بسم الله الرحمن الرحيم
من آثار الفتن حصول الشر وفوات الخير – شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.قال الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله تعالى :
من آثار الفتن وعواقبها أن من يدخل في الفتنة ويتورط فيها يبوء بالعواقب المردية ولا ينال خيراَ، يبوء بالعواقب المردية والمآلات السيئة وفي الوقت نفسه لا يُحصل خيراً، وشيح الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تتبع جملة من الفتن التي دارت في الأزمنة قبله ورصدها رحمه الله وذكر في كتابه منهاج السنة ([1]) خلاصة جميلة نافعة مفيدة لمآلات تلك الفتن ، فقال رحمه الله : وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير".
وذكر أمثلة كثيرة لفتن حصلت، ثم لخص نتاج وآثار تلك الفتن فقال رحمه الله تعالى : " فلا أقاموا ديناً ولا أبقوا دنيا".
أي ما من تصدروا تلك الفتن وسعوا فيها ما أقاموا ديناً ولا أبقوا دنيا ، لأن الفتنة إذا ثارت وقع القتل ويكثر الهرج ويموج الناس وتحصل الفتن والعواقب السيئة ولا يُحصل مثير الفتن أي خير([2] ).
ونورد هنا كلام شيخ الإسلام كاملاً إتماماً للفائدة مع بعض التعليق اليسير :
قال رحمه الله تعالى :
" وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد ([3] ) بالمدينة وكابن الأشعث ([4] ) الذي خرج على عبد الملك ([5] ) بالعراق وكابن المهلب ([6] ) الذي خرج على ابنه ( [7]) بخراسان وكأبي مسلم( [8]) صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضا وكالذين خرجوا على المنصور([9] ) بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة فإن عبد الله بن علي([10] ) وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقاً كثيراً وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور .
وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابهم فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين والله يغفر لهم كلهم وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث أين كنت يا عامر قال كنت حيث يقول الشاعر:
عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأنَسْتُ بالذِّئْبِ إذْ عَوَى وصَوَّتَ إنْسَانٌ فَكِدْتُ أطَيْرُ ([11] )
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء
وكان الحسن البصري يقول : "إن الحجاج عذاب الله فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع " فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} " المؤمنون 76 ) وكان طلق بن حبيب ( [12]) يقول : "اتقوا الفتنة بالتقوى فقيل له أجمل لنا التقوى فقال أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله "رواه أحمد وابن أبي الدنيا ( [13]) وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين وباب قتال أهل البغي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشتبه بالقتال في الفتنة وليس هذا موضع بسطه ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب واعتبر أيضا اعتبار أولى الأبصار علم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور ولهذا لما أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتباً كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج وغلب على ظنهم أنه يقتل حتى إن بعضهم قال أستودعك الله من قتيل وقال بعضهم لولا الشفاعة لأمسكتك ومصلحة المسلمين والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد لكن الرأي يصيب تارة ويخطيء أخرى فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتلوه مظلوماً شهيداً وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص
الخير بذلك وصار ذلك سبباً لشر عظيم وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن كما كان قتل عثمان-رضي الله عنه- مما أوجب الفتن وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد وأن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله: "إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"([14] ) ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة ولا بخروج على الأئمة ولا نزع يد من طاعة ولا مفارقة للجماعة.
وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصحيح كلها تدل على هذا كما في صحيح البخاري من حديث الحسن البصري سمعت أبا بكرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" ([15] ) فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد وحقق ما أشار إليه من أن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" وهذا يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان محبوباً ممدوحاً يحبه الله ورسوله ".
[1] - منهاج السنة النبوية، ج3، ص 527-531.
[2] - في شريط آثار الفتن.
[3] - هو : يزيد بن معاوية بن صخر (أبي سفيان) ابن حرب بن أمية، والدته ميسون بنت بحدل الكلبي، وُلِد في مدينة دمشق سنة 25هـ عندما كان والده والياً على الشام من قِبَل الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، توفي لعشر ٍ خَلَت من ربيع الأول سنة أربع و ستين للهجرة. انظر ترجمته عند الذهبي في سير أعلام النبلاء - (4-ص35-40 ).
[4] - هو عبدالرحمن محمد بن الاشعث بن قيس الكندي. بعثه الحجاج على سجستان، فثار هناك، وأقبل في جمع كبير، وقام معه علماء وصلحاء لله تعالى لما انتهك الحجاج من إماتة وقت الصلاة، ولجوره وجبروته.فقاتله الحجاج، وجرى بينهما عدة مصافات، وقتل سنة 84هـ .انظر ترجمته عند الذهبي في سير أعلام النبلاء - (4 / 183)
[5] - عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي.
[6] - هو يزيد بن المهلب ابن أبي صفرة: لما استخلف يزيد بن عبدالملك بن مروان غلب على البصرة، وتسمى بالقحطاني، فسار لحربه مسلمة بن عبدالملك، فالتقوا، فقتل يزيد في صفر سنة اثنتين ومئة ) انظر الذهبي : سير أعلام النبلاء - (4 /503- 506)
[7] - يزيد بن عبدالملك بن مروان .
[8] - هو أبو مسلم الخراساني : اسمه عبدالرحمن بن مسلم، ويقال: عبدالرحمن بن عثمان بن يسار الخراساني، الامير، صاحب الدعوة، وهازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية. سير أعلام النبلاء - (6 / 4
[9] - هو أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين .
[10] هو عم الخليفة أبو جعفر المنصور، ادعى أنه ولي العهد بعد وفاة الخليفة أبو العباس السفاح، وخرج على الخليفة أبو جعفر المنصور، وقد أرسل المنصور أبا مسلم الخراساني للقضاء عليه ، فهزمه وشتت شمله، وما لبث أن خرج هو الآخر على أبو جعفر المنصور ( ينظر : سير أعلام النبلاء - (6 / 60-62).
[11] -قاله الشاعر :الأحَيْمِرُ السَّعْدِيُّ ، وتكملته :
رَأى اللهُ أنِّي للأنِيْسِ لشَانِئٌ وتُبْغِضُهُم لي مُقْلَةٌ وضَمِيْرُ
[12] - هو طلق بن حبيب العنزي : بصري زاهد كبير ، من العلماء العاملين ، حدث عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك ، وكان طيب الصوت بالقرآن ، براً بوالديه ، قال حماد بن زيد عن أيوب قال : مارأيت أحداً أعبد من طلق بن حبيب ، وقال طاووس : مارأيت أحدا أحسن صوتا منه ، وكان ممن يخشى الله تعالى ، وقال ابن حجر : صدوق عابد رُمي بالإرجاء [ ينظر : طبقات ابن سعد : 7/ 227 ، الحلية : 3/63 ، الميزان : 2/ 345 ، السير : 4/ 601 ، البداية والنهاية : 9/ 101 ، تهذيب التهذيب : 5/ 31 ، التقريب : 283 ]
[13]ـ أخرجه : نعيم بن حماد في " زياداته على الزهد " لعبد الله بن المبارك ( 79 ) ، وابن أبي الدنيا كما في " الدر المنثور " 1/58 . انظر جامع العلوم : 1/ 400 بتحقيق الدكتور ماهر الفحل.
[14] -أخرجه البخاري في الجامع الصحيح 2505 .
[15] -أخرجه البخاري كما سبق آنفاً في الجامع الصحيح 2505 .
تعليق