بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد:
فإن علم التاريخ وسير الأفراد من العلوم التي يُحتاج إليها، إذ به يعرف الخلف أحوال السلف وبه يُعرف الوفاء ومحاسن الأخلاق.
قال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل عليه السلام: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) الشعراء(84).
قال الإمام السعدي رحمه الله في تفسيره : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } أي: اجعل لي ثناء صدق، مستمر إلى آخر الدهر. فاستجاب الله دعاءه، فوهب له من العلم والحكم، ما كان به من أفضل المرسلين، وألحقه بإخوانه المرسلين، وجعله محبوباً مقبولاً معظماً مثنًى عليه، في جميع الملل، في كل الأوقات" تيسير الكريم الرحمن - ص 593- طبعة الرسالة )
وقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) الصافات (7.
قال الإمام السعدي رحمه الله في تفسيره : " وجعل له ثناء حسناً مستمراً إلى وقت الآخرين، وذلك لأنه محسن في عبادة الخالق، محسن إلى الخلق، وهذه سنته تعالى في المحسنين، أن ينشر لهم من الثناء على حسب إحسانهم"
تيسير الكريم الرحمن (ص 705).
ولا شك أن فن التراجم وسير الأفراد من أفضل الفنون التي تحفظ أنساب الأفراد من أن تنساب، قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ) [الزخرف : 44 ]
وقال تعالى (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) [الشرح : 4].
ورحم الله الإمام الصفدي حين قال : "والتاريخ للزمان مرآة، وتراجم العالم للمشاركة في المشاهدة مرقاة، وأخبار الماضين لم عاقر الهموم ملهاة.
وما أحسن قول الأرجاني ( هو ناصر الدين أبا بكر أحمد بن الحسين –ت544هـ:
إذا عرف الإنسان أخبار من مضى ... توهمته قد عاش في أول الدهر
وتحسبه قد عاش آخر دهره ... إلى الحشر إن أبقى الجميل من الذكر
فقد عاش كل الدهر من كان عالما ... كريماً حليماً فاغتم أطول العمر
وربما أفاد التاريخ حزماً وعزماً، وموعظة وعلماً، وهمة تذهب هماً، وبياناً يزيل وهناً ووهماً، وجيلاً تثار للأعادي من مكامن المكايد، وسبلاً لا تعرج بالأماني إلى أن تقع من المصائب في مصايد، وصبراً يبعثه التأسي بمن مضى، واحتساباً يوجب الرضا بما مر وحلا من القضا، "وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود : 120]"، فكم تشبث من وقف على التواريخ بإذيال معال تنوعت أجناسها، وتشبه بمن أخلده خموله إلى الأرض وأصعده سعده إلى السهى، لأنه أخذ التجارب مجاناً من أنفق فيها عمره، وتجلت له العبر في مرآة عقله فلم تطفح لها من قلبه جمرة، ولم تسفح لها في خده عبرة، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف : 111] ( [1]).
ولقد أدرك العقلاء والفضلاء أهمية علم التراجم وسير الأفراد لأن ذكر رجالات الأمم والبلدان" فيه إحياء الأولين والآخرين من علمائها ...، فإن ذكرها حياة جديدة ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً " ( [2]).
قال أبوعلي الحسن بن أحمد القرشي الحنبلي البغدادي المعروف بابن البناء ( ت 471هـ ) : هل ذكرني الخطيب البغدادي في تاريخه في الثقات أو مع الكذابين؟ فقيل له : ما ذكرك أصلاً ، فقال : يا ليته ذكرني ولو مع الكذابين " ([3] ).
وقال السخاوي: " ونحوه قول بعضهم ممن توهم اقتصاري على تراجم الأموات: ليتني أموت في حياة السخاوي حتى يترجمني " ([4] ).
ومن فوائد التراجم حسن الاقتداء بمن سلف.
قال الحافظ ابن الجوزي : " واعلم أن في ذكر السير والتواريخ فوائد كثيرة أهمها فائدتان، احدهما أنه إذا ذكرت سيرة حازم ووصفت عاقبة حاله، أفادت حسن التدبير واستعمال الحزم، أو إن ذكر ت سيرة مفرط ووصفت عاقبته أفادت الخوف من التفريط، فيتأدب المتسلط ويعتبر المتذكر ويتضمن ذلك شحذ صوارم المعقول، ويكون روضة للمتنزه في المنقول " ( [5]) .
وقال أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن خميس في مقدمة "تاريخ مالقة " : إن أحسن ما يجب أن يعتنى به، ويلم بجانبه بعد الكتاب والسنة معرفة الأخبار، وتقييد المناقب والآثار، ففيها تذكرة بتقلب الدهر بابنائه، وإعلام بما طرأ في سالف الأزمان من عجائبه وأنبائه، وتنبيه على أهل العلم الذين يجب أن تتبع آثارهم، وتدون مناقبهم وأخبارهم، ليكونوا كأنهم ماثلون بين يديك مع الرجال ومتصرفون ومخاطبون لك في كل حال، ومعروفون بما هم به، متصفون فيتلو سورهم من لم يعاين صورهم، ويشاهد محاسنهم من لم يعطه السن أن يعاينهم، فيعرف بذلك مراتبهم ومناصبهم، ...، ويتحقق من كسته الآداب حُليها، وأرضعته الرياسة ثديها، فيجد في الطلب ليلحق بهم ويتمسك بسببهم " ( [6]) .
وقال عبد الحي اللكنوي في مقدمة كتابه الفوائد البهية في تراجم الحنفية بعد كلام في فائدة التاريخ ما نصه:" وأجلها فن تراجم الكبار وأخبار الأخيار ففيه غير ما مضى فوائد جمة ومنافع مهمة: منها الإطلاع على مناقبهم وأوصافهم ونباهتهم وجلالتهم ليحصل التأدب بآدابهم والتخلق بأخلاقهم فيحشر في زمرتهم ويدخل فيهم و إن لم يكن منهم ومنها الإطلاع على مراتبهم ومدارجهم فيؤمن به من تنزيل أعلى الرتبة إلى الأدنى وتعريج أدنى الرتبة إلى الأعلى واختيار قول أدناهم على أعلاهم عند تعارض أقوالهم وإفاداتهم.
ومنها الإطلاع على مواليدهم وأعصارهم ووفياتهم وأزمانهم فيحصل الأمن من جعل القديم حديثا والحديث قديما والمتقدم متأخرا والمتأخر متقدما. ومنها الإطلاع على آثارهم وحكاياتهم ، ...،وتصنيفاتهم فيتحرك عرق الشوق إلى الاهتداء بهديهم والإقتداء بسيرهم".
وتنبع أهمية كتب التراجم أيضاً أن المؤرخين عامة ومؤرخي تاريخ العلوم خاصة استطاعوا من خلالها الكتابة عن إنجازات الحضارة الإسلامية في الميادين المختلفة الاجتماعية والادارية والفكرية والنظم السياسية وكذلك العلوم النقلية والعقلية عند المسلمين عبر القرون المتتابعة، وهذا يدعونا إلى الرد على آراء بعض المستشرقين ومن تابعهم من الباحثين المسلمين بأن دور المسلمين كان مقتصراً على مجالات السياسة والحروب، فإذا كانت كتب التاريخ الحولي تؤكد على الأحداث السياسية والعسكرية أكثر من الإنجازات الأخرى فإن في كتب التراجم على اختلاف أنواعها كم هائل من الأخبار والمعلومات عن أنجازات المسلمين العلمية والحضارية ([7]) .
ويقسم بعض الباحثين كتب التراجم إلى أقسام عدة أهمها:
1- التراجم على الطبقات.
2- التراجم على الحروف.
3- التراجم على الوفيات.
4- التراجم على القرون.
5- التراجم على البلدان.
· وفي هذا المقال سنتبع إن شاء الله تعالى تقسيماً آخر مفيداً لطالب العلم، لتداخل كتب التراجم السابقة الذكر مع بعضها البعض، مع الكلام عن منهج بعضها بشيء من التفصيل.
وأجل التراجم تراجم الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ورحمهم الله:
ومن أهم الكتب التي تناولت تراجمهم:
1- الطبقات . لأبي عمرو خليفة بن خياط . شباب العصفوري (240هـ) .
2- الطبقات الكبير (الكبرى) لابن سعد - محمد بن سعد بن منيع (230هـ) .
3- الاستيعاب في أسماء أصحاب- لابن عبد البر - يوسف بن عبد الله بن محمد (463هـ)
4- أسد الغابة في معرفة الصحابة . لعز الدين بن الأثير - علي ابن محمد بن عبد الكريم (ت 630هـ) .
5- الإصابة في تمييز الصحابة . لابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن محمد (852هـ).
وفي الجزء الثاني من المقال نتحدث عن كتابي الطبقات الكبير (الكبرى) لابن سعد ، والإصابة في تمييز الصحابة . لابن حجر العسقلاني، بشيء من التفصيل.
نسأل الله الإعانة والسداد.
[1] - الوافي بالوفيات، ج1، ص4-5.
[2] - السخاوي، الإعلان بالتوبيخ، ص 41-42.
[3] - الإعلان بالتوبيخ، ص 33.
[4] - الإعلان بالتوبيخ، ص 33.
[5] - المنتظم،ج1، ص117.
[6] - الإعلان بالتوبيخ، ص 49-50.
[7] - فاروق فوزي، التدوين التاريخي عند المسلمين، ص 163.
تعليق