خطبة أبي طالب في زواج الرسول صلى الله عليه و سلم من خديجة رضي الله عنها :
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد المرسلين و إمام المتقين و آله و أصحابه الطيبين , و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :
فهذه خطبة ألقاها عمّ النّبي صلى الله عليه و سلم أبو طالب في مناسبة زواج الرسول صلى الله عليه و سلم خديجةَ بنت خويلد رضي الله عنها, ذكرها الشيخ محمد عطية سالم رحمه الله نموذجا للخِطبة في العصر الجاهلي و بالذات الخِطبة المتعلقة بالنكاح .
أنقلها – و لا أدري مدى صحتها - مع ذكر تعليقات الشيخ عليها و تقديمه دراسة حول مضمونها , اشتملت على فوائد لطيفة .
قال الشيخ رحمه الله :
من أمثل الخطب في النكاح خطبة أبي طالب في زواج الرسول صلى الله عليه و سلم بالسيدة خديجة رضي الله عنها , و لا يخلو منها كتاب أدب (1) . قال :
الحمد لله الذي جعلنا من ذريّة إبراهيم , و زرع إسماعيل , و جعل لنا بلدًا حرامًا و بيتًا محجوجا , و جعلنا الحكّامَ على النّاس , ثمّ إنّ محمّدَ بنّ عبدِ الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح عليه برًّا و فضلا و كرما و عقلا و إن كان في المال قُلٌّ , فإنّ المال ظلٌّ زائلٌ , و عارية مسترجعة , و له في خديجة بنتِ خويلدِ رغبة , و لها فيه مثل ذلك و ما أحببتم من الصداق فَعَلَيَّ .
دراستها :
أوّلا – موضوعها - : ظاهر فيه طلب النكاح من كريم إلى فاضلة .
ثانيا – جوّها - : لقد قيلت في خِطبة نكاح سيّد قومه , و من وُصِف برجاحته بِرًّا و عقلا و فضلا و كرما , من سيّدةٍ فاضلةٍ من فضليات نساء قومها , فالموقف باسم و الجوّ مشرق .
ثالثا - العرض - : لقد جاءت حديث شكرٍ , و اعترافا بفضل , و اعتزازا بأصل , أجاد عرضها , و أحسن تقسيمها .
ابتدأ مقدّمتها بحمد الله و الثناء عليه مع بيان موجبات ذلك , متضمّنا عراقة الأصل و بعد المنزلة فقال : " الحمد لله الذي جعلنا من ذرّية إبراهيم و زرع إسماعيل " , و في ذكر الذرّيّة و الزرع , إثارةُ الشعور و انتباهُ الذهن إلى اتجاه الموضوع , و مدى ارتباط النكاح بالذرّيّة , و الذرّيّة بالزرع .
ثمّ جاء حسن الانتقال إلى حاضرهم , في بلد حرام , و حول بيت محجوج في ملك أصيل ممّا يعلي شأنهم و يبيّن رفيع منزلتهم , ممّا يتناسب و موقف الخاطب بعرض ما يرغب فيه من مصاهرة أمثاله .
الموضوع :
و من هذا كلّه إلى الموضوع , "ثمّ إنّ محمّدَ بن عبد الله ", و هو المعروف لهم بشخصه و نسبه , ثمّ وصفه بصفات المعاني المحمودة , و قارن بينه و بين جميع فتيان قريش , و رجّحه عليهم , ممّا يقوّي الرغبة فيه , و يسرع بالاستجابة إليه . "و له في خديجة بنت خويلد رغبة " , تعبير لطيف و أسلوب رفيع يحفظ الكرامة و يصون المروءة , " و لها فيه مثل ذلك " , تقابل مقبول و رغبة متبادلة , يمنع التردّد في الإجابة .
إنّ ممّا يستلفت النظر ما عُلِمَ أنّ خديجة رضي الله عنها هي التي رغبت إليه و ارتضته لنفسها , و لم تجد لسبق الرغبة هنا أثرا في هذه الخطبة . ممّا يعطينا صورة عن مقام الخِطبة في النكاح أنّها عامل تكريم , و كرامة المرأة في تمنُّعِها و إبائها , و كرامة الرجل في تقدّمه و إغلاء مطلوبه عنده , و لذا بدأ أبو طالب في تقديم إعلان رغبة محمد قبل رغبة خديجة . ثمّ أعلن استعداده لما أحبّوا من الصداق فقال : " و ما أحببتم من الصداق فعليّ " , فكأنّ هذا العرض كالخاتمة , يشعر بأنّهم قد استجابوا بالفعل و كأنّه لم يبق إلا الصداق .
و قد اعتذر عن قلّة مال ابن أخيه و تحمَّل عنه الصداق و لم يقصر لهذا السبب بل جعله وفق محبّتهم هم لا مماكسة (2) و لا مشارطة (3) .
الخاتمة :
و يمكن أن يقال : إنّ خاتمة هذه الخطبة مقتضبة . و هو كذلك لأنّ الغرض من الخاتمة إنّما هو تلخيص ما سبق من عرض الموضوع ليُلِمَّ به السامع في إيجاز .
و هنا لا حاجة إلى إلمام و لا إلى إيجاز لأنّ الغرض معروف و النتيجة واضحة , و لكأنّه أشار إليها بأنّها حاصلة و منتهية , بأنّهم أجابوا و تمّ الرضا و القبول لمجرّد عرض الخِطبة . و لذا بادر بالصداق مع أنّه من المتعارف أنّه لا يذكر الصداق إلا بعد إعلان الرضا و القبول . و هو هنا شعر بها و اطمأنّ إلى إجابتهم , و بهذا الاطمئنان تنتهي المهمّة فلا حاجة إلى خاتمة تستوعب ما فات أو توجزه لسامع ما دامت المهمّة قد تمّت و حصل القبول و الموافقة . و لذا بادرهم بالصداق كما يحبّون .
و من هنا نعلم أنّه كما يمكن في بعض الحالات ترك المقدمة أو إيجازها لوجود ما يغني عنها أو لضيق الوقت , فكذلك الخاتمة قد تُتركُ أو تُوجز لانتهاء المهمّة و حصول المطلوب .
بل قد تترك الخطبة كلّها إذا انتهت مهمّتها كما في أمثلتهم : ( قطعت جهيزةُ قولَ كلِّ خطيب ) . (4)
(1) ذكر هذه الخطبة كذلك صاحب كتاب : سبل الهدى و الرشاد في سيرة خير العباد – الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي المتوفى سنة 942 هـ - عن أبي الحسين بن فارس الجزء الثاني . الصفحة 224 .
(2) المماكسة : المماكسة في البيع انتقاص الثمن و استحطاطه . لسان العرب ص 4248 .يريد و الله أعلم دون أن يطلب إنقاص ثمن المهر .
(3) المشارطة : لم أعثر على كلام واضح حولها , و لعلّ المقصود منها تقديم المهر دون اشتراط شروط لأجل كونه كثيرا .
مجموعة الرسائل المدنية للشيخ عطية محمد سالم . الجزء : 2 , الصفحة : 347 – 348