إليه قلّة الماء وبين يديه إناء يتوضأ منه فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في هذا الإناء فجعل الماء يفور من بين يديه كأمثال العيون فشربوا وتوضؤوا وكانوا نحو ألف وأربعمائة](1)[م1] .
أيها المسلمون، إن هذه القصة قصة عظيمة فيها فوائد كثيرة وحِكَم بالغة عظيمة فمَن أراد الاستزادة منها فلْيرجع إليها في [ صحيح البخاري ] أثناء باب الشروط وفي [ زاد المعاد ] لابن القيم رحمهما الله جميعًا .
أيها المسلمون، هكذا كان أعداء الإسلام يحاولون صدّ المسلمين عن دينهم وعن شعائرهم تارةً بالقوّة وتارةً بالمكر والخديعة، فاحذروهم واعرفوا مكرهم وخديعتهم وقابلوهم بِما هو أشدّ فإنهم يمكرون ﴿وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30] .
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا مِمّن يعرفون أعداءهم ويحذرونهم، اللهم اجعلنا أشداء على الكفار رحماء بيننا، اللهم ﴿اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 147]، واغفر لنا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين .
والحمدُ لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
إن الواجب علينا ونحن أمة مسلمة نفخر بدين الإسلام ونعتزّ به ونرى أنه قربة لنا إلى الله ونرى أنه عزّة وكرامة لنا في الدنيا ونرى أننا إذا تمسّكنا به فسوف نكون فوق الخلق لقول الله تعالى: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 35] .
إنني أعجب لقوم يحاولون أن يقلّدوا المشركين والملحدين والمنافقين في أعمالهم وهم يعلمون أن نبيّهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن تشبّه بقوم فهو منهم»(2) .
لقد سمعت من بعض الناس مَن أبدل تحيّة الإسلام - وهي: السلام عليكم - بتحية النصارى بلغة النصارى وهذا يُخشى أن يقلب الله قلبه حتى يكون موافقًا للنصارى في عقائدهم؛ لأن هذا الرجل - والعِلْم عند الله - ما عدَلَ عن تحية المسلمين إلى تحيّة الكفار إلا لإعجابه بالكفار وأنهم نزلوا في قلبه منزلة عظيمة، فاحذروا - أيها المسلمون - ذلك واحذروا أن تتعوّدوا لغة غير العرب لتتخاطبوا بها؛ فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يضرب الناس على ذلك؛ أي: يضرب مَن يعتاد أن يتخاطب بلغة غير اللغة العربية يضربه لئلا يتخاطب بلغة غير اللغة العربية؛ لأنكم تعلمون أن لغة القوم هي قِوامهم وتعلمون أيضًا أن الدين الإسلامي الذي هو كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كان باللغة العربية فإذا هجرتم اللغة العربية فإن ذلك يكون سببًا لضعف فهمكم لدينكم وهذا أمر خطير كما أن أعداءكم من النصارى وغير النصارى إذا رأوا أنكم تتعشّقون لغتهم وتتكلّمون بها فإنهم يفرحون بذلك فرحًا عظيمًا؛ لأن من الأمور التي فُطِر الناس عليها أن الأعلى هو الذي يقلَّد وهو الذي يُقتدى به وأنتم إذا أنزلتم أنفسكم منزلة المقلِّد لأعدائكم جعلتم أنفسكم تحتهم وذللتم لهم وأنتم لا تشعرون .
فاحذروا - أيها المسلمون - هذه الأمور واجعلوها على بالكم ولا تتهاونوا بها؛ فإن الشيء إنما يُنقض عروةً عروةً ودينكم إذا فرطتم فيه شيئًا فشيئًا فإنكم ستبقون ولا شيء معكم من الدين .
إنني أعوذ بالله أن نرى أمتنا - الأمة الإسلامية - مقلِّدة لغيرها في أمور ليس فيها مصلحة لدينها ولا لمجتمعها، إنني أعوذ بالله أن أرى أمتنا الإسلامية ذليلة مهينة تعتمد على غيرها وتنسى ربها وتنسى الاستعانة بالله، تنسى التوكّل على الله، تنسى ما وعدَ الله به مَن تمسّك بدينه أن ينصره الله ويظهره على غيره، وإني أقول لكم من هذا المكان وكثير منكم يعلم ما أقول، إنني أقول: واللهِ لو تمسّكنا بديننا عقيدة وعملاً وقولاً ما استطاع أعداء الله وإن كثروا وعظمت قوّتهم ما استطاعوا أن ينالونا بشيء أبدًا كما قال الله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾ [آل عمران: 111] .
فاتَّقوا الله - عباد الله - وخذوها من ناصح مخلص لكم ألا تهينوا ولا تجعلوا أنفسكم في هوان باتّباع غيركم واتّباع أساليبه في الكلام حتى في تغيير اللغة؛ فإن هذا خطر عليكم، إني ألقيها الآن قلادة في أعناقكم وإنكم مسؤولون عن ذلك يوم القيامة فأعدّوا للسؤال جوابًا .
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تجعلنا مِمّن عرف قَدْر دينه، وأن تجعلنا مِمّن تمسّك به وعضّ عليه بالنواجذ، وأن تجعلنا مِمّن يقول الحق لا تأخذه في الله لومةُ لائم، وأن تجعلنا من الذين يحبون أن يغيظوا أعداء الله بكل ما يستطيعون من قوّة، وأن تجعلنا من الذين يُميّزون أعداء الله ويعرفون كيدهم ومكرهم وحقدهم على الإسلام وأهل الإسلام؛ إنك على كل شيء قدير .
اللهم تقبّل منّا يا رب العالمين، اللهم تقبّل منّا يا رب العالمين، اللهم تقبّل منّا يا رب العالمين، اللهم أصْلح لنا ولاة أمورنا، اللهم أصْلح لنا ولاة أمورنا، اللهم أصْلح لنا ولاة أمورنا صغيرهم وكبيرهم يا رب العالمين .
اللهم افْتح على قلوبهم ما يعرفون به كيد الأعداء ومكرهم وخداعهم وخيانتهم يا رب العالمين، اللهم أصْلح لولاة أمورنا بطانتهم واجعل لهم بطانة خير تدلّهم على الخير وتأمرهم به وتبيّنه لهم وأبْعد عنهم كل بطانة سوء يا رب العالمين؛ إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك أن تحمي هذه الصحوة الإسلامية الموجودة في شبابنا حتى يكونوا على علْم وبصيرة في دين الله وعلى حكمة في سلوكهم واتّباعهم لشريعة الله، اللهم إنا نسألك أن تنصر مَن قام بدينك، اللهم إنا نسألك أن تنصر مَن قام بدينك وأن توفّقهم لِمَا فيه صلاح دينهم ودنياهم؛ إنك على كل شيء قدير ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] .
اللهم صلِّ وسلّم وبارِك على عبدك ونبيّك محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
-------------
(1)أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين وسنة سيد المرسلين وجميع المسلمين والمسلمات، أخرجه في صحيحه المبارك، من حديث المسور بن مخرمة -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- في كتاب [الشروط] باب: في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط في قصة صلح الحديبية [2529] ت ط ع .
(2)أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- إمام أهل السنّة في مسنده في مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنه أجمعين، من حديث عمر رضي الله تعالى عنهما [4868-4869-5409]، وأخرجه أبو داوود -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [اللباس] باب: في لبس الشهرة، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما [3512] ت ط ع .
[م1] انظر إلى هذه القصة -قصة الحديبية- لِمَا فيها من العِبر والحكم البالغة، ذكرها الإمام العلامة حبْر زمانه ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه المبارك [زاد المعاد] في الجزء [3] من الصفحة [255-267] فجزاه الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين
اhttp://www.ibnothaimeen.com/all/khot...icle_514.shtml
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن شرور أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده الخير بيده ملكوت كل شيء، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى واعلموا أن من أهم العلوم وأنفعها علْم سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتاريخ حياته ومعرفة ما هو عليه في عباداته وأخلاقه ومعاملاته في أهله وأصحابه مع أوليائه وأعدائه ليتّبعه المؤمنون به في ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم الأسوة والإمام المقتدى به يهتدي المؤمنون بشريعته ويسيرون على سنّته .[وفي هذا الشهر - أعني: شهر ذي القعدة - من السنة السادسة من الهجرة خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة يريد العمرة ولم يعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته إلا في أشهر الحج فاعتمر في ذي القعدة ثلاث سنوات واعتمر مع حجه وكان قد أحرَمَ قارنًا في آخر ذي القعدة، فتكون عُمَرُه الأربع كلّها في شهر ذي القعدة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنة السادسة من الهجرة من المدينة إلى مكة يريد العمرة ومعه من أصحابه نحو ألف وأربعمائة فأحرَمَ من ذي الحليفة فلمّا علِمت قريش بذلك جمعوا له جموعًا ليصدّوه عن البيت ويقاتلوه على ذلك فسارَ النبي - صلى الله عليه وسلم - برعاية الله حتى إذا كان في الثّنيّة التي يهبط عليهم منها برَكَت ناقته وكان اسمها القصواء فزَجَرَها الناس، يقولون: « حَلْ حَلْ » بمنزلة قولنا: «حِيْ حِيْ» فزَجَرها الناس لتقوم فلم تقم فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء؛ أي: حَرَنت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بِخُلُق ولكنْ حبسها حابس الفيل، والذي نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زَجَرَها النبي - صلى الله عليه وسلم - فوثَبت فعدل عن قريش حتى نزل بأقصى الحديبية وفزعت قريش لنزوله عليهم فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ليخبرهم بِما يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه إنما يريد العمرة ما جاء يريد القتال ويدعوهم إلى الإسلام فبلّغ عثمان - رضي الله عنه - أبا سفيان وعظماء قريش ما بعثه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش لعثمان: إن شئتَ أن تطوف بالبيت فطُفْ به ؟ فقال عثمان رضي الله عنه: ما كنتُ لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتبست قريش عثمان عندها فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان قُتل فدعا صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى البيعة على القتال وألا يفرّوا إلى الموت وجلس تحت شجرة سَمُرَة في الحديبية فجعلوا يبايعونه وأخذ بيد نفسه فقال: هذه عن عثمان، وفي ذلك يقول الله عزَّ وجل: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (1 وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: 18-19]، وأخبَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يدخل النار أحدٌ بايَعَ تحت الشجرة .
الله أكبر ! ما أعظم هذه البشارة في كتاب الله، يُخبر الله - عزَّ وجل - أنه رضي عنهم إذْ يبايعونه تحت الشجرة ويُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يدخل النار أحَدٌ بايَعَ تحت الشجرة .
اللهم إنا نسألك أن تجمعنا بهم في جنّات النّعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين .
فبينما هم كذلك إذْ جاء بُديل بن ورقاء الخزاعي وكانت خزاعة ذوي نصح للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بِما أعدّت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنهم سيقاتلونه ويصدّونه عن البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم فإن شاؤوا ماددتهم مدّة ويُخلّوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جَمّوا وإن هم أبَوْا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفّذنّ الله أمره، فأخبر بُديل قريشًا بِما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال لقريش: إن هذا - يعني: النبي صلى الله عليه وسلم - قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته ؟ فقالوا: ائته، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يكلّم النبي صلى الله عليه وسلم، كلّما تكلّم بكلمة أخذ بلحية النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المغيرة بن شعبة بن أخ عروة قائمًا على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه السيف وعليه المغْفَر فكلّما أهوى عروة بيده ضربها المغيرة بنَعْل السيف وقال: أخّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفرّوا ويدعوك، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - لعروة: امصص بَظْر اللات، أنحن نَفِرّ عنه وندعه ؟ ثم جعل عروة يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فوالله ما تنخّم نخامة إلا وقعت في كف واحد منهم، فدلَكَ بها وجهه وجلْده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه؛ أي: على فضل ماء وضوئه وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده وما يُحدّون إليه النظر تعظيمًا له، فلمّا رجع عروة إلى قريش قال: واللهِ لقد وفدتُ على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي فما رأيت ملِكًا قط يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمدًا، ثم ذكر لهم ما شاهدَ من الصحابة وما كانوا يفعلونه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا قريش، إنه قد عرَضَ عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقام رجل من بني كنانة فقال: يا قريش، دعوني آته؛ يعني: آتِ النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ائته، فلمّا أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظّمون البُدْن؛ أي: يعظّمون الإبل المهداة إلى البيت، فابعثوها إليه فبعثوا بالإبل إلى هذا الرجل المقبل وأقبل الناس إليه يلبّون فقال: سبحان الله ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدّوا عن البيت، فلمّا رجع إلى قريش قال: رأيت البُدْن قد قلّدت وأُشعرت فما أرى أن يصدّوا عن البيت، ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو بن عبد شمس وكان خطيب قريش ليُصالح النبي صلى الله عليه وسلم، فلمّا وصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الكاتبَ ليكتب المعاهدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: اكتبُ باسمك اللهم؛ لأن قريشًا كانوا ينكرون اسم الرحمن، فقال المسلمون: واللهِ لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: واللهِ لو كنّا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكنْ اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: واللهِ إني لرسول الله وإن كذّبتموني، اكتب محمد بن عبد الله، وإنما تساهَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في موافقة سهيل لِمَا في ذلك من تعظيم حرمات الله بحقن الدماء الحاصل بهذا الصلح وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم جرى الصلح العظيم الذي سَمّاه الله فتحًا وهذه بنوده فاسمعوها: على ألا يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة هذا العام، وعلى أن يعتمر في العام المقبل فيخلّوا بينه وبين مكة ثلاثة أيام فقط ليس معه إلا سلاح الراكب والسيوف في القِرَب، وعلى أن مَن جاء من قريش إلى المسلمين ردّوه إلى قريش وإن كان مسلمًا ومَن جاء إلى قريش من المسلمين لم يردّوه، وعلى وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين، وعلى أن مَن أحب أن يدخل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - دخَلَ فيه ومَن أحب أن يدخل في عهد قريش دخَلَ فيه، فهذه خمسة شروط .
فراجع المسلمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فقال: نَعَم، إنه مَن ذهب منّا إليهم فأبعده الله ومَن جاء منهم فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا، وكان أشدّ مَن تكلّم في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ألَسْنا على الحق وعدوّنا على الباطل ؟ قال: بلى، قال: فلِمَ نعطي الدّنِيّة في ديننا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قال عمر: قلتُ أوَلَسْت كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى، ولكنْ قال له صلى الله عليه وسلم: فأخبرتك أنّا نأتيه العام؛ يعني: هل أخبرتك أنّا نأتيه هذه السنة ؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطّوف به، ثم ذهب عمر إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال له مثلما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فردّ عليه أبو بكر بمثل ما ردّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء بسواء وقال لعمر: استمسك بغرزه فواللهِ إنه على الحق، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأُعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلّمت به يومئذٍ حتى رجوت أن يكون خيرًا، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بعد هذا الصلح أن ينحروا ما معهم من الهدي وأن يحلقوا رؤوسهم، ونَحر هديه وأمر حالِقه فحلَقَ رأسه فلمّا رأى الصحابة ذلك قاموا فنحروا وحلق بعضهم بعضًا حتى كاد يقتل بعضهم بعضًا من الغَمّ مِمّا صنع بهم المشركون من صدّهم عن بيت الله الذي أولى الناس به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
وفي العام المقبل خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة معتمرًا في ذي القعدة وأمَرَ أصحابه أن يكشفوا عن المناكب اليمنى وأن يرملوا في طوافهم ليرى المشركون جلَدهم وقوّتهم وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب إغاظة المشركين بكل ما يستطيع.
ولقد كان في غزوة الحديبية من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان، فلقد شكا الصحابة إليه قلّة الماء وبين يديه إناء يتوضأ منه فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في هذا الإناء فجعل الماء يفور من بين يديه كأمثال العيون فشربوا وتوضؤوا وكانوا نحو ألف وأربعمائة](1)[م1] .
أيها المسلمون، إن هذه القصة قصة عظيمة فيها فوائد كثيرة وحِكَم بالغة عظيمة فمَن أراد الاستزادة منها فلْيرجع إليها في [ صحيح البخاري ] أثناء باب الشروط وفي [ زاد المعاد ] لابن القيم رحمهما الله جميعًا .
أيها المسلمون، هكذا كان أعداء الإسلام يحاولون صدّ المسلمين عن دينهم وعن شعائرهم تارةً بالقوّة وتارةً بالمكر والخديعة، فاحذروهم واعرفوا مكرهم وخديعتهم وقابلوهم بِما هو أشدّ فإنهم يمكرون ﴿وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30] .
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا مِمّن يعرفون أعداءهم ويحذرونهم، اللهم اجعلنا أشداء على الكفار رحماء بيننا، اللهم ﴿اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 147]، واغفر لنا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين .
والحمدُ لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا كما أمَر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لِمَن شكر، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كَرِهَ ذلك مَن أشرك به وكفر، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله سيّد البشر، الشافع المشفّع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب ومعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بدا الفجر وأنور، وسلّم تسليمًا كثيرًا .أما بعد:
أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى واعلموا أن الأمة الإسلامية أمة فريدة في دينها، أمة فريدة في أخلاقها، أمة فريدة في معاملاتها، أمة بَنَت عقيدتها وعبادتها وأخلاقها ومعاملاتها على الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذلك لا ينبغي لهذه الأمة العظيمة أن تكون ذيلاً وذنبًا لغيرها من أصناف الكفرة والملحدين وأتباعهم وأذنابهم .إن الواجب علينا ونحن أمة مسلمة نفخر بدين الإسلام ونعتزّ به ونرى أنه قربة لنا إلى الله ونرى أنه عزّة وكرامة لنا في الدنيا ونرى أننا إذا تمسّكنا به فسوف نكون فوق الخلق لقول الله تعالى: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 35] .
إنني أعجب لقوم يحاولون أن يقلّدوا المشركين والملحدين والمنافقين في أعمالهم وهم يعلمون أن نبيّهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن تشبّه بقوم فهو منهم»(2) .
لقد سمعت من بعض الناس مَن أبدل تحيّة الإسلام - وهي: السلام عليكم - بتحية النصارى بلغة النصارى وهذا يُخشى أن يقلب الله قلبه حتى يكون موافقًا للنصارى في عقائدهم؛ لأن هذا الرجل - والعِلْم عند الله - ما عدَلَ عن تحية المسلمين إلى تحيّة الكفار إلا لإعجابه بالكفار وأنهم نزلوا في قلبه منزلة عظيمة، فاحذروا - أيها المسلمون - ذلك واحذروا أن تتعوّدوا لغة غير العرب لتتخاطبوا بها؛ فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يضرب الناس على ذلك؛ أي: يضرب مَن يعتاد أن يتخاطب بلغة غير اللغة العربية يضربه لئلا يتخاطب بلغة غير اللغة العربية؛ لأنكم تعلمون أن لغة القوم هي قِوامهم وتعلمون أيضًا أن الدين الإسلامي الذي هو كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كان باللغة العربية فإذا هجرتم اللغة العربية فإن ذلك يكون سببًا لضعف فهمكم لدينكم وهذا أمر خطير كما أن أعداءكم من النصارى وغير النصارى إذا رأوا أنكم تتعشّقون لغتهم وتتكلّمون بها فإنهم يفرحون بذلك فرحًا عظيمًا؛ لأن من الأمور التي فُطِر الناس عليها أن الأعلى هو الذي يقلَّد وهو الذي يُقتدى به وأنتم إذا أنزلتم أنفسكم منزلة المقلِّد لأعدائكم جعلتم أنفسكم تحتهم وذللتم لهم وأنتم لا تشعرون .
فاحذروا - أيها المسلمون - هذه الأمور واجعلوها على بالكم ولا تتهاونوا بها؛ فإن الشيء إنما يُنقض عروةً عروةً ودينكم إذا فرطتم فيه شيئًا فشيئًا فإنكم ستبقون ولا شيء معكم من الدين .
إنني أعوذ بالله أن نرى أمتنا - الأمة الإسلامية - مقلِّدة لغيرها في أمور ليس فيها مصلحة لدينها ولا لمجتمعها، إنني أعوذ بالله أن أرى أمتنا الإسلامية ذليلة مهينة تعتمد على غيرها وتنسى ربها وتنسى الاستعانة بالله، تنسى التوكّل على الله، تنسى ما وعدَ الله به مَن تمسّك بدينه أن ينصره الله ويظهره على غيره، وإني أقول لكم من هذا المكان وكثير منكم يعلم ما أقول، إنني أقول: واللهِ لو تمسّكنا بديننا عقيدة وعملاً وقولاً ما استطاع أعداء الله وإن كثروا وعظمت قوّتهم ما استطاعوا أن ينالونا بشيء أبدًا كما قال الله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾ [آل عمران: 111] .
فاتَّقوا الله - عباد الله - وخذوها من ناصح مخلص لكم ألا تهينوا ولا تجعلوا أنفسكم في هوان باتّباع غيركم واتّباع أساليبه في الكلام حتى في تغيير اللغة؛ فإن هذا خطر عليكم، إني ألقيها الآن قلادة في أعناقكم وإنكم مسؤولون عن ذلك يوم القيامة فأعدّوا للسؤال جوابًا .
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تجعلنا مِمّن عرف قَدْر دينه، وأن تجعلنا مِمّن تمسّك به وعضّ عليه بالنواجذ، وأن تجعلنا مِمّن يقول الحق لا تأخذه في الله لومةُ لائم، وأن تجعلنا من الذين يحبون أن يغيظوا أعداء الله بكل ما يستطيعون من قوّة، وأن تجعلنا من الذين يُميّزون أعداء الله ويعرفون كيدهم ومكرهم وحقدهم على الإسلام وأهل الإسلام؛ إنك على كل شيء قدير .
اللهم تقبّل منّا يا رب العالمين، اللهم تقبّل منّا يا رب العالمين، اللهم تقبّل منّا يا رب العالمين، اللهم أصْلح لنا ولاة أمورنا، اللهم أصْلح لنا ولاة أمورنا، اللهم أصْلح لنا ولاة أمورنا صغيرهم وكبيرهم يا رب العالمين .
اللهم افْتح على قلوبهم ما يعرفون به كيد الأعداء ومكرهم وخداعهم وخيانتهم يا رب العالمين، اللهم أصْلح لولاة أمورنا بطانتهم واجعل لهم بطانة خير تدلّهم على الخير وتأمرهم به وتبيّنه لهم وأبْعد عنهم كل بطانة سوء يا رب العالمين؛ إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك أن تحمي هذه الصحوة الإسلامية الموجودة في شبابنا حتى يكونوا على علْم وبصيرة في دين الله وعلى حكمة في سلوكهم واتّباعهم لشريعة الله، اللهم إنا نسألك أن تنصر مَن قام بدينك، اللهم إنا نسألك أن تنصر مَن قام بدينك وأن توفّقهم لِمَا فيه صلاح دينهم ودنياهم؛ إنك على كل شيء قدير ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] .
اللهم صلِّ وسلّم وبارِك على عبدك ونبيّك محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
-------------
(1)أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين وسنة سيد المرسلين وجميع المسلمين والمسلمات، أخرجه في صحيحه المبارك، من حديث المسور بن مخرمة -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- في كتاب [الشروط] باب: في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط في قصة صلح الحديبية [2529] ت ط ع .
(2)أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- إمام أهل السنّة في مسنده في مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنه أجمعين، من حديث عمر رضي الله تعالى عنهما [4868-4869-5409]، وأخرجه أبو داوود -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [اللباس] باب: في لبس الشهرة، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما [3512] ت ط ع .
[م1] انظر إلى هذه القصة -قصة الحديبية- لِمَا فيها من العِبر والحكم البالغة، ذكرها الإمام العلامة حبْر زمانه ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه المبارك [زاد المعاد] في الجزء [3] من الصفحة [255-267] فجزاه الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين
اhttp://www.ibnothaimeen.com/all/khot...icle_514.shtml