ماذا نسمي الحاكم العبيدي؟
في ذكرى أعظم ليلة أهلت على الوجود, ليلة القدر العظمى في ليلة السابع والعشرين من رمضان الماضي, فتحت المذياع لأرى ما شأن المسلمين, وكيف يواجهون الأحداث, وبوجه أخص بعد النكبة النكباء التي ألمت بهم, فسمعت احتفالا أقيم في مسجد من أكبر مساجد الشرق الأوسط فماذا سمعت؟
وفد على المسجد الآلاف تتلوها الآلاف يهيأ إليك من احتكاك أقدامهم وانتشار همسات أصواتهم أن العدد قارب المليون, ولا بد أنّ الأضواء كانت لألأة أخاذة, وبعد قليل حضر جوهر الحفلة ولوائها, وهو مقرئ شهير فاستهل التلاوة بقوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}, برزانة وتؤدة, فلم يكن هناك إنصات ولا استماع, ثم عدَّل المقرئ طريقته, وابتدأ التنغيم والتقطيع على مقاطع الغناء, فعلت أصوات الاستحسان الصاخبة من كل جانب (الله، الله يا سي الشيخ) ثم إذا صوت عال يصيح: (صلي على النبي) مادّاً في الياء, علامة على الطرب, فاستجاب المقرئ, فكان يعيد الآيات التي نالت الاستحسان أربع مرات أو تزيد, علمت أن القوم إنما جاءوا ليستمعوا إلى حفلة طرب وغناء, والذي أكد هذا المعنى أنّ المقرئ حين وصل إلى قوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا} وقف المقرئ على {يَا وَيْلَنَا}, فإذا الآلاف المؤلفة تصرخ دفعة واحدة الله، الله أعد! .. وهكذا فعلوا بعد آيات العذاب ..
أغلقت المذياع, وقلت لنفسي: يا حسرة على المسلمين, إن هذه الآيات التي تفتت الأكباد وتدر الدمع منهمرا لم يبق لها من أثر لديهم إلا التطريب والتنغيم, تأملت قليلا فعلمت أن الذي سنّ هذه الحفلات في العالم الإسلامي ابتداء إنما هم الذين سموا أنفسهم (بالفاطميين), وما هم إلا العبيديون, وينسبون إلى خليفتهم الأول (عبيد الله بن ميمون القداح).
ومن أعجب الظواهر التي برزت في عصرنا الحاضر محاولة التهوين من الجرائم الكبرى, وإن شئت فقل: محاولة العطف على الجريمة, فمن ذلك المطالبة المستمرة بإلغاء عقوبة القتل, حتى عن القتلة الذين أزهقوا عشرات الأنفس البريئة, ووصلت الدناءة عندهم إلى عدم اعتبار اللواط جريمة, والعياذ بالله.
وإن دلت هذه الظاهرة على شيء إنما تدل على سريان الانحراف, وفشو المرض في القلوب, وقديما قيل: "النقص يهوى النقص". فمن هذا القبيل ما صدر عن الدولة العبيدية بوجه عام, وعن خليفتها السادس الحاكم بأمر الله, وبوجه أخص من هدم وتمرد على الله, لقد أصدر هذا الحاكم أوامره بتحويل الليل إلى نهار, والنهار إلى ليل, فأمر بقفل الحوانيت نهارا وفتحها ليلا, ومما روي في هذا الصدد أنه مر على صانع يعمل في حانوته نهارا, فلما سأله عن سبب مخالفته الأمر أجاب الصانع: "أنا لست في نوبة عمل الرسمية, وإنما كثرت أشغالي, فأنا في نوبة السهر, والسهر لا يكون إلا نهارا".
كما حرَّم على الناس أكل الزيت والعسل والملوخية, ومن ذلك أتت تسميتها (ملوكية), ثم قلبت الكاف خاء. وقد ذهب كتّاب التاريخ في أمر الحاكم مذاهب شتى؛ فقال بعضهم: "إنّ ما صدر عنه مجرد شذوذ", وقال الزميل علي أحمد باكثير: "إنها مجرد عقدة نفسية لا أكثر ولا أقل", وهذه الأحكام ما صدرت في الحقيقة إلا عن جهل مطبق بواقع الرجل, وواقع أسرته. وبالرغم من أن فريقا آخر نسبه إلى العته والجنون, إلا أن هذا الفريق ما زال بعيدا عن فهم السر الذي قامت عليه تصرفات الحاكم, وتصرفات أسرته.
وفريق ثالث من المؤرخين وقف موقف المدافع عنه, وإذا عرفت أنّ على رأس هذا الفريق الدكتور (فلييب حتى) النصراني حيث يقول عن الحاكم العبيدي: "لقد اتهموه مدونو الأخبار من خصومه بغرابة الأطوار"، إذا عرفت هذا بطل عجبك؛ فأمثال (فلييب حتى) يفرحون بكل عامل فيه هدم للإسلام, ولكن العجب أن يتابع (فلييب حتى) مؤرخ حديث لامع, وهو الدكتور أحمد شلبي حيث يقول - مدافعا عن الحاكم -: "وقد كتب تاريخ الحاكم إثر وفاته, وقد عادت السلطة إلى من اضطهدهم الحاكم, أولئك الذين كان يهمهم أن يبرزوه معتوها أو مجنونا ليصرفوا الناس عن البحث عن قتلته, أو الكشف عما في القضية من أسرار", ولكن الدكتور شلبي إنما تابع في مقالته هذه الدكتور (حتى) جهلا منه بسوء مقصد الدكتور (حتى), ولذلك قال الدكتور شلبي - في ختام كلمته –: "وقد فطن الدكتور (فلييب حتى) لموقف التاريخ من الحاكم".
ولكي نفهم هذا الحاكم العبيدي فهما أعمق يجب أن نرجع بعض الخطوات إلى الوراء.
تنسب الدولة العبيدية إلى مؤسسها (عبيد الله بن ميمون القداح) الذي ادعى الانتساب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق من البيت الحسيني, ولقد استطاع عبيد الله أن يؤسس الدولة العبيدية في مكان ما من تونس, سماها (المهدية) في سنة 297هـ, وخلفه القائم ثم المنصور فالمعز - الذي انتقل إلى مصر 362هـ بعد أن أسس له قائده جوهر للصقلي القاهرة المعزية سنة 969م, ولذلك يحاولون إقامة العيد الألفي لتأسيس القاهرة - ثم العزيز ثم الحاكم هذا.
وفرقة الإسماعيلية هم من أعنف الفرق الهدامة في الإسلام, بل وفي العالم بأسره, فهم الذين حرفوا الدين, ونقضوا قواعده, ولما عجزوا عن تحريف القرآن لجأوا إلى تحريف المعنى, فيوسوس لهم الشيطان بفكرة غاية في الخبث واللؤم, تلك أنّ لكل نص ظاهرا وباطنا, فسرح خيالهم اللئيم في أوحال هذا الباطن, حتى ركزوا فيه كل الوثنيات, والخزعبلات, والإلحاديات, ما خطر منها بالبال, وما لم يخطر حتى نقضوا كل العبادات, والفرائض, مثال ذلك:
الحلال: هو الواجب إظهاره من عقائدهم..
الحرام: هو الواجب ستره وكتمانه.
وعلى هذا الأساس يحرّمون الحلال, و يحلون الحرام. والصلاة عندهم هي صلة الداعي, وموالاة الإمام. وأما الزكاة فليست إلا إيصال الحكمة إلى مستحق, وبناءا على هذا يبطلون الصلاة والزكاة, بل وجميع الفرائض, فالصيام عندهم ليس سوى الإمساك عن إفشاء سر الإمام, وأما الحج فليس إلا القصد إلى صحبة الأئمة والسادة.
والظلم عندهم وضع الإمام في غير آل محمد صلى الله عليه وسلم, والجبت عندهم هو أبو بكر الصديق, والطاغوت هو عمر رضي الله عنهما, وبرّأهما من وصفهم اللعين.
ودليلهم في إسقاط العبادات قوله تعالى في سورة الحجر: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}, واليقين عندهم: هو المعرفة التامة بعلم التأويل والباطن, وعندهم تسقط العبادة ويسقط التكليف قبحهم الله.
ثم تطرقوا إلى ذي الجلال سبحانه فقالوا: إنّ الله - سبحانه وتعالى عما يصفون - إنما هو تأويل الكلمة, أما النبوة عندهم فليست سوى تنصيب المرشد, والدليل والباب, وهي وظائف احتكروها هم بزعمهم.
أما القيامة فليست عندهم سوى قيام الشرائع بظهور صاحب الزمان ..الخ.
من ذلك يتضح مدى إيغالهم في التخطيط للهدم عن طريق هذا الباطن الخبيث...
والنظرة العميقة لتاريخ العبيديين تدلنا بوضوح على أنّ نِحلَتَهُم إنما قامت على الهدم والإلحاد, ثم تأليه ملوكهم,من أول عبيد الله إلى آخرهم, غاية ماهنالك أنّ أوائلهم قد اضطروا إلى إخفاء غرضهم السيئ حقبة من الزمن, فأخرّوا إعلان الألوهية إلى أجل حتى لا ينكشف مستورهم, تماما كما يفعل الشيوعيون والإشتراكيون من تقسيم دعوتهم على مراحل ثلاث أو أكثر, حسب الظروف و المُلابَسات.
وبالرغم من هذا التستر ومن إحكامهم كتمان الأمر كانت نواياهم تبدو سافرة, الفينة بعد الفينة, ففي عهد القاسم بن عبيد الله المهدي ثاني خلفائهم أصدر هذا القاسم سنة (326) تعليمات بسب الصحابة عامة, والشيخين العظيمين خاصة, فقامت ضده ثورة عارمة قادها أبو زيد مخلد بن كيراد الملقب بـ (صاحب الحمار), وقد ظلّت مستعرة عشر سنوات, وهلك القاسم وهي قائمة, وقد أخفى ابنه المنصور خبر وفاته حتى لا يتقاعس ضده, ولم يتمكن المنصور من إخمادها إلا بعد عناء كبير.
فعلَّمتهم هذه الثورة أنّ الأوان لم يئن لنشر ترّهاتهم حتى إذا جاء المعزّ وأنشأ القاهرة أوعز إلى شاعره ابن هانئ الأندلسي بالتنويه بتأليههم.
فمن أبياته المشهورة في هذا الصدد:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فافعل أنت الواحد القهار
وقد ظن بعض السذّج أنها مجرّد غلو من ابن هانئ, ولكن إذا علمت أنه دأب على هذا الدرب تيقّنت أنه طريق مرسوم, اسمع إليه حين يصف المعزّ بصفات ذي الجلال سبحانه:
ندعوه منتقما عزيزا قادرا غفار مويقة الذنوب صفوحا
وفي قصيدة أخرى يقول في المعز:
فيا رازقا من كفه نشأ الحيا وإلا فمن أسرارها نبع البحر
وعنده من هذا القبيل شواهد كثيرة جدا.
وقد ثبّت المعزّ أركان دولته بعد اتخاذ القاهرة عاصمة له, وجاء ابنه العزيز فضمّ إليها الشام والحجاز. ثم جاء الحاكم بأمر الله ابن العزيز فوجد دولته ثابتة الأركان, عزيزة المنال, فما عليه من بأس لو كشف المستور, وأبرز المخبوء, فهو لم يحرم العمل نهارا والسكون ليلا إلا على اعتبار أنه مدير الكون, فمن حقه أن يجعل الليل نهارا والنهار ليلا, وعلى هذا الأساس حرّم ما حرّم من الطعام والملبس, فهو وحده الذي يحلّ ما يشاء ويحرم ما يشاء, قبّحه الله.
وليس أدلّ على هذا من أنه أمر الناس بالسجود له, ولنستمع الآن إلى أئمة المؤرخين من السلف الذين فطنوا إلى الفاطمية وحقيقة أمر الحاكم:
1- قال فيه الحافظ ابن كثير في الجزء الثاني عشر من البداية والنهاية: "كان جباراً عنيدا وشيطانا مريدا, أخزاه الله", وقال: "كان يروم أن يدّعي الألوهية كما ادّعاها فرعون, فأمر أهل مصر إذ قاموا عند ذكره خرُّوا له سجّداً, حتى إنه ليسجد بسجوده من في الأسواق", ثم ذكر أن العامة بمصر كانوا يكرهونه, ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه.
2- ثم انظر إلى ابن الجوزي وما قال فيه: "ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عنَّ له أن يدَّعي الربوبية, فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد.. يا أحد.. يا محيي.. يا مميت قبحهم الله جميعا".
3- أما الإمام السيوطي فقد أسقطهم, وأهمل ذكرهم في كتابه (تاريخ الخلفاء), وفي ذلك يقول في مقدمة الكتاب: "ولم أورد أحداً من خلفاء العبيدين؛ لأنّ إمامتهم غير صحيحة لأمور؛ منها:
أ- أنهم غير قرشيين, وإنما سمَّتهم بالفاطميين جهلة العوام, و إلاّ فجدهم مجوسي, فقد كان جدُّهم يسمى سعيداً, وكان أبوه يهودياً حدّاداً تشابه.
ب- ومنها أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام ومنهم من أمر بالسجود له" إلى أن قال: "ومثل هؤلاء لا تصح لهم إمامة".
4- وقال فيهم القاضي الباقلاني: "وكان المهدي عبيد الله باطنيا خبيثا حريصاً على إزالة ملة الإسلام, أعدم العلماء والفقهاء ليتمكّن من إغواء الخلق, وجاء أولاده على أسلوبه, أباحوا الخمر, والفروج, وأشاعوا الرفض".
5- وقال الذهبي: "وكان القائم بن المهدي شرّاً من أبيه, زنديقا ملعوناً, وكان العبيديون على ملة الإسلام شرّاً من التتر".
وبعد, فواجبنا أن نسمّيَ الأسماء بمسمياتها, فلا نسمي السم ترياقا, ولا البرص بياضا, ولا الهدم اشتراكية. ولحكمة بالغة نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن نسمي العنب كرماً؛ لأنّ تلك التسمية الجميلة قد تنسحب إلى أم الخبائث (الخمر), المستخرجة من العنب, فنزينها ونحببها للناس.
ولنقل في مثل الحاكم العبيدي وأسرته ما قاله الأئمة الأعلام,كابن كثير, والذهبي, والسيوطي, والباقلاني, ولا نقتصر على مجرّد الشذوذ, أو العقيدة النفسية, أو الشطط,بل الصراحة في مثل هذه الأقوال حتم لازم.
*******************
بقلم : رمضان أبو العز
المصدر : مجلة الجامعة الاسلامية – المدينة النبوية – العدد 40